قضايا

معيار التفاضل بين العرب والعجم

خلق اللهُ الناسَ من طينة واحدة؛ فهم عائلة واحدة بالأصل، تكونت من الطينة الإنسانية الأصلية نفسها، وتتكلم بلغة واحدة، ولديها العادات والتقاليد نفسها، والصفات الجينية والوراثية نفسها: (كلكم من آدم، وآدم من تراب)، ثم تحولت العائلة الى عوائل، وأصبحت كل عائلة عشيرة، ثم قبيلة، ثم قوم، ثم عرق، وهو ما يُعبّر عنه انثروبولوجيّاً بالسلالات البشرية. وبات لكل قوم أو قومية لغة مختلفة، وصفات جينية وانثروبولوجية مختلفة، تميزه عن غيره من الأقوام.

هذه اللغات المختلفة والصفات التمييزية ليست معايير للتفاضل بين الأعراق والقوميات إطلاقاً، لأن الأقوام وجود تكويني، صنعه الله، وليس للإنسان أي دور في صناعة قوميته وصفاتها، أو انتمائه اليها. أما اللغة فهي صناعة بشرية، ولاقيمة لها سوى أنها أداة مشتركة للتواصل بين البشر. وبالتالي؛ لافضل للمتكلم بلغة معينة على غيره ممن يتكلم بلغة أخرى، ولافضل لمن ينتمي لقومية معينة لها صفات جينية تكوينية وتنشئة إنسانية مغايرة، على غيره ممن ينتمي لقومية أخرى.

صحيح؛ إن الله (تعالى) أكرم اللغة العربية بأن جعلها لغة خاتم الأنبياء ولغة خاتم الكتب السماوية، لكن هذا التكريم هو للغة حصراً، وليس لمن يتكلم بها أو يعيش في بيئتها الاجتماعية والقومية، وإلّا كان أبو لهب (عم النبي) وكفار قريش ومنافقي المدينة وأهل الردة، أفضل من بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وسائر المؤمنين من القوميات غير العربية، وكما قال رسول الله عن العصبية القومية الجاهلية: (ما بالُ دعوى الجاهلية؟... دَعُوها فإِنّها مُنْتِنَة)، أي أنها نتن وعفن.

وكلام الله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وكذا كلام نبيه الخاتم: (يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى)، ليس حجّةٌ على العرب فقط، بل هو حجة على جميع القوميات والأعراق، سامية كانت أو آرية، جرمانية أو فارسية، قوقازية أو سلافية، ومن لايترك هذه العصبية الجاهلية؛ فليس من أمة محمد، كما قال ذلك بلسانه: (ليس منّا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية).

ولايقتصر نهي القرآن والرسول وأئمة آل البيت، على الأعراق والقوميات فقط، بل ينطبق على القبائل والعشائر والأسر أيضاً، لأن كثيراً منها يعيش حالة العصبية الجاهلية؛ إذ يتناصر بعض أبنائها على الباطل، ويتعاونون على العدوان، حتى في زماننا هذا، الذي شاعت فيه وسائل التوعية؛ فحين سئل الرسول عن العصبية قال: (أن تعين قومك على الظلم).

هذه العصبية الجاهلية التي نهى عنها القرآن ورسول الله بشدة، أعادها آل أمية الى الحياة؛ فكانوا يحتقرون كل القوميات الأخرى التي فتح العرب بلدانها، سواء القوميات العراقية أو الإيرانية أو الأمازيغية أو التركية أو المصرية، وحوّلوا العرب من دعاة دينيين فاتحين، الى مقاتلين من أجل استعباد الشعوب الأخرى وازدرائها ومصادرة مقدراتها، وهو ما كان يرفضه أئمة آل البيت بشدة، بل استعان آل أمية ببعض الوضّاعين والرواة، لوضع أحاديث مكذوبة عن الرسول، لشرعنة ايديولوجيتهم القومية واستعبادهم الشعوب الأُخرى.

وبعد مضي قرون على ضعف العصبية القومية، بفعل الاندماج القومي الذي حصل في العصر العباسي، ثم في الدول الفاطمية والبويهية والأيوبية والسلجوقية والمملوكية والبويهية؛ عادت العصبية القومية بثوب جديد، متأثرة بالأفكار الأوربية القومية، وخاصة النازية والشوفينية التي دوّنها الفلاسفة الألمان، أمثال "يوهان فيخته" و"فان دن بروك" و"مارتن هايدغر" و"أوسفالد شبنغلر"، وتحولت من عصبية قومية جاهلية الى ايديولوجية وعقيدة جديدة أكثر خطورة من العصبية التي طبّقها آل أمية، إذ أن الايديولوجية القومية الجديدة تتعارض مع بديهيات التعاليم الإسلامية والفطرة الإنسانية، وكان أبطالها مفكرون وساسة علمانيون متغربون، أمثال الشاه رضا خان وأحمد كسروي وحكمي زاده في إيران، واتاتورك وضياء كوك الب ويوسف آقجورا في تركيا، وساطع الحصري وميشيل عفلق وجمال عبد الناصر في البلدان العربية.

وقد بذل هؤلاء المفكرون والساسة محاولات بائسة فاشلة للتنظير لقاعدة عدم تعارض ايديولوجياتهم القومية مع الإسلام، وسبب هذا الفشل هو أن الإسلام حسم هذا الموضوع حسماً نهائياً بعشرات النصوص والأدلة الدينية والإنسانية التي تؤكد عدم وجود أية أفضلية بين الأعراق والقوميات، وبأن نصرة المسلم لقومه على الباطل هو تعصب جاهلي يتعارض مع تعاليم الإسلام، وأن معيار الانحياز والوحدة والنصرة هو الدين وليس اللغة والقومية.

بيد أن الإسلام لم يتنكر لفطرة الإنسان في الاعتزاز بحسبه ونسبه، وفي محبة قومه وعشيرته، كما يقول الإمام السجاد: (ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم)، أي أن هذا الاعتزاز والحب ينبغي أن لايتحول الى عقيدة ودين وايديولوجيا، تعطي الحق للإنسان بأن يعد نفسه صاحب العرق الأفضل والقومية الأسمى والعشيرة الأهم، وأن يبني كياناً ايديولوجياً معياره الوحدة القومية وليس وحدة الدين. وبالتالي؛ فإن الإسلام وضع معياراً واضحاً للنصرة والانحياز، هو معيار الدين فقط، وليس الأحساب والأنساب.

***

د. علي المؤمن

في المثقف اليوم