قضايا

مكافحة المحتوى الهابط.. اشكالياته وما يبيتون!

الواقعة: في كانون الثاني (2023) شكلت وزارة الداخلية العراقية لجنة لمكافحة المحتوى الهابط على مواقع التواصل الاجتماعي،واصدر مجلس القضاء الاعلى الى المحاكم والادعاء العام وهيئة الاشراف القضائي اشار فيه الى (استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لنشر محتويات تسيء للذوق العام وتشكل ممارسات غير اخلاقية،اضافة الى الاساءة المتعمدة وبما يخالف القانون للمواطنين ومؤسسات الدولة) وطالبها فيها باتخاذ (الاجراءات القانونية المشددة بحق من يرتكب نلك الجرائم وبما يضمن تحقق الردع العام).

ومع بداية شهر شباط 2023 تصاعدت حملة اعتقالات ضد من تطلق عليهم السلطات تسمية (منشئي المحتوى السيء "الهابط") الذين ينتجون مواد فيديوية  واغان ومشاهد تمثيلية ساخرة وكوميدية  وتعليقات بذيئة  وحركات "مايعة" واخرى خفيفة ومضحكة وايحائية..وصدرت احكام قضائية سريعة بسجن عدد منهم (أم فهد ،صانعة محتوى يتابعها اكثر من 145 الف شخص على تيك توك،بسبب مقاطع فيديو تظهر فيها بملابس ضيقة  وهي ترقص عل انغام موسيقى شعبية،سجنت ستة اشهر ..مثالا).

اشكالياته

ما حصل ..أثار تساؤلات مشروعة:

ان هذه الحملة اعتمدت قانون العقوبات العراقي رقم (111 لسنة 1969) الذي تضمن تجريم الاساءة للذوق العام واهانة مؤسسات الدولة. فهل يصح اعتماد قانون صدر زمن النظام الدكتاتوري  يخالف تماما الدستور العراقي الذي حرص على  صيانة حقوق الانسان، وفيه بالنص (تكفل الدولة،بما لا يخل بالنظام العام والاداب، حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل)؟.

مع اننا ضد (منشئي المحتوى السيء..الهابط)  الذي يخدش الحياء ويسيء الى قيمنا العراقية الاصيلة، ومع الحملة في مكافحتها باساليب رادعة لا انتقامية، فانه لا يمكن اعتبار احكام من سجنوا بهذه التهمة قانونية او مشروعة.. وليقل اهل القانون المستقلون كلمتهم ان كنا على خطأ.

والتساؤل هنا يصاغ بمشهدين..كلاهما يخدشان الذوق العام:

الأول: فتاة لابسه من غير هدوم وتحجي فشاير.

الثاني: اطفال يفتشون في القمامة عن فضلات طعام يأكلونها و قناني فارغة   يبعيونها.

أنك في الموقف الأول تستطيع  بضغطة زر أن تتخلص منه، ولكن ..كيف  لك ان تتخلص من المشهد الثاني وانت لحظة تراه تلعن من افقر العراقيين وأذلهم؟!

التــحليــل

ما حصل.. لم يكن مفاجأة لنا نحن السيكولوجيين،لأن أسبابه مهدت لظهوره من سنين.. نوجزها بالآتي:

1. تراجع ثقافة الجمال وشيوع ثقافة القبح..اوجعها انهم جعلوا بغداد هي أسوأ عاصمة في العالم بعد ان كانت عاصمة الدنيا.

2. عمل الفساد على اشاعة ما كان خزيا الى شطارة..ما يعني ان السلوك الذي كان يعد غير لائق  صار في زمنهم عاديا.

3. انعدام انموذج القدوة. سيكولوجيا ..الناس تقتدي بالحاكم او الرمز الديني..والذي حصل ان حكومة 2006 وما بعدها ..كلها متهمة بفساد مالي فاحش، واالمخجل ان يرى العراقي صاحب عمامة يتهم علنا صاحب عمامة آخر.. فيقول لنفسه.. ظلت عليّ .. وتشيع الفاحشة التي هي أقبح من المحتوى الهابط.

4. من عام 2007 كنا شخصنا في مقال موثق بالمدى والحوار المتمدن (المجتمع العراقي والكارثة الخفية)

ان جيل الشباب يمتلك منظومات قيمية تختلف عن المنظومات القيمية لجيل الكبار، وان الحروب الكارثية المتلاحقة تخلخل القيم وتفسدها وتشكل لديهم شبكة منظومات تتصدرها قيم الصراع من أجل البقاء والأنانية وتحليل ما يعد ّحراما أو غير مقبول في المعيار الأخلاقي للمجتمع العراقي. والذي يرجّح اكتمال الكارثة أن جيل الشباب قوة تتنامى حجما وفاعلية فيما جيل الكبار قوة تتآكل حجما وينحسر تأثيرها بتقدم الزمن).

وأوضحنا بأنه (إذا صار معظم من يفترض فيهم أنهم القدوة والنخبة يمتدحون الواقع المعاش مع ان كل ما فيه كارثي،فان الفرد يضطر الى ان يعرض نفسه سلعة في سوق السياسة تجبره على التخلي عن قيمه واخلاقه  والعمل بما يأمره به مصدره السياسي.. وسيشيع ذلك بعد ان اصبح الوضع العام في العراق طاردا للذين يمتلكون منظومات قيمية راقية بخاصة العلماء والمفكرين والمتدينين المتنورين والفنانين).

ورغم تحذيرنا المبكر(2007) من كارثة تهرؤ القيم وتخدير الضميرين الأخلاقي والديني.. فان من كان بيدهم القرار لم يعيروها اهتماما،وكأنهم كانوا يقصدونها.. فحين يشيع كل ما هو هابط بين الناس فانه يكون،في حساباتهم، ضمانة لبقائهم في الحكم.

ومع اننا مع مكافحة (المحتوى الهابط) بكل اصنافه،فأننا ننبه الى ان خبثاء السياسة من الفاسدين سيوظفون ما حصل و (يبيتون) لهدف خبيث، نقوله بالصريح،هو: التضييق على حرية التعبير،ليصل الى ان  من ينتقد سياسيا او مسؤولا في السلطة.. سيسجن بتهمة المحتوى الهابط!.. وسترون.. ما قاله البهلول!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

في المثقف اليوم