قضايا

القبيلة والفن ورسالة التنوير

القبيلة أقوى هيكل اجتماعي في المجتمعات المُفَوّتة المتأخرة، وأكثر البنى الاجتماعية رجعية، فالولاء لها يضرب في الصميم الولاء للوطن، ويصيب في مقتل مبدأ المواطنة، والفكر الذي لا يتجاوز الإطار القبلي -مهما بدا جذريا وحداثيا- لا يخرج عمليا عن وظيفة استدامة التنظيم الاجتماعي القبلي، وتكريس سيطرة أعيانه المتنفذين في الدولة والمجتمع، ويصب فعليا في محاربة المشروع الديمقراطي الحداثي التواق إلى التغيير العميق في البنى الاجتماعية والثقافية من أجل مجتمع راق منخرط في بناء أفق النهضة، ويؤدي بالنتيجة إلى تكريس الفوات والتأخر.

هذا الحد لا بد منه لفهم خطورة السلوك القبلي في الفن والثقافة بشكل عام، خاصة عندما نريد الحديث عن علاقات الفنانين والمثقفين فيما بينهم، وكيف أنها أصبحت تنزع كل يوم إلى الانشطار والانكسار، وتتخذ النزعة القبلية أشكالا معقدة في التنظيمات الثقافية والاصطفافات الحلقية في مجال الفن، كيف نفسر ظواهر الانشطار والتشتت والعصبية التي تدعمها النزعات النرجسية والطموحات الذاتية المغلقة والصراعات الهامشية مدعومة بالأحقاد القديمة والجديدة الصغيرة في مستواها والخطيرة في نتائجها؟

صحيح أن الأفراد المبدعين المتمتعين بالحد الأدنى من الحرية هم أصحاب الإبداع والخلق والجمال، لكن بُغْيَةَ تقوية توق المجتمع نحو الخير والجمال، ولا يتم هذا إلا في إطار العيش المشترك في الحقل الفني الواحد، وبهمّ واحد وهدف واحد هو التنوير.

نستعير هنا مفهوم القبيلة لفهم أحد أقوى اختلالات الحقل الثقافي والفني عندنا، فقد أصبحت المجالات الفنية أشبه ما تكون ببواد شاسعة يقطنها أعراب، يتوزعون إلى قبائل، ولا تنتمي القبيلة الفنية بالضرورة إلى القبيلة الاجتماعية، بل تتأطر في ذهنياتها الهدامة المعادية للمواطنة المنتصرة للعصبية والنرجسية، والأخطر من ذلك أنها تمنع نشوء فنانين ومثقفين عضويين، إذ تحد نعراتُها من آفاق المبدعين وتشل فاعليتهم التاريخية، وتسلب إراداتهم في تأسيس روافع التغيير نحو المستقبل، فالانتماء لهذه القبائل قد يبرز بعض الذوات المبدعة، لكنه يمنعها حتما من أن تدخل التاريخ.

في بادية الشعر قبائل متناحرة،  لا يتأسس صراعها المدمر – هيهات! – على "مسائل خلافية"، أو مرجعيات إديولوجية ولا على منظورات جمالية، وإن كان هذا ادعاء باديا في تمظراتها الإبداعية، وخطابها الفني، ونفس الأمر يصدق على بادية الموسيقى، وبادية التشكيل وبادية المسرح وبادية السنيما...

إننا نجد التشتت والانشطار والعداء والعدوانية والعصبية والنرجسية من أجل "امتيازات" موهومة بحلم التألق وإثبات الذات، حتى داخل التوجه الفني الواحد، ونلحظ تناحرات غير مبررة سوى بمنطق القبيلة الفنية التي سرعان ما يدب إليها الانشقاق، وهذا النزوع النرجسي يطمس كل رقي نحو الفعل على أساس العيش المشترك.

إن غياب رؤية ساطعة لوظيفة الفن، ومن ثم غياب المشروع الفني الواضح الطموح، يضطلع به فنانون عضويون ملتحمون بقضية التنوير، لتحقيق ازدهار ثقافي وفني يصب في بناء نهضة الوطن، إن غياب هذه الرؤية وضحالة الرؤيا الجمالية التنويرية يسهل سقوط المثقفين والفنانين في الحلقية والحلقية المضادة والارتماء في أحضان فكر القبيلة، ويتمظهر هذا السقوط وهذا الارتماء في شتى أنماط السلوك المنافي لمستوى الوعي الذي يُفترض امتلاكه؛ كالصراع على الزعامات والإقصاء، والكولسة لطبخ المؤامرات وحبك الدسائس، والانعزال والتقوقع عند البعض المتوجس، والتهافت على المنصات والأضواء، والتنافس في التزلف لتحقيق مآرب صغيرة، والتخاذل في تنوير المجتمع، بل الضلوع في خذلانه.

ومما لا شك فيه أن امتلاك المبدع لوعي المواطنة، وإحساسه يجسامة المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه، في إنجاز مهام التنوير وإخراج المجتمع من الحجر والوصاية، سيرفع من تطلعه إلى آفاق رحبة، تتجاوز الذاتية ونرجسيتها نحو تعميد وتعضيد سكك التاريخ، في اتجاه غد زاهر للأجيال القادمة، لتعيش في بيئة طبيعية واجتماعية صحية، فيصبح هم الفنان نشر ذائقة فنية وجمالية رفيعة تنأى به هو نفسه أولا وقبل كل شيء عن السقوط في مآزق التشتيت والانشطار، فيكون قدوة للناشئة، ليسهم في إشاعة الحس الجمالي الذي يهيئ العقل لتقبل الوعي الديمقراطي، وإدراك عمق التخلف وفداحته والارتقاء نحو فعل جماهيري أساسه المواطنة لا القبلية ونعراتها المقيتة الرجعية، ويرقى من النزعة الذاتية الفردية الضيقة نحو طموح جمعي قوي، كفيل بلم شتات الحقل الفني وتنسيق جهود الفنانين في اتجاه الرقي بذائقة العامة لا الانحدار نحو سفاسفها.

إن وعي الصراع التاريخي بين قوى الاستغلال والتأخر وقوى الانعتاق والتقدم، باعتباره تناقضا جوهريا، يجعلنا نميل أكثر إلى تعزيز الائتلاف والتعاون وقبول الاختلاف والتنوع فهو ناموس الكون والطبيعة، ونكران نرجسية الذات، ونبذ كل أشكال السلوك المتخلف وتقوية جبهة الفنانين والمثقفين، على أساس مشروع مجتمعي للتنوير والبناء، وعلى قاعدة خطط وبرامج عمل راقية، والاستفادة من الطاقات الخلاقة المنفية في غياهب الهامش من أجل أن يؤدي الفن رسالته الجمالية والتاريخية، ولا يبقى مجرد نزوة ذاتية عقيمة.

***

عبد القهّار الحَجّاري

 

في المثقف اليوم