قضايا

جذور الحداثة الغربية في سياقها الأخلاقي (4)

لا يختلف أثنان في مدى شمولية الحداثة الغربية لأوجه الحياة المختلفة، ومن أهم هذه الأوجه هو البعد الأخلاقي. تأتي أهمية هذا البعد من مدى تأثيره الكبير على كل الأبعاد الأخرى، السياسة والعلمية والأجتماعية . فالأخلاق، هي مجموعة الضوابط والمبادئ التي تحدد سلوك الفرد مع غيره، والمجتمعات مع غيرها، وبطبيعتها تكشف مدى رُقي الأنسان ورؤيته للحياة، لذلك أخذت الأخلاق أهتماماً واسعاً في تفكير البشر عبر التاريخ . هذه الأهمية جعلت الموضوع محل نزاع بين الفلاسفة والعلماء بكل اتجاهاتهم، الألحادية والمؤمنة بإله على حد سواء، والحداثة الغربية أحد أهم وأشهر الأتجاهات العلمانية التي تسعى الى بناء منظومة أخلاقية بعيداً عما جاءت بها الأديان السماوية، في محاولة لأنتزاع الأنسان الدور المركزي سواء من الله في الأديان التوحيدية، أو من الآلهة في الأديان الوثنية، وأعتبار الأنسان هو الحاكم المطلق، صاحب الأرادة الحرة في تقرير منظومته الأخلاقية، وأن العقل الأنساني جدير بتقريرها وأختيار الأصلح منها . خلاصة القول أن الأنسان في نظر الحداثة الغربية هو الأجدر في تقرير ما يصلحه، والقادر على توفير الأرضية المناسبة لسير حياته، وتحقيق مستلزمات الرفاهية والحياة الحرة الكريمة لبني الأنسان، وتحقيق أقصى مديات السعادة له.

أشرنا في الحلقات السابقة الى سعي رواد الحداثة الغربية في إبعاد كل ما يمت للدين المسيحي من صلة، وأعتباره دين طارئ على المجتمعات الأوربية، ولا شك أن أهم بُعد في الديانة المسيحية هو البُعد الأخلاقي، حتى بات من المعروف بأن الدين المسيحي ليس دين تشريعات بقدر ما هو دين أخلاق، وكان ما سعى له هؤلاء الرواد، هو العودة الى أسلافهم الأغريق والتشرب من أخلاق الأبطال الأسطورين والحقيقين، الذين مَثلوا الطبقة النبيلة في ذلك الزمن، ونخص بالذكر هنا الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، بأعتباره أكثر من أَصَلَ في البعد الأخلاقي، وبشكل واضح وصريح بفلسفته الأخلاقية من الأساطير الأغريقية، مُلقي باللأئمة على الأخلاق المسيحية، المتمثلة بالزهد والعفاف الجسدي المناهض والناكر للغرائز، حتى أنه أنتقد فلسفة سقراط بأعتبارها تتوائم والأخلاق المسيحية، فيقول (... ومع ظهور سقراط وفلسفته العقلية، حلت الثقافة العقلية محل قوة الجسد والروح، كما وضعت هذه الثقافة العلم مكان الفن، والعقل محل الغريزة، والحوار والجدل محل اللعب والرياضة (قصة الفلسفة ص513 –ديورانت). بأختصار تقوم فلسفة نيتشه الأخلاقية على النزعة الديونيزوسية التي تقوم على الرقص والثمالة والميول الشهوانية الغرائزية، الى درجة وصل الى قناعة يقول نيتشه فيها (إن الأفراط في المعقولية يؤدي الى خلق عالم من الأفكار المفارقة التي فقدت كل صلة لها بالواقع العيني...) (فؤاد زكريا-نيتشه ص81) . أن مفارقة نيتشه لسقراط لا يعني أن سقراط مفارق تماماً لأسلافه من الأغريق في البعد الأخلاقي، والدليل نراه في أحد مقولاته يجعل من شخصية أخيليوس نموذج للشخصية الأخلاقية التي يجب الأحتذاء بها، كنموذج للفضل والنبل الأخلاقي، معتبراً أن من يتحلى بالأخلاق المناظرة لأخلاق أخيليوس يكون محل أحترام الجميع، ولكن يبقى أرسطو من المسخوط عليهم من قبل نيتشه لأنه يفضل الأخلاق التي تحقق السعادة، عندما تُمارس لأجل الخير لذاته، بعكس نيتشه الذي ينتخب القيم الأخلاقية التي تحقق اللذة، والتي تحقق المجد الشخصي، أي أخلاق الطبقة النبيلة التي نقلتها السرديات الأسطورية القديمة .

عندما ندرس الميثيلوجيا الأغريقية نكتشف أن الطبقة الأرستقراطية النبيلة تمثل أرقى حالة أخلاقية يمكن أن يصل لها البشر في معيار الأغريق القدامى، وهي عين النظرة التي أعتمدها عمانوئيل كانط، والتي تقوم على أساس أن الأنسان يمتلك القدرة والقابلية لأن يصل الى أعلى درجات المعرفة، والتي تؤهله بالأعتماد عليها في تشكيل المنظومة الأخلاقية التي تغني الأنسان عن قيم السماء على حد رأيه، وهنا نجد بصمات الأساطير اليونانية واضحة على أفكار رواد الحداثة الغربية، وقد ذكر الباحث (فيرنر جايجر) بأن النظريات الأخلاقية التي وصلتنا من تراث أفلاطون وأرسطو فيها العديد من المبادئ التي تتناغم مع مشارب طبقة النبلاء في المجتمع الأغريقي القديم ) (ميثولوجيا الحداثة الأصل الأغريقي لأسطورة الغرب ص 172). بأختصار إن الأخلاق الحداثوية تتقوم على ذاتية الأنسان، والتي تُدعى بالنزعة الأنسانوية، في حين إن أخلاق السماء مطلقة، فلا تتأرجح وتميل حسب الأهواء ونزعات الأنسان الذاتية، وهو أتجاه له صدى ولكن ليس كلياً في منظومة الأسلام الأخلاقية، حيث يقر الأسلام بوجود الخير في ذات الأنسان، وقد عبر عنه علي بن أبي طالب (ع) بقوله (كفاك أدباً لنفسك ما تكرهه من غيرك)، ولكن نشاهد بأن الفضيلة المتقومة على المعيار البشري بشكل تام يخالجها ما يشبع رغبتهم بالغرور، وعلى سبيل المثال لا الحصر نرى الثروة في المجتمعات المادية هي معيار للمنزلة الأجتماعية، وهو توجه يشجع على حالة الجشع والتغول لدى الأنسان، وهذه ظاهرة لا يمكن نكرانها سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات على حدٍ سواء. كما أن نزعة الفوز بأحترام المجتمع هي تمثل هاجس قوي عند الأغريقي، وهي من تجعله في مصاف الطبقة النبيلة، لذا تراه لا يتورع بالقيام باخطر المحاولات القتالية في المعارك مع العدو وان كانت تؤدي بحياته من أجل الفوز بلقب بطولي في الوسط الأجتماعي، وهذا هو من اكثر الدوافع التي نَمَّت نزعة المغامرات عند الإنسان الغربي وأدى بالحقيقة الى انجاز الكثير من الأنتصارات في الكثير من حروبهم وأكتشافاتهم وخاصة البحرية، فقد كانت المغامرة لها صيتها ومكانتها في المجتمع الغربي، وما ماجلان، وكريستوفر كولومبس، وحديثاً الطيار الأمريكي (تشارلز لنديرغ) الذي عبر الأطلسي في عام 1927 م في رحلة أستغرقت 33 ساعة طيران متواصلة، أنها نزعة حب المغامرة، ومنها في المجال الطبي ما قام به الطبيب الألماني (فيرنر فوسمان) الذي غامر بحياته من أجل أثبات نظريته بأمكان القسطرة، حيث مارس ذلك على جسدة، الا أحد مظاهر نزعة المغامرة عند الغربيين، حيث نجد جذر هذه النزعة في الموروث الأغريقي القديم، وقد ذكر هوميروس في ألياذته في المقطوعة السادسة شعاراً اخلاقياً يقول (إسبق الآخرين دائماً وكن الأول)، وهذا الشعار أخذ أهتماماً كبيراً عند الأوربين، وكان أحد أسباب نهضتهم الحديثة . وأن عصر التنوير الأوربي قد أحيا هذه الشعارات والمبادئ التي سادت الفكر الأغريقي القديم.

 عندما نأخذ فيلسوف حداثي آخر وهو رينية ديكارت نراه أيضاً ينزع في بحوثه في تحديد المعايير الأخلاقية على ما يجول من أرهاصات في نفس الأنسان، أي الى ما يرغبوه وما يكرهوه في دواخلهم، والتي فحواها، ضرورة البحث عن المعايير الأساسية في أنفسنا (ميثولوجيا الحداثة ص170- مرم صانع بور)، وهذه نزعة لا تخلوا من الصدق، ولكن كما قلنا لا يمكن أصطفائها كلياً لأنها تحمل جزء من الحقيقة، والسبب هو ما تحمله النفس في جنباتها من أهواء ونزوات شرسة تقترب من التوحش والعدوانية . كما أن الرغبات تتعارض بين بني البشر، في حين القواعد الأخلاقية العامة تقتضي قبول الأرادة العامة، وهنا أقتبس ما قاله الدكتور علي رسول الربيعي، في بحث منشور له في صحيفة المثقف، تحت عنوان (السؤال الأخلاقي الأول (1) بتاريخ 24تموز\ يوليو 2022 م يؤكد فيه على الأرادة العامة كشرط لكي تصبح قانون، فهو يقول (إن الأنتظامات التي أنشأها البشر هي دائماً قواعد تفترض الموافقة العامة، فلكي تصبح الأرادة قانوناً، لا يكفي أن يكون فرد واحد مستعداً لتعميم مسار عمله...) . من هنا يتضح لا يمكن أطلاق العنان للنفس الأنسانية في تحديد المعايير الأخلاقية، وذلك لما يعتريها من مزيج أنساني وآخر عدواني ، وهنا أستعير بيت من الشعر العربي الذي يؤكد وجود الطبيعة الشريرة لدى الأنسان والذي يقول فيه الشاعر (والظلم من شيم النفوس  فأن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ) . هذا في الجانب النفسي الذاتي، اما في الجانب العقلي فنُشير الى كل من نيشة الذي أعترض على سقراط بنزعته العقلية الخالصة كما ذكرنا أعلاه، ويمكننا كذلك الأشارة الى ما قال به كانط من عدم معرفتنا على حقيقة الأشياء بشكلها الأطلاقي . كما يمكننا الأشارة الى مقالة أخرى لكانط يقول فيها (أننا بذلك لا ندرك طبيعة أنفسنا ولا العالم بكلّيّته ولا الكائن الأسمى (الله) كما هم في ذواتهم ..) وهذا يعني أستحالة المعرفة العقلية بشكل تام نظراً لمحدودية قدراتنا العقلية، وهنا السؤال الذي يطرح نفسه، كيف لنا أن نصل الى معيار واحد شامل لبني البشر؟ أذا كانت النفس تحمل القيم المتناقضة (الخير والشر)، وتحددها الرغبات المتقلبة، وعقل ذو معرفة محدودة في معرفة الشيء بذاته كما يقول كانط في كتابه ( نقد العقل المحض)، كل ذلك يجعلنا في أمس الحاجة الى من يعرف الشيء بذاته وخاصة في الأمور الصميمية، ومنها الأخلاق، وليس هناك غير الخالق قادر على معرفة الأشياء بذاتها، وهذه المعرفة غاية في الأهمية، لأننا نحتاج الى معيار عابر للزمان والمكان، وهي من شروط الأطلاق والشمول، لكي يُتمكن من تعميمها.

ليس فقط فلاسفة الحداثة من أستمدوا من السلف الأغريقي مصادرهم الأخلاقية، بل هناك حتى رهبان مسيحيون ممن أشاروا الى ضرورة الأخذ بقيم الأخلاق القديمه ومنهم الراهب بتراراك الذي دعى الى دمج التقاليد المسيحية مع ما جاء من قيم الميثيلوجيا الأغريقية، ويمكننا بالأستدلال على هذا التواصل مع الموروث الأغريقي القديم وتلاقحه مع الحداثة الغربية، هو قول الفيلسوف الفرنسي جورج سوريل يوجين في قوله (إن عصر التنوير الفكري في أوربا تأثر بسيرة الطبقة الأرستقراطية التي بسطت نفوذها في المجتمعات الأغريقية القديمة.. وبما في ذلك الأخلاق) (ميثولوجيا الحداثة ص168).

إن الأساطير الأغريقية تفيد بأن الطبقة الأرستقراطية هي مصدر الأبطال التي جاءت بهم المشيئة الإلهية، وقد لمسنا هذا التوجه في كلمة الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن حيث قال (إن العناية الإلهية أختارته لمحاربة الإرهابيين وإنه يشن حرباً بأسم السماء، وإن الله أختار الشعب الأمريكي للقيام بهذا الدور)(البعد الديني في الحرب الأمريكية لأحتلال العراق- م. مثنى فائق العبيدي-كلية القانون 5-3-2021)، ومن الواضح أن الرئيس الأمريكي، هو رئيس أكبر دولة في العالم الغربي ممن تتبنى سياقات الحداثة الغربية، ومن أكثرها تطرفاً، والمتمثل بالأتجاه البرغماتي .

إن الأخلاق الحداثية تُرغب في أشباع الغرائز والفوز باللذة، التي يُعتبر أشباعها مصدراً للسعادة، وأن ما تمارسه الشعوب الأوربية من سلوك إباحي، يُعتبر مصداق ذلك، وهي نفس النزعة التي دعى اليها نيتشة تحت ما يُسمى بالنزعة الديونيزوسية التي تقوم على الشهوانية الغرائزية، وهو عين ما عبر عنه الشاعر الأغريقي (ميمنيرموس) الذي تسائل قائلاً ما فائدة الحياة بدون أفروديت؟! الموت أفضل لي من أن أعيش دون حب ولذةٍ (ميثولوجيا الحداثة ص 166)، وأن ما نراه من الإباحية الجنسية في الحياة الأوربية تكمن جذوره في ميراثهم الأغريقي.

إن نسبوية الأخلاق التي تتسم بها الفلسفة الغربية البرغماتية هي الأخرى تمتد في أنتماءها الى أخلاق الأغريق، وقد سُئل أجسلوس ملك إسبارطة، عندما أستولى فوبداس اللسديموني على قلعة طيبة غدراً وخيانة على الرغم من معاهدة الصلح المعقودة مع الطيبيين، فأجاب (ليس لك إلا أن تسأل هل هو نافع أو غير نافع، لأن العمل النافع لبلدنا هو العمل الصالح) وهذا هو عين السياسة الغربية أتجاه الشعوب الأخرى، وهو عين ما ذهب اليه المنهج المكيافيلي والذرائعي الذي تمارسه البلدان الغربية اليوم وبالأمس القريب، والأستعمار خير دليل على هذا اللون من المنطق البرغماتي ذو الأصول الأسبارطية. ومن الطريف نذكر هنا مدى رسوخ الشذوذ الجنسي عند الغربيين، فقد مارست العاهرات في اليونان القديمة عشق الجنس المماثل الذي يُروج له اليوم بالمجتمعات الغربية، وقد فسره آنذاك أرسطوطاليس بأن هذا اللون من الممارسة مرده، خوف اليونانيون القدامى من أن تزدحم بلادهم بالسكان (أخلاق اليونان القديمة- المعرفة)، وأن ما يعيشة الغرب من أباحية جنسة، يستمد أصوله من أباحية المجتمع الأغريقي القديم . وكما يمكننا الأشارة الى ما يمارسه الغرب من سياسة تتسم بالكذب والخداع أتجاه الشعوب الأخرى، ونحن العراقيون بالخصوص، نعرف جيداً ما أدعاه الأنكليز من شعار عند أحتلالهم للعراق في عام 1917 م، بأنهم جاءوا لنا محررين لا فاتحين على حد قول الجنرال ستانلي مود قائد الجيش البريطاني عند دخوله بغداد، وهذا اللون من الأخلاق قد دعى أليها (زنوفون) أحد رجالات الأغريق، حيث نصح برسالة له في التربية (بالألتجاء الصريح الى الكذب والسرقة في معاملة أعداء البلاد). هناك الكثير من الدلائل والبراهين التي تثبت وتؤكد الصله الصميمية بين أخلاق الحداثة الغربية وأخلاق أسلافهم من الأغريق، ولا يسعني هنا الا أن أذكر ما جاء في كتاب (النقد الجينالوجي للأخلاق عند فردريك نيتشه) الذي يبين الصلة الوثيقة بين فلسفة الأغريق الأخلاقية، والأخلاق الحداثوية الغربية، حيث يقول فيه (إن الشفقة والزهد أعراض مرض وكان يرى أن الأحتكام الى منطق هذه القيم الأخلاقية في نظريته السبب في تدهور الحضارة الغربية وإنحطاط الإنسان الغربي). إن نيتشه الغارق الى أُذنيه والعاشق للميثيلوجيا الأغريقية، يصفه الباحث الأمريكي جوزيف كامبل بأنه فيلسوف ثقافة العصر الحديث.

***

أياد الزهيري

 

في المثقف اليوم