قضايا

التنبؤ.. من منظور سيكولوجي

توطئة: طلب مني كثيرون تفسيرا سيكولوجيا لـ(ظاهرة) ميشال حايك وليلى عبد اللطيف، اللذين حظيا بشهرة اعلامية لصدق الكثير من تنبؤاتهم.. كما ذكروا لي.. وعن هذه الظاهرة تتحدث هذه المقالة.

ظاهرة التنبؤ.. تاريخيا

يعد ّالتنبؤ ظاهرة قديمة عند معظم الشعوب لاسيما اليونانيين والصينيين والمصريين. فعلى سبيل المثال، كان اله الشمس (رع) في مصر القديمة هو المصدر الرئيس للمعرفة بالمستقبل، وكان فيها معبد للتنبؤات في القرنين السادس والسابع قبل الميلاد. ويذكر أن المصريين اذا اعتزموا القيام بشيء ذهبوا لكهنة المعبد ليخبروهم عن طريق استشارة الاله (امون) بما سيحدث. ويروى ان الاسكندر الاكبر طلب من كهنة معبد امون النبوءة ما اذا كان سيحكم العالم، فاجابوه.. نعم ولكن لفترة قصيرة.

ولفخر الدين الرازي كتابات عن التنبؤ مبني على ما اسماه المزاج الخلقي وتأديب العقل ورياضة الشرع،  وأخرى في كتابات ابن القيم الجوزي عن الفراسة التي حصرها بدور التنبؤ في احكام القضاة، غير ان اغلب ما في تراثنا العربي يدخل في نطاق الفراسة وتفريعاتها.وللدين الأسلامي موقف من هذه الظاهرة، فهو يرى أن ادعاء علم المستقبل عن طريق التنجيم او التنبؤ بالمستقبل او غيره من الوسائل، امرا يحرمه الاسلام، ويسمون من يمارسه كاهنا، ويستندون الى قول النبي محمد (من اتى كاهنا فصدّقه بما يقول،  فقد كفر بما انزل على محمد). وهنالك كتاب بعنوان (التتنبؤ بالغيب) للدكتور توفيق الطويل يوضح فيه موقف المفكرين الاسلاميين، الذين يرون ان التنبؤ المبني على قراءة للواقع والأحداث كتوقع انخفاض سعر النفط او الذهب مثلا.. فأمر مشروع، واما ما كان من قبل التنجيم والكهانة والعرافة فأنه حرام.

والذي يتعمق بتاريخ التنبؤ يتوصل الى ن بداياته كانت ذات طبيعة ميتافيزيقية او اسطورية ، ثم تحولت الى مرحلة التخطيط المستقبلي او التخطيط الاستراتيجي، ثم اصبح (علم الدراسات المستقبلية) فرعا علميا اكاديميا في منتصف ستينيات الفرن الماضي. وقد عمدت الدول الكبرى الى استثمار قدرات المتنبئين في مؤسساتها الاستخبارية والأمنية.

اشهر متنبئين

ويعد نوستراداموس (ت 1566) الصيدلي والطبيب الفرنسي، اشهر متنبيء في العالم وله ثلاث نبؤات: توقع وصول هتلر الى السلطة في عام 1933، وحريق لندن العظيم عام 1666، واغتيال الرئيس جون كينيدي عام 1963. ويعتقد كثيرون انه تنبأ بتفشي وباء الفيروس التاجي في عام 2020، بل ذهب آخرون الى القول بان نوستراداموس اشار اشارة مباشرة الى الرئيس الامريكي دونالد ترامب بقوله في احدى رباعياته (ان البوق الكاذب الذي يخفي الجنون، سوف يتسبب في تغيير بيزنطة لقوانينها).ومعروف عنه انه كان يضّمن تنبؤاته في رباعيات.. فيما يرى مفكرون انه يتم استغلال كتابات نوستراداموس بعدد من الطرق الخاطئة، وفك الرموز غير الموجودة داخل رباعياته بتفسيرات (ابداعية).

ومن المفارقات ان امراة عمياء اسمها (بابا فانجا.. ولدت عام 1911) ولقبت (نوستراداموس البلقان) كانت اشهر المتنبئين بالمستقبل. فقد ادهشت الجميع بأنها تنبات باحداث 11 سبتمبر في قولها بالنص :(رعب، رعب !.. التوامان الامريكييان سيسقطان بعد هجوم من طيور حديدية. الذئاب ستعوي بين الحشائش وستتدفق الدماء البريئة!). وتنبات هذه السيدة البلغارية العمياء بان الرئيس الامريكي الرابع والاربعين سيكون من اصل افريقي.. وقد تحققت!

وهناك نبؤتان لها نرجو ان لا تتحققا.. الاولى، اقامة دولة الخلافة الاسلامية في اوروبا في العام 2043 ومقر حكمها في روما، والثانية.. ان العالم سينتهي في العام 5079 !.

سيكولوجيا التنبؤ

هنالك تفسيران لقدرة بعض الأفراد على التنبؤ:

الأول بيولوجي، يرى ان في دماغ كل انسان ساعة بايولوجية تتنبأ بالمستقبل القريب وكثيرا ما تصدق بما يحصل قريبا، ما يعني انك وانا قادران على التنبؤ ولكن بقدر محدود لكون التكوين البيولوجي لساعتنا هذه يكون عاديا، فيما هي عند الذين يتمتعون بالقدرة على التنبؤ تكون متطورة بما يجعلها قادرةعلى التنبؤ بما يحصل في زمن ابعد، فضلا عن ان علماء الفسلجة يقولون بوجود ساعة بيولوجية ثانية عند هؤلاء تعتمد على تجارب الماضي للتنبؤ بما سيحدث في وقائع متشابهة.

وسيكولوجيا.. يعد الباراسيكولوجي اكثر فروع علم النفس اهتماما بهذه الظاهرة، وتشير دراساته الى ان لدى كل شخص ملكة تسمى (الحاسة السادسة) تمتلك القدرة على استشعار الأحداث عن بعد بعيدا عن الحواس الخمسة، وتتضمن ايضا استقبال المعلومات من المشاعر التي يستقبلها العقل بعيدا عن الحواس التقليدية، ويمكن من خلالها التنبؤ بأحداث المستقبل. وهذه الحاسة (السادسة).. موجودة ايضا عندي وعندك، لكنها عند الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على التنبؤ تكون متطورة.. وقد لفتت هذه الظاهرة انتباه المسؤولين في روسيا قبل اكثر من مئة سنة واستقطبت من يتمتع بها لأعداد البحوث النفسية الخارقة وحققت نجاحا ملحوظا في مجال التنبؤ بالمستقبل.

ومع ان هذه الظاهرة قديمة جدا لاسيما في اليونان والصين ومصر، فانها ما تزال يكتنفها الغموض، ولا يوجد لها جواب حاسم.. علميا كان ام سيكولوجيا.

ومن جانبنا نرى ان الذين يتمتعون بالقدرة على التنبؤ، وتصدق نبؤاتهم بنسبة تزيد على ستين بالمئة، (ولا احد منهم تصدق نبؤاته مئة بالمئة)، تكون المراكز الخاصة بالذكاء والذاكرة والانفعالات لديهم متطورة. وانهم ينفردون عن الآخرين بفضول معرفي وحب للشهرة وشغف سيكولوجي. فهم حين يريدون التنبؤ بحدث معين فانهم يجمعون عنه المعلومات من مصادر مختلفة ويقومون بربط التشابهات فيما يبدو للآخرين مختلفا، وربط الأختلافات فيما يبدو للآخرين متشابها.. وقد يكون بعضهم قد قرأ نظرية الاحتمالات مكنته من استخدام قوانين الأحتمالات في الرياضيات بقيمة عددية تحدد احتمال وقوع حدث او عدم وقوعه.. وحين ينجح المتنبيء في ان يجعل من نفسه شخصية كارزمية.. عندها سيغفر له متابعوه ان اخطأ ويعظموه ان أصاب.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

في المثقف اليوم