قضايا

أنْ تقُول "لا"

مع رسُوخ ثقافة السمع والطاعة داخل بيئاتنا العربية، " تقف أدةُ الرفض" لا " كنبْتٍ شيطانيٍّ وسط حقول من الإجابات بنعم ". وفي الحقيقة، ليست الإجابات حقولّاً من الأزهار، بل حقولاً من الألغام التي تنفجر في وجه من يختلف. لأنَّ كل إجابةٍ بنعم وراءها محرمات ثقافية تواصل الإلحاح والتنكُّر عبر أزياء خادعة. فلا يستطيع المتلقي أنْ يتجاوزها وإلاَّ سيكون هناك نوع من العقاب الرمزي الذي يُنزله المجتمع بالمخالفين.

وهي ألغام خطيرة نتيجة الوقوف أمام مركزية التقاليد وخشونة السلطة وتيار الحياة الجارف. ألغام في التعليم والتفكير والتسييس والظواهر الاجتماعية وأشكال التدين المختلفة. مثل لغم التعليم القائم على الحفظ والتلقين، ومثل لغم التسييس الذي يستبعد التنوع ويقصر الممارسة على مؤيديه، ومثل لغم جُمود التدين ونضوب المعاني الروحانية التي تنتهي بالعنف والتطرف، ومثل لغم الدوران في فلك سلطة المجتمع وتقاليده شئت أم أبيت.

كل ذلك يظهر إزاء من يعترض على إيقاع الثقافة والحياة الجارية، حيث الاشمئزاز من صاحب" لا " وإقصاءه بعيداً خارج السرب طالما يرفض ما هو سائد. فمَنْ عساه أنْ يَرُد بـ" لا " على أسئلةِ الناس، سيعتبر شيطاناً رجيماً. أسئلة تدفع الإنسان لأنْ يقبل مواقف واختيارات الآخرين له دون نقاشٍ. بحيث لا يرضى هؤلاء عنك إلاَّ أنْ تكون تابعاً وخانعاً بمسميات شتى!!

وحتى إذا لم يكن الشخصُ الرافضُ شيطاناً بفعل المواقف المتداولة، فسيكون كذلك منبوذاً نتيجة طبيعة الثقافة العامة. فلا تتوقف تلك الثقافة عند حدود استقلال الأفراد، بل تتدخل في تشكيل وجودهم وكيانهم بالتبعية. نحن- في مجتمعاتنا العربية- نبتلع " أفكار نعم" و" آليات القبول " و" أساليب الموافقة " منذ المهد إلى اللحد. حتى شاعَ القولُّ بأنَّ هناك اتفاقاً تاماً حول الأمور الاجتماعية والسياسية التي هي موضع خلافٍ بالضرورة.

وفي شتى التجارب، لا نستطيع أنْ نختلف بشكل ثري وقابل لترسيخ قيم الحوار والنقاش والتساؤل. الأطفال يولدون وتحت ألسنتهم عبارات " نعم " طوال الوقت، بل وتشكل مخزوناً ثقافياً لا ينضب. والمرأة تتزوج، وفي أذنيها - مع الحلي والذهب - كمٌ فائض من نصائح الطاعة والاستسلام والمحرمات الاجتماعية. والرعية تستقبل طائعة كل حكامها ويبنى فوقها سقف القبول المسبق على امتداد البصر. وعبارات النصائح يلوكوها الناس مثل العلكة، ولكنها تظل مؤثرةً وحاسمةً في أغلب الحوارات والقضايا. والأشخاص الناضجون يواصلون مسيرة الـ" نعم" في المواقع التي يشغلونها تطبيقاً لإملاءات الثقافة. كيف سيرفض الإنسان أمراً وهو مكبل بقيود لا حدود لها؟! كيف سيدرك من يقول " لا " أنّه محاط بمتون من الـ" نعم" التي لا تنتهي؟ كيف سيعبر الإنسان بـ" لا " فكرياً وهو مشبع منذ صغره بالقبول فقط؟

تاريخياً، درجت الذهنية العربية على ألَّا تسمع الإجابةَ بـ " لا ". لأن الإجابة بنعم تزاحم أمورنا الحياتية والسياسية والفكرية حتى غدت قاعدةً لا استثناء لها. ويتوقع الفردُ هذه الـ" نعم" طالما يردد " الأقوال المستأنسة " بين أفكار الأفراد والجماعات. إنَّ الموافقة على الأحوال السائدة في كل العصور كانت هي الرافعة العامة لأنظمة السياسة مهما كانت طبيعتها. وسواء أكانت أنظمة مستبدةً أو غيرها، فهي تعيش على الغلبة والإخضاع. وتلك الفكرة هي لب الممارسات وتعطي للناس نموذجاً للقبول مهما تكن المشكلات والتناقضات في الواقع.

القول بـ" لا " سيُشعِر المتلقي بانتفاء أية جوانب حميمية على ما جرت العادة، وكأنَّ الرفض عملية عاطفية لا منطقية. وكأنه أيضاً خرق غير محمود العواقب دوماً بينما هو شيء طبيعي تماماً.  ولذلك لا يوجد في قاموس الأذن العربية المعرفي ولا الفلسفي كلمات الرفض منطقياً. أنْ ترفض يعني أنك ستكون هدفاً لحنق المحيطين طوال الخط. رغم أن الرفض في هذه الحالة أو تلك قد يكون رفضاً مبرراً، وقد يكون نوعاً من إحتجاجنا الإنساني على التجاوز.

إنَّ الرفض موقف مبدئي ينمُ عن فهم وقدرة على السير في اتجاهٍ آخر. إنه إمكانيه يراها صاحب الرفض تحقيقاً لذاته، وفوق هذا وذاك تجعله إمكانية الرفض معبراً عن وجوده الحُر الذي لا يجب أنْ ينازعه فيه أحدٌ. الرفض هو الوجود لحظة أنْ يشعر الكائن الإنساني بانسحاقه أمام الآخرين. عندئذ يكون الرفض هو الخيار الأخير بعد أن استنفد كافة أعمال الصدود والمقاومة. فلا يمتلك غير حال الرفض الذي يعيده إلى المبادأة ككائن حي مرةً أخرى, فالآخرون يُمارسون قهراً مباشراً أو غير مباشر عليه، لأنَّ هؤلاء نتاج أنظمة ثقافية تقمع الحريات وتُعدِم ثراء الوجود الإنساني. وإذا نظرنا إلى الشخص الرافض نفسه  سنجد أنه كان مجرد ترس في آلية الأنظمة التي تستعمل الأفراد طوال الوقت. فقد يرفض في محيطه المحدود، غير أنه بنظرة أكبر( نظرة طائر) سيتحدد موقعه بناء على آليات أخرى تستطيع الأنظمة إدارتها واستيعابها في النهاية.

حالة الـ" نعم" الدائمة حالةٌ مشتركة بين التيارات والاتجاهات السياسية والدينية فكراً وتنظيماً، فبالضرورة من وجهة نظرها أنْ يعلن المتلقي قبولَّ ما يُطرح عليه. أي يجب لكل إنسان أنْ يقول " نعم"، و نعم هي المفردة الفكرية التي تستحق دراسةً تأصيلية على كافة المستويات داخل دماغنا الثقافي العربي. فأغلب شعوب الأرض- أفراداً وجماعات- تقول(لا ) لمن تريد ولا تقبل الانسحاق والانبطاح، إلاّ بعض الشعوب العربية التي تردد الموافقة بنعم دون مبرر. حتى أنَّ الفرد التافه في مواقع المسئولية يتعوّد أنْ يسمع نعم( منغمةً ) بعبارات الشكر والأدعية والأذكار الصباحية والمسائية.

ومن جهة أخرى، تعدُّ الـ" لا " محرك بحث ضخماً مثل محرك جوجل Google search engine لمعرفة كامل تكوين الذهنية العربية. ولا تنتظرك العادات والتقاليد تعبيراً عنها، حتى تكشف أمامك أنَّ " نعم " هي الأساس لجوانب التربية والإخلاقيات والدين والفكر والتعليم والعلاقات العامة. لا يوجد أحدٌ في مجالات كهذه يعرفك: كيف تقول " لا " مطلقاً. ولا يخبرك كيف تختلف بشكل فاعل ومنتج؟ وربما السبب واضح: ضرورة أنْ تكون طائعاً ومرهوناً بوجود الأقوى، وليس عليك التملمُل، وإلَّا ستكون أنت الناقة الجرباء وسط القافلة!!

ورغم أنَّ" لا " أداة نفي في دروس النحو والصرف، إلاَّ أنها داخل وعيناً اليومي -نتيجة تزييف الحرية - أداة مراوغة ومماطلة وتسويف. وفي بعض الأحيان قد لا تعبر عن موقف ورؤية عقلية مختلفة ومستقلة في فهم الأمور والأشياء. وبخاصة حين يتم التلاعب بمواقف الرفض واعتباره مرحلة قابلة للمحو مرة أخرى، فالقبول المجاني للممارسات والأفعال العمومية ليس سهلاً حتى يلتئم على نقيضه وليس هشّاً كي يتسع لنوع من التناقض الذاتي. أمَّا "نعم"، فهي ترتبط بالرضا والاتفاق الضمني والأريحية، أي بالحوافز والجوائز الرمزية التي يتلقاها مَن يقول "نعم". وهي الـ " نعم " الآتية تمشياً مع اللغة العربية من النعيم لدى أصحاب الشأن والأمر في بيئاتنا الثقافية.

وهذا ما يجعل المقابل للـ " لا " على صعيد المفهوم ليست أداة النفي No فقط، بل دلالة المفارقة paradox كذلك، أي هي تدل على ما يُخالّف الرأي الشائع أو المعتقدات العامة مع عملية الرفض جنباً إلى جنبٍ. فالمناخ الفكري عندما يتكلس ويصبح حالة خاصة من الاستعصاء على التغيير، يكون الرأي المخالف نوعاً من الرفض المتناقض. ودوماً لا يتم الرفض بشكل تلقائي، لأن الرافض يخوض مساراً طويلاً من المقاومة. فالرفض ذروة المقاومة، وهو الذي يحرك أوصالها من مرحلةٍ إلى أخرى ضمن مناخ التسلط بأشكاله.

وبجانب ذلك هناك أشكال كثيرة لعمليات الرفض، فالرفض بـ" لا " قد يكون صمتاً، لأن الصمت هو مساحة الإمتلاء بالكلام القابل للإنطلاق في أية لحظةٍ، لكن على أن يكون لدى صاحبه من الحنكة ليجعله موقفاً دون ردٍ. والرفض في تلك الحالة ليس موقفاً سلبياً في ذاته، لكن لا بد للرافض أنْ يعبر عما يجعل الصمت بليغاً ومؤثراً. إنَّه قوة المواجهة الصامتة والتعبير عن تعرية المواقف والإختلاف عنها. ولعلَّ المتصوفة في تاريخ  المجتمعات العربية قد جعلوا من الصمت موقفاً ثورياً بهذا المعنى. لأنهم صمتوا عن الممارسات العامة والتكالب على الحياة وتركوا أحوالهم مع الأذواق والتجارب الروحية.  مغزى ذلك أن ما صمتوا عنه هو دائرة التسلط، لأنه ما خضع الإنسانُ لقوى القهر إلاَّ من باب الرغبة فيما بين أيدي الناس.

والتصوف شكلٌّ من أشكال الـ "لا" بمعناها الإنساني الحر، لأن المتصوف يمارس رياضة الرفض على كل المستويات الحياتية والوجودية. وتلك فكرة في غاية الحساسية تجاه أنواع القهر مهما يكن مسماها. لأنه يمتلك قوة التخلي التي تعطيه المعنى كل المعنى، ويغدو ثراء الحقيقة أبعد من فقر التملك. فمن يرفض كل شيء بهذا" المنطق الصامت " يستطيع أنْ يأتي على مسألة الخُنوع من جذورها. إنَّ من يقول" لا " حالاً وتجرية يستحيل ترويضه بأي شكل من الأشكال. وتاريخ التصوف ملئ بهذه الـ" لا " في وجه القوى الإجتماعية والسياسية.

والرفض بـ " لا " قد يكون فكراً حُراً،  ولاسيما أنَّ الفكر المختلف في ثقافتنا العربية ماضياً وحاضراً كان علامة رفض بحجم معناه. ولا يظهر الفكر بهذه الصورة سوى في مناخ من القبول والإتفاق. والفكر الرافض للمناخ العام ظهر مع ظهور سلطة الكهنوت بشقيه السياسي والديني. وأحيانا ينزلق البعض وراء ما يسمى فصل الدين عن السياسة. ولكن المسألة أكبر من ذلك، لأن تبادل المواقع بين الإثنين (السياسة والدين) يجعل منهما وجهين لحياة واحدة. لو اختفى أحد وجهيها أو تباعد عن الآخر، فلا يعني ذلك ممارسة الحياة بشكل حر، لكنه يعني أن الوجه الحاضر سيمارس دور الوجه البديل أيضاً.

ولعلَّ هذا كان سبباً مباشراً في عدم انتعاش الفكر العقلاني الحر لدى العرب، وكان مبرراً أيضاً للتمسك بالتقليد طريقاً يؤدي إلى النتائج نفسها في المعرفة والمجتمع. ولعل هناك وضوح رؤية من تلك الزاوية بصدد فشل الإفكار الجديدة، فهي أفكار مجهضة سلفاً قبل أن تولد، لأن البيئات المشبعة بالاتفاق لا تقبل أي مختلف، ومع الزمن تصبح أرضاً جرداء لا ينفع بها زرع الفكر ولا ماء العقل.

في هذا السياق جاء تراثُنا العربي حاملاً لعنات لا تتوقف حتى اللحظة على من يختلف فكراً. فعلى الرغم من وجود فرق ومذاهب إلاَّ أنها دخلت تحت عنوان الفرق الضالة. وتم تعقب هذه الفرق، لكونها تشكل خطراً على القول بـ" نعم". ولو كان المناخ الثقافي صحيّاً، لكانت تلك الفرق قد قالت ما قالت وذهبت من حيث أتت، ولا يستدعي الأمر نعتها بالفرق الضالة. وهذا الوصف بالضلال لم يتم من رجال الدين وحسب، لكنه وصف يجري على ألسن الناس العاديين. وبطبيعة الحال يقف وراء هذا الوصف التحريم الثقافي بصدد عدم الخوض في المعتقدات العامة ولو كانت غير صحيحةٍ. وحتى إذا أخذت المعتقدات لباساً سياسياً، فهي موكولة لأولي الأمر والنهي دون القطاع العريض من العامة.

***

د. سامي عبد العال

في المثقف اليوم