قضايا

اوهام الفكر الديني القراءة الممكنة والمتعذرة

للقراءة دلالتان: خارجية وداخلية،اذ تدل الاولى على مجرد التلفظ واخراج الوحدات الصوتية عبر جهاز النطق وبحسب الانظمة اللغوية : صوتية، وصرفية، ونحوية، ودلالية، وتدل الثانية على الفهم، لتعني تجاوز التلفظ الى التفسير والتأويل، وهذا يعني ان هناك ثلاثة عناصر أساسية تكون القراءة: القارئ والمقروء وناتج القراءة .

ان العلاقة بين القارئ والمقروء ليست سلبية في كل الاحوال بحيث يتحول القارئ او المقروء الى مجرد طرف فاعل، ويتحول مقابله الى طرف منفعل، اذ يؤثر كل منهما في الاخر، ويتفاوت التغاير لدرجة يؤثر بناتج

القراءة . ولذالك فليست هناك قراءة خاطئة وانما هناك قراءة ممكنة وقراءة متعذرة، الامر الذي يجعل تعدد القراءات وتباينها أمرا محمودا ومستحبا، غير اننا نلتقي بقراءة ( متعذرة ) تجعل ناتج القراءة الغاية والمعيار، بحيث تلغي القراءات المختلفة، وتجعل ذاتها البديل .

ويتجلى ذلك في ما نطلق عليه الدين والفكر الديني، اذ يقع الكثير في وهم يخلط بين الدين بوصفه يمثل الثابت والفكر الديني بوصفه يمثل المتغير، بمعنى ان كليهما يمثل حقيقة لها استقلالها وخصائصها، على الرغم من ان الفكر الديني يعتمد على الدين ويتأسس في ضوئه، ويقترن به أقتران المعلول بعلته الثابتة .

ان الدين هو القرآن الكريم وما صح من السنة النبوية، ويمثل الثبات، في حين يمثل الفكر الديني أحد قراءات الدين وتتأثر هذه القراءة بالضرورة بالمنهج الذي تصدر عنه وآليات التحليل التي يستخدمها والعصر الذي ولدت فية، وفي هذه الحالة تتعدد القراءات وتختلف ولكنها لاتخرج عن الاصول والثوابت التي أقرها الدين وحددتها الشريعة، ولذلك يصح ان نقول ان هناك قراءة أشعرية وقراءة معتزلية وقراءة شيعية ..وهكذا ..

ان هذه القراءات المتعددة هي قراءات ممكنة وكل واحدة منها لاتلغي الاخرى او تنفيها او تهمشها ولكنها منحازة للاصول والثوابت التي تصدر عنها، بحيث تؤكد مقولة الامام

الشافعي : رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيي غيري خطأ يحتمل الصواب، وهذا يعني ان الفكر الديني ليس هو الدين، وليس هو البديل عن الدين وأنما هو أحد القراءات .

ونلتقي في هذا السياق ببعض التصورات المتطرفة التي تجعل القراءة الخاصة وهي جزء من الفكر الديني بديلا عن الدين ومن ثم فأنها تسقط أصول القراءة على الدين فتصبغه بطابعها، وتجعل القراءة هي الدين وبذلك تهمش وتنفي وتلغي وتكفر كل قراءة أخرى، وهذا يعني ان من يجعل الفكر الديني متقدما على الدين او بديلا عنه انما يقوم بقراءة متعذرة للدين وفهم متخلف عن الواقع .

وتمثل بعض فرق الخوارج أبرز الامثلة على ذلك من تراثنا وتاريخنا لانها قرأت الدين والواقع قراءة متعذرة فكفرت المجتمع المسلم كله، وجعلت فكرها الديني بديلا عن الدين، الامر الذي دفعها الى التطرف في استخدام العنف ساعية الى اجتثاث مخالفيها من المسلمين فكريآ وجسديآ، ولكن حركة التاريخ تجاوزت هذه الممارسات فأصبحت مجرد حدث تأريخي محض يدرسه المتخصصون ويستفيد من عبرته الباحثون والناس جميعآ.

وتبرز اليوم بؤر مماثلة تعتمد تصورات اصولية و وتجعل فكرها الديني متقدما على الدين نفسه، وتعتمد فقها خاطئا يكفر المجتمع المسلم كله، وتمنح نفسها حق امتلاك المعرفة واحتكار الحقيقة، ثم تعمد بعد ذلك الى استخدام ادوات العنف ضد مجتمعات تدين بالولاء للدين والعقيدة .

ان حركة التاريخ وقوانينة اثبتت بما لايدع مجالا للشك ان حركة بعض فرق الخوارج كانت مجرد فقاعة في تأريخ المسلمين، ثم آلت الى الزوال، والامر نفسه يصدق على كل حركة تعاند صيرورة التاريخ، لآن مصيرها سيكون حتما الى الزوال ..ولو بعد حين ..

***

أ. د. كريم الوائلي

في المثقف اليوم