قضايا

بيتر سينغر.. عندما تستفز الفلسفة الأفكار الشائعة

هل المساواة حقيقة موجودة على ارض الواقع، ام انها كذبة يقولها احدنا للآخر، فنحن نؤكد في كلامنا اننا نعامل الجميع بنفس الطريقة ولا نفرق بين احد وآخر، لكن الواقع يقول اننا نتحيز لبعض الاشخاص وان هذا التميز جزء من حياتنا ولا نعتبره شيئا خاطئا .. اسال نفسك: لو كان الخيار بين انقاذ شقيقك او احد اقاربك، من تختار؟ لمن ستترك ميراثك، هل تترك لشخص غريب ام لابنائك. في كل مثال نضع بعض الناس في منزلة اعلى من غيرهم، ماذا يمكننا ان نسمي هذا إن لم نسميه تميزا .

كان هذه المسألة قد شغلت الفيلسوف الاسترالي بيتر سنغر والتي عرضها في اكثر من كتاب من كتبه اشهرها كتابه " الحياة التي يمكن انقاذها " الصادر عام 2009 – ترجمه الى العربية احمد رضا وصدر عن دار الرافدين - حيث يذكرنا فيه بان الحياة الجيدة ليست في الصحة الجيدة والاملاك والسيارات الجديدة . بل في إدراك ما يمكننا فعله لنجعل العالم مكانا اكثر عدلا . يؤمن سينغر ان الفلسفة يمكنها ان تتجاوز جدران الاكاديمية، وانها يامكانها ان تكون في عالم الواقع .

يؤكد سنغر ان المبدأ الأساسي بين هو المساواة جميع البشر، وان هذا المبدأ يجب أن يدفعنا الى الدفاع عن جميع أشكال وصور المساواة بين البشر، مهما كانت الاختلافات والفروق بينهم.

في أواخر عام 1789 كتب الفيلسوف الانكليزي جيرمي بينثام: " لقد وضعت الطبيعةُ البشر تحت حكم اثنين من الأسياد، الألم والسعادة وإليهما وحدهما يرجع القرار فيما يجب أن نفعله "، هذه الجملة التي جاءت في كتاب " مبادئ الأخلاق والتشريع "، جعلت الشاب بيتر سينغر الذي لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره يقرر ان يترك دراسة القانون ويتجه إلى الفلسفة، فقد احب فكرة أن بامكانه ان يجادل حول القضايا الاساسية التي تهم الانسان والطبيعة ..بعد ذلك سيكتب: " أن الحق في الحياة مرتبط بشكل أساسي بقدرة الكائن على الاحتفاظ بالأفضليات، والتي ترتبط بدورها بشكل أساسي بقدرتنا على الشعور بالألم والمتعة " . وستكون فلسفة جيرمي بينثام النفعية هي سلة الغذاء الفكرية التي سيتغذها منها بيتر سنغر خلال مسيرته الفلسفية التي بدأت من عام 1971، عندما قرر ان يكتب اطروحته الجامعية عن موضوع العصيان المدني، والتي ستشر عام 1973 في كتاب بعنوان " الديمقراطية والعصيان ".

في العام 2009 ينشر بيترسينغر كتابه الأشهر " " الحياة التي يمكن انقاذها "، حيث يذكرنا فيه بان الحياة الجيدة ليست في الصحة الجيدة والاملاك والسيارات الجديدة . بل في إدراك ما يمكننا فعله لنجعل العالم مكانا اكثر عدلا . يؤمن سينغر ان الفلسفة يمكنها ان تتجاوز جدران الاكاديمية، وانها يامكانها ان تكون في عالم الواقع .

 بيتر ألبرت ديفيد سنيغر المولود في السادس من تموز عام 1946 في مديننة هاوثورن الاسترالية في نفس الشهر الذي نزحت فيه عائلته من فينا، بعد ان استولى النازيون على النمسا عام 1938، أرادت العائلة ان تهرب بسرعة، بعد ان تم ارسال الاجداد إلى معسكرات احتجاز اليهود، وقد مات جده لامه وابيه وجدته لامه، ونجت جدته لابيه باعجوبه لتلتحق بعائلة ابنها الذي استطاع ان يحقق نجاحا في عمله التجاري، ويتذكر بيتر الطفل ان والده كان بارعا في معرفة انواع القهوة التي يستوردها، اضافة الى براعته في التمثيل، حين أسس فرقة للهواة كان يخرج لها اعمالها التمثيلية . ولد لعائلة يهودية غير متعصبة وعندما بلغ الثالثة عشر من عمره وكان مطلوبا منه ان يذهب الى المعبد اليهودي لاداء المراسم حسب الشريعة اليهودية، قرر الصبي بيتر عدم الذهاب، فقد اعلن لوالده انه غير مؤمن، و لايستطيع ان ينافق، وقد تركت له حرية اتخاذ مثل هكذا قرارات مصيرية، بعد ذلك قرر الاب ان لا يرسل ابناءه الى مدرسة يهودية، وان يوفر لهم تعليما راقيا.في تلك السنوات يتفرغ بيترسينغر للقراءة، سيقرأ كل ما يقع بيده، من كتب الفيلسوف سبينوزا، وسيدهشه كتابه الضخم " الاخلاق "، وتسحره شخصية هذا الفيلسوف الذي عاش حياة قنوعة جدا فهو لم يتمتع بميراث ابيه، لكنه رفض ايضا ان يتلقى اموالا من اصدقاء اثرياء قانعا بدخل متواضع يأتيه من عمله في صناعة العدسات البصرية .. وسيحتفي بيتر فيما بعد بسبينوزا في كتابه " كيف نعيش؟ الأخلاق في عصر المصلحة الذاتية "، بعدها يتجه صوب كارل ماركس الذي كان يؤكد أن الانسان كائن طبيعي يتطور مع حركة التاريخ العالمي، وسيتوقف طويلا عند عبارة ماركس البليغة: " كل ما يسمى بالتاريخ العالمي إن هو إلا نتاج الإنسان عن طريق العمل الانساني "، ويخصص بيتر سينغر احد كتبه لماركس – صدر الكتاب عام 1980، حيث نجده متعاطفا مع انتقاد ماركس للرأسمالية، لكنه يشك في ما إذا كان من المحتمل إنشاء نظام أفضل، حيث يكتب: "رأى ماركس أن الرأسمالية هي نظام مسرف وغير عقلاني، نظام يتحكم بنا عندما يجب أن نسيطر عليها. هذه البصيرة لا تزال صالحة، لكن يمكننا الآن أن نرى أن بناء مجتمع حر ومتساو هو مهمة أكثر صعوبة مما أدركه كارل ماركس ماركس "، يكتب سينغر عن شغفه بافكار ماركس قائلاً: " هل يمكن لأي شخص أن يفكر في المجتمع من دون الرجوع إلى رؤى ماركس المتعلقة بالروابط بين الحياة الاقتصادية والفكرية؟ أدت أفكار ماركس إلى ظهور علم الاجتماع الحديث، وغيَّرت دراسة التاريخ، وأثرت بعمق في الفلسفة والأدب والفنون. بهذا المعنى نحن جميعًا ماركسيون الآن " .

ينهي دراسته الجامعية في ملبورن، بعدها يحصل على منحة لدراسة الفلسفة في اكسفورد، هناك سيحاول تطبيق الاخلاق على العالم، وستشغله قضية الحيوانات فيقرر هو وزجته ان يصبحا نباتيين، وسيخصص واحدا من كتبه للدفاع عن الحيوانت حيث اصدر عام 1973 كتابه الذي يقول عنه انه اهم كتبه بالنسبة اليه " تحرير الحيوان "، وفيه يرفض قداسة الانسان ويطالب بحقوق للحيوانات

الحجة المركزية للكتاب هي توسيع المفهوم النفعي بأن "أعظم خير لأكبر عدد" هو المقياس الوحيد للسلوك الجيد أو الأخلاقي، ويعتقد سينغر أنه لا يوجد سبب لعدم تطبيق هذا المبدأ على الحيوانات الأخرى، بحجة أن الحدود بين الإنسان و الحيوان تعسفية تمامًا.

أثناء وجود طالبا في في ملبورن، قام سينغر بحملة ضد حرب فيتنام واصبح على رأس جمعية تقف بالضد من التجنيد الإجباري. انضم عام 1974 إلى حزب العمال الأسترالي، لكنه بعد ذلك سيترك الحزب، لصبح عضوًا مؤسسًا لحزب الخضر .

ينتقد سينغر الولايات المتحدة لانها تساعد الحكومات الاستبدادية على "إبقاء الناس في فقر"، ويعتقد أن ثروة هذه الدول "يجب أن تنتمي إلى الناس" بدلاً من حكوماتهم . يصف سينغر نفسه بأنه ليس معاديًا للرأسمالية، ويصرح في مقابلة معه عام 2010: " إن الرأسمالية بعيدة كل البعد عن النظام المثالي، ولكن لم نجد حتى الآن أي شيء يقوم بعمل أفضل في تلبية الاحتياجات البشرية من الاقتصاد الرأسمالي المنظم إلى جانب نظام الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية الذي يلبي الاحتياجات الأساسية لأولئك الذين لا تزدهر في الاقتصاد الرأسمالي".

عام 2010 يوقع سينغرعريضة يعلن فيها تنازله عن حقه في العودة إلى إسرائيل، لأن هذا الحق في رايه "شكل من أشكال الامتيازات العنصرية التي تحرض على القمع الاستعماري للفلسطينيين " .

في منزله بملبورن يقول لمراسل صحيفة الغارديان البريطاية وهو يساله: لماذا يعتقد أن كثيرا من الناس يتخوفون من التقدم التكنولوجي؟

 قائلا: " أنا لست عالم اجتماع ولا عالم نفس، ومن ثم فأنا لا أعرف. أتصور أن الناس يخافون المجهول والتغير بصفة عامة " . يتحدث سينغر عن اهمية العطاء في حياة الانسان وكم علينا ان نعطي ؟ ويشير الى ان هناك حوالي تسعمائة مليون انسان غني في العالم، اي اشخاص لديهم دخل اعلى، ولو اعطى كل منهم مبلغ مئتي دولار فقط في السنة، فسوف يقلل الفقر العالمي إلى النصف، ويسخر سينغر من اصحاب المليارات الذين ينفقون اموالا طائلة على اليخوت والرحلات الفاخرة والطائرات الخاصة: " حان الوقت كي نتوقف عن التفكير باهدار المال بهذا الشكل الاستعراضي السخيف، ونفكر بالامر على فداحة افتقارنا للاهتمام بالاخرين " .

ونظراً لعدد الارواح التي يمكن انقاذها بالعطاء، يتساءل سينغر إن كان بوسعنا تبرير ارسال اطفالنا الى مدرسة خاصة مرتفعة الثمن . إننا نستطيع تبرير ذلك فقط اذا توافرت النية بأن يصبح هذا الطفل مفيدا للكثير من الناس نتيجة لذلك المستوى من التعليم .

شكل بيتر سينغر فلسفته حول فكرة تقليل المعاناة وزيادة السعادة. كان هذا بمثابة الأساس لكتابه " الحياة التي يمكنك إنقاذها "، والذي ألهم حركة الإيثار الفعال.

يؤكد سينغر انه ليس شيوعيا ولا اشتراكيا متطرفا، وهو لا يدافع عن الضرائب العالية، ويرفع قبعته لرجال الاعمال الذين يجعلون هذا العالم اكثر غنى .

وعندما يساله الصحفي عن توقعاته لمستقبل العالم، يقول: " ليس لدي كرة بلورية، حقًا. لا أدري، لا أعرف. أنا قلق للغاية بشأن تغير المناخ، لأننا ربما وصلنا إلى مرحلة لا يمكن عكسها حقًا. هذا هو نوع الجانب السلبي الحقيقي. أعتقد أننا سنكون قادرين على التعامل بجدية أكبر مع مشكلة الفقر العالمي، وآمل أن نكون بالفعل. أعتقد أننا نستطيع فعل ذلك إذا بذلنا بالفعل المزيد من الجهد. وآمل أيضًا أن نطور، بشكل عام، أخلاقيات أكثر اتساعًا تشمل الكوكب بأكمله، وكل من فيه " .

يحاول سينغر ان يجعل من الفلسفة هم يومي، هناك اعتراضات ضد محاضراته. غير أنه يذكر طلبته بسقراط الذي بالنسبة اليه يمثل أحسن تقليد في الفلسفة. إنه يستفز الأفكار الشائعة.

في حوار اجراه معه حسن الشريف ونشره موقع معنى بقول سينغر ر دا على سؤال حول مسؤولية الفلاسفة مما يدور في العالم والخطر الذي يمكن ان يتعرضون اليهم لمناصرتهم قضايا ربما تثير استاء الناس: " أعتقد أنه من الممكن، بل ومن المرغوب فيه في بعض الظروف، أن يكون الفلاسفة ناشطين. قد يكون ذلك مرغوبًا، على ما أعتقد، لسببين: أولاً، لأن الفلاسفة يستطيعون مناصرة القضية التي ينشطون من أجلها، من خلال المساعدة في تحديد مسوغات التغيير الذي يحاولون تحقيقه بشكل أكثر وضوحًا وصرامة. "

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير – صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم