قضايا

الاختلاف الفكري وسياسة التهميش والإقصاء الجسدي

الجعد بن درهم أنموذجا

تتجلى في علم التفسير اتجاهات متعددة، نتوقف عند أكثرها انتشارًا وشيوعًا، أعني التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي، والمقصود بالتفسير بالمأثور الذي يعتمد على المصادر التفسيريّة، وهي: المصادر التاريخية وروايات  السنّة النبويّة، وأقوال الصحابة، ويضيف بعضهم أقوال التابعين، وهو بهذا " يهدف إلى الوصول إلى معنى النص عن طريق تجميع الأدلة التاريخية اللغوية، التي تساعد على فهم النص فهمًا موضوعيًّا " وتتجلى هذه المواقف لدى السلفية.

أمَّا التفسير بالرأي فإن العقل يسهم في تفسير الآيات القرآنية وتوضح بالعقل، وذلك بالنظر في الأدلّة، واستنباط ما يُمكن استنباطه من المعارف، دون معارضة العقل للنَّقْل الشرعيّ، واتِّباعه، إن التفسير بالرأي في جوهره هو التأويل " ونظر إليه على أنه تفسير غير موضوعي؛ لأن المفسر لا يبدأ من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية بل يبدأ بموقفه من الزمن الراهن محاولًا أن يجد في القرآن سندًا لهذا الموقف "  ويتجلى هذا لدى الفلاسفة والمعتزلة ومن نهج نهجهم . وهذا يعني بشكل أولي أن النص القرآني يمثل أساسًا يرجع إليه المفسرون، ولكنهم يتفاوتون في كيفية قراءته، كل بحسب رؤيته وموقفه من العالم والإنسان، وبحسب تحليله وتفسيره للآيات القرآنية الكريمة .

وكان التفسير بالمأثور أقرب إلى السطحية، وأكثر قربًا من الدلالة الظاهرية للآيات القرآنية الكريمة، ولكن التفسير بالرأي أكثر عمقًا، بحيث يصبح العقل أداة للتأويل، وإزالة اللبس والغموض الذي يبدو ظاهرًّيا على الآيات القرآنية سواء أكانت محكمة أم متشابهة .

وأخذ الفكر الإسلامي في التطور بمقدار تعدد القراءات، وهذا يعني أن النص القرآني يحتمل كثيرًا من التفسيرات التي تتنوع بتنوع الرؤى والأفكار. غير أن بعض الاتجاهات المذهبية  - وهي المهيمنة في الماضي والحاضر - وبخاصة في التفسير بالمأثور، وهي في الأعم الأغلب تابعة للسلطة ومرتبطة بها، إنها لا تساوي بين القراءات المختلفة لعموم المفسرين،  وأخذت تفرض رؤيتها على القراءات الأخرى؛ بحيث تصبح رؤيتها العقائدية بديلًا عن الدين، ومن ثم يصبح الرأي الآخر منبوذًا، ويصبح أصحابه خارجين عن الملة؛ الأمر الذي يقتضي استتابتهم، وإن لم يعودوا إلى رشدهم ويتبعون رؤية أصحاب التفسير بالمأثور، فإن مصيرهم التصفية الجسدية، وإن من يقوم بتنفيذ حكم الموت بهؤلاء يكون محط تبجيل وتقدير، حتى يومنا هذا .

2

وفي إطار التعارض بين النقل والتفسير بالمأثور من جهة، والعقل والتفسير بالرأي من جهة أخرى، نلتقي بروايات " نقلت إلينا عن أعداء التأويل فوصلت مشوهة متناقضة "؛ الأمر الذي دفعهم إلى وصم أي شخصية تعارضهم بأوصاف إمّا  في أصلها الاعجمي وإما بالبيئة التي عاشوا فيها، وغالبًا ما يرجعون ذلك إلى أصول غير إسلامية يهودية أو صابئية، أو أنهم استمدوا جوهر فكرتهم من مؤثرات دينية بعيدة كل البعد عن روح الإسلام ومنهجه "، كما فعلوا ذلك مع الجعد بن درهم؛ لأنه " أول مسلم خاض المعترك العنيف ونادى بفكرة التأويل العقلي في الإسلام "

وتشوب تاريخ الجعد بن درهم عتمة شديدة، فهو تاريخ مشوش وغامض كتبه أعدائه وخصومه، ولا تزال تتبناه اتجاهات ومذاهب وشخصيات حتى يومنا هذا .

ولعل ما يثار ضد الجعد بن درهم أنه أعجمي وليس عربيَّا، وكأن الانحراف الديني مقترن بالأعاجم حصرًا، ولذلك أعاب السلفية على المعتزلة أن مؤسسيها، واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد كونهما أعجميين .

ومن الجدير بالذكر أن أي أعجمي  يعتنق الإسلام لا بد أن ينتسب إلى البناء الاجتماعي العربي القبلي، فيكون بذلك مولى هذه القبيلة أو تلك، وكانت مكانة الموالي متدنية في ظل نزعة قبلية تعلى من الأصول العربية وتقلل من أهمية غيرهم وقيمتهم .

ومن الجدير بالذكر أن العرب شغلتهم الفروسية والسلطة، وانصرف الموالي للعمل في الصناعات والفكر وعلوم الفقه والشريعة والأدب وغيرها، ولذلك برز الأعاجم في علوم كثيرة، نذكر على سبيل المثال:  سيبويه في النحو، والبخاري في جمع الحديث، وأبو حنيفة في الفقه، وغيرهم كثير .

ولقد ولد الجعد بن درهم " 46 ه ـــ 105 ه تاريخ الولادة والقتل تقريبي " في خراسان، وقد أسلم هو وأبوه، أصبحا من الموالي، مع اختلاف بتبعيته لأية قبيلة، ولكن الشائع أنه كان مولى لبني مروان، وأقام في دمشق في بيئة يكثر فيها غير المسلمين، وكأن من يعيش في هذه البيئة سيكون منحرفًا بالضرورة .

وحين اشتهر الجعد بن درهم بأفكاره طلبه خالد بن عبدالله القسري وكان أميًرا على العراق حتى ظفر به فخطب الناس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قال في خطبته أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليمًا ولم يتخذ إبراهيم خليلًا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر .

إن الجعد بن درهم يحاول تنقية العقيدة من كل ماله علاقة بالتجسيم والتشبيه، ومعنى ذلك مشابهة الخالق للإنسان المخلوق، وتنصب هذه المشابهة بالدرجة الأولى على صفات الله؛   لأن في القرآن الكريم آيات يدل ظاهرها الحرفي على التشبيه والتجسيم، وهذا يعني أن هناك أصولًا اعتقادية يصدر عنها الجعد تعتمد في جوهرها على العقل، بخلاف الرؤية المضادة التي تعتمد النقل والتفسير بالمأثور، ولما كان التأويل اللغوي ممكنًا لإزاحة لبس التشبيه والتجسيم فإن الجعد بن درهم يلجأ اليه، لتحقيق الغاية التنزيهية للذات الإلهية، بمعنى أنه يوصل المتلقي إلى معنى آخر غير المعني الحرفي الذي يدل عليه ظاهر الآية، وهذا يعني أن الجعد لم يغير أصلًا في التركيب اللغوي للنص القرآني، ولما كان سياق الآية القرآنية يتضمن معنى ظاهريًّا يدل على التجسيم والتشبيه، فإن الجعد بن درهم يتأول الآية لتدل على نفي التجسيم والتشبيه، ولذلك ففي قوله تعالى: " (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (سورة النساء–الآية 125)  "؛ إذ يستبعد الجعد بن درهم المعنى العام لكلمة الخليل الذي لا يليق بمقام الألوهية إلى معنى آخر؛ إذ تعني أن الله اتخذ ابراهيم صاحبًا أو صديقًا، ولقد أنكر الجعد بن درهم هذا المعنى؛ لأنه لا ينزه الله، وإنما يدل على التجسيم والتشبيه،  ولذلك فإنه يرى أن الخليل مشتق من لفظة خِلة - بكسر الخاء - لأنها تعني الاحتياج والفقر، أو كما يقول النشار إنه " لم يتخذ إبراهيم خليلًا في القديم، وإنما في زمان حادث " والمعتزلة الذين جاءوا في زمن لاحق "يلحون على معنى فرعي آخر يمكن أن تحتمله الآية، ويدعمه الشعر القديم، وهو الفقير ."

وبالطريقة نفسها يعتمد الجعد بن درهم التأويل على أساس لغوي في قوله تعالي (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) أي أن الله " لم يكلم موسى بكلام قديم وإنما بكلام حادث " أو أن التكليم ليس المقصود به الكلام العادي، وإنما المقصود به التكليم أي التجريح، أي جرحه بمخالب الحكمة.

إن التفكير العقلي ساعد الجعد بن درهم على هذه التأويلات، وساعده كذلك في نفي الصفات، وقال بخلق القرآن الكريم، وقد تبنت هذه الأفكار لاحقًا، فرق وجماعات كالمعتزلة وغيرها .

***

الاستاذ الدكتور كريم الوائلي

في المثقف اليوم