قضايا

جذور الحداثة الغربية (1)

الحداثة كلمة شغلت الناس وملأت الدنيا عبر زمن طويل. أبتدأت تتضح ملامح الحداثة منذ القرن السادس عشر الميلادي، أقول ملامحها ولا أقول جذورها، لأن جذورها تمتد الى زمن أطول من ذلك بكثير والذي سنتطرق لها في هذا البحث.

الحداثة أو العصرنة مصطلح يعني التجديد والتحديث لما هو قديم، وهو بالحقيقة رؤية جديدة لعالم جديد على أعقاب عالم قديم. هو أداة معرفية تعمل على تغير شامل للحياة، وتغطي كل المستويات والأبعاد الحياتية. فهي حداثة علم، وسياسة، وأقتصاد، وفن، ودين، أنه أنقلاب في طريقة الحياة والتفكير والرؤى. أن الحداثة جاءت كرد فعل قام به الأوربيون أزاء ما مر بهم من أنحطاط فكري وأجتماعي وعلمي وثقافي، وحتى ديني، هذا الأنحطاط أُطلق عليه ما يُسمى بالفترة المظلمة (العصور الوسطى). موضوعنا لا يتناول شرح الحداثة والخوض بتفاصيلها ومدارسها، فهذا ليس هو الهدف من كتابة الموضوع، فهناك دراسات كثيرة جداً يمكن للقاريء الركون أليها والسير في دروبها، ولكن يمكنني الأشارة الى ما أختصره من معنى جامع مانع لها الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط عبر عنها باختصار شديد بالأنوار، وهي (الأنوار أن يخرج الأنسان من حالة الوصاية التي تتمثل في أستخدام فكره، دون توجيه من غيره.. بمعنى أن العقل يجب أن يتحرر من سلطة المقدس ورجال الكهنوت والكنيسة وأصنام العقل)، أي العقل المتحرر من كل شيء، وهو الحاكم على كل شيء.

مفهوم الحداثة كغيرة من المفاهيم له بواكير ومقدمات ساهمت بظهوره والتي شخصها الباحثون من القرن السادس عشر الميلادي أمتداداً الى خمسينات القرن العشرين، لأن ما بعد الخمسينات ظهر لنا مفهوم أنقلابي على الحداثة نفسها، وقد سُمي بما بعد الحداثة.

أن عصر الحداثة من أكثر العصور التي مرت بأوربا تميزاً، وذلك لما أحدثه فيها من تغير وأنقلاب في كل جوانب حياتها. هذا التميز هو من أفرد للحداثة عصراً يندرج ضمن العصور التي مرت بها أوربا عبر تاريخها، وهنا من الضروي التطرق الى تقسيم الأوربيون لتاريخهم الى:

1-العصر اليوناني والروماني القديم، والذي يمتد ما بين القرن الخامس قبل الميلاد الى القرن الرابع –الخامس بعد الميلاد.

2-العصور الوسطى، وهو العصر الذي يمتد مابين القرن الخامس بعد الميلاد الى القرن الخامس عشر الميلادي.

3-عصر الحداثة، وهو العصر الذي يمتد من القرن السادس عشر الميلادي الى منتصف القرن العشرين.

ولشيء من التوضيح للقاريء الكريم خاصة لمن لم يكن لديه أطلاع سابق لمفهوم الحداثة، نوجز هنا بعض السمات الرئيسية للحداثة ليكون القاريء على بينه من طبيعة الفكر الحداثي ومعرفة أنعكاساته على أوربا وكل من يتبناه من الشعوب الأخرى، وهذه السمات تتلخص بالأتي؛

1- المادية: وهو أن عالمنا هو عالم مادي محض، ولا يوجد لغير المادة، والتي تحكمها قوانين ثابتة يمكن التعرف عليها.

2- الحرية (الديمقراطية): وهي تتلخص بحرية الأنسان فيما يعتقد، ولا مكان للسلطة الأقطاعية والحكومية والدينية على الفرد فيما يعتقد ويتخذ من سلوك في حياته الخاصة، وأن الحكم ينشأ من أرادة الناس.

3- العلمانية: وهو مبدأ أو منهج فكري يقوم على فصل الحكومة ومؤسساتها والسلطة السياسية عن السلطة الدينية، وبعبارة أخرى أنه منهج فكري يرى التفاعل البشري مع الحياة يجب أن يقوم على أساس دنيوي لا روحاني.

5-الأنسانوية: وهو أعتقاد بالأنسان أنه محور هذا الوجود، والأيمان بقدراته، وهو القيمة العليا في هذا الوجود، وهو المعيار الوحيد لكل شيء.

من الضروري والمفيد الأشارة الى الأسباب والمقدمات التي مهدت لولادة الحداثة الأوربية : لاشك ولا ريب أن السلوك الكنسي البغيض، وما لعبته الكنيسة من دور تلاعبت فيه بمقدرات الشعوب الأوربية، وما أثارته من حروب راح ضحيتها الآلاف المؤلفة من البشر لأسباب واهية، وما قامت فيه الكنيسة من سيطرة وأستغلال للحياة الأقتصادية لهذه الشعوب بالتحالف مع الأقطاع، وما قامت من دور في أسناد السلطات الحاكمة المتمثلة بأباطرة الدول الأوربية المشهورين بالظلم والأستبداد لشعوبهم. كذلك هناك عامل لا يقل أهمية عن الأسباب المذكورة، الا وهو محاربتها للعلم والعلماء، وذلك من خلال أقامة محاكم تفتيش لهم وأصدار أحكام على بعضهم بالأعدام، لا لسبب الا لأنهم جاءوا بنظريات علمية لا تقرها الكنيسة، وما محاكمة العلامة الأيطالي غاليلوا بالأعدام، ألا لأنه قال بكروية الأرض، وهذه نظرية لا تتفق مع ما تذهب اليه الكنيسة بأن الأرض مسطحة. كما أن علماء ومفكري وأحرار أوربا ضاقوا ذرعاً من خزعبلات الكنيسة وآراءها التي تتعارض مع العقل، وما بيع صكوك الغفران الا واحدة منها،كما أن فساد رجال الكنيسة على الصعيد المالي والأخلاقي ما أزكم الأنوف وأشمئزت منها النفوس. كل ما ذكرناه أعلاه والتي لم تعد تمثل كل الأسباب ولكن من أكثرها شهرة، ساهمت وبشكل أساس في جعل الكثير من مثقفي وعلماء ومفكري أوربا تقطع الصلة مع الكنيسة، وأستبدال معاييرها التي فرضتها لمئات من السنين، أدخلت خلالها أوربا في عصر الظلمات والتي أطلق عليها الأوربيون بالعصور الوسطى، عصرالقمع والتجهيل، مولين وجوههم صوب العلم والعقلنة والحرية، وقد دعوا الى أبعاد اللاهوت المسيحي واليهودي عن شؤون حياتهم و والأتجاه صوب النزعة الأنسانوية، وهنا لابد من الأشارة الى أهم هؤلاء المفكرين الحداثويين، الذين قادوا هذا الأنقلاب الفكري، وخاصة الأوائل منهم، الذين مهدوا لها، وساهموا بأقامة صرحها :

مارتن لوثر (1483-1546م) كان من أوائل من رفع راية الأصلاح الديني، ونيكولاي ميكيافيلي (1469-1527م) كمنظر سياسي أعتمد على فكرة الفردانية، وكوبرنيكوس (1473-1543م) كعالم فلكي وطبيعي الذي أنهى فكرة مركزية الأرض التي تعتمدها الكنيسة، وقال بمركزية الشمس بدل ذلك، ويعتبر هذا تحدي خطير أتجاه الكنيسة وتعاليمها التي كان لا أحد يجرأ على معارضتها، وهناك الكثير كذلك من أمثال الفنان والعالم الموسوعي ليوناردو دافنشي (1452-1519م) وفرنسيس بيكون (1561-1626م) والفيلسوف الفرنسي رينية ديكارت (1596-1650م)، وهو من كبار المساهمين بالحداثة الفلسفية، ومن رواد الحداثة أيضاً لايبنتز (1646-1716م) الذي أسس لمبدأ العقلانية، وهو صاحب مقولة (بأن لكل شيء سبب معقول) بالأضافة الى أساطين الحداثة من أمثال باروخ سبينوزا الهولندي (1632-1677م) وجون لوك الأنكليزي (1632-1704م)، وهناك في الجانب الحداثي القانوني المفكر الفرنسي مونتسيكيو (1689-1755م)، صاحب كتاب (روح القوانين)، وهو من أهم الكتب التي ساهمت في بناء الفكر الحداثي في مسألة الحقوق ومناهضة الحكم المطلق، كما لايمكن نسيان الفيلسوف الساخر فرانسوا فولتير (1694-1778م) عبر نضاله ضد النظام الكنسي والأنظمة الملكية المستبدة، أما جان جاك روسو السويسري (1712-1778م)، مؤلف كتاب (العقد الأجتماعي)، فهو رائد الحداثة الأوربية، وصاحب النظريات التربوية والأخلاقية،كما أن المفكرين والفلاسفة الألمان أبلو بلاء حسن في مساهماتهم الحداثية ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، عمانوئيل كانط (1724-1804م) وفردريك هيجل (1770-1831م)، ونيتشة (1844-1900م) وفيورباخ (1804-1872م) وماركس (1818-1883م).

هذه مقدمة ضرورية وأن كانت مقتضبة عن الحداثة، والتي سنتطرق الى جذورها الأولى في الحلقة القادمة، ونتتبع مسارها الفكري منذ عصر السرديات الأسطورية الأغريقية والرومانية الى منظريها المتأخرين. يتبع...

***

أياد الزهيري

 

 

في المثقف اليوم