قضايا

البحث عن مرفأ آمن للمعرفة

ليس بعيدا عن الكوارث الطبيعية والبيئية وربما أيضا السياسية العالمية الراهنة نذهب، بل نحن صوب الإحداثيات ذاتها ولكن بصورة تتمايز قليلا عن الرصد والتأويل، فبرغم الهوس الإعلامي المشهود في تسجيل واقتناص اللحظات الإنسانية المتزامنة مع زلزالي سورية وتركيا، وتتابع العمليات العسكرية ثنائية الاتجاه بين الكيان الروسي العتيق والمساحة الأوكرانية قليلة الحيلة على مستوى المواجهة الاستراتيجية المباشرة . ولا حتى التظاهرات الاستثنائية في الكيان الصهيوني ضد نتنياهو المتربص بالقضاء الصهيوني، أو تظاهرات باريس التي يبدو أنها ليست على موعد مع التوقف أو السكون.

هذا القرب من مشاهد العالم الراهنة تأتي من الغياب القصدي إعلاميا عن رصد التحولات الفكرية ذات الصبغة الدينية في شتى بقاع العالم، وإن كان البيت الإبراهيمي الذي أعترف طوعا وليس كرها بأنني لم أكترث أو حتى ألقي بالا قصيرا بشأن الحدث والحادثة لثمة أمور تتصل باليقين العقدي لديَّ أولا، ثانيا أن مثل هذه الترهات التي تمثل رفاهية في التصرف لا علاقة لها بما يجري من أحداث هي بالفعل جديرة بالاهتمام بدلا من اقتراح أشياء وتدشين سيناريوهات تبدو مشبوهة الاعتقاد والمعتقد في رأي ملايين المسلمين الموحدين على سطح الكرة الأرضية .

ومن قبيل المرور السريع على هذه الأحداث العالمية الآنية اقتراب الجمهورية الإسلامية الإيرانية ذات المرجعية الإمامية في تصنيع القنبلة النووية الكفيلة بتدمير المنطقة وإيران نفسها، وصولا إلى العبث الإيراني السياسي المرتبط بطرد بعض الدبلوماسيين الألمان والتوحش الاستيطاني الصهيوني في فلسطين المحتلة وسط صمت عربي مستدام وتاريخي لا يمكن الاستغناء عن سماته ونتائجه أيضا، مثل هذه الأمور وغيرها كفيلة بالاهتمام بدلا من مساعٍ صهيونية في تعزيز وجودها الأيديولوجي بحركات دمج عقائدي لا يمكن تحقيقها إلا من زاوية التوحيد المطلق لله لا من حيث تماثل الشعائر والطقوس الدينية الخاصة بكل ديانة.

يأتي هذا كما ذكرنا وسط تجاهل إعلامي عن التهديد المستمر للأمن الفكري العربي والسعي الممنهج غربيا لتقويض الطمأنينة على سلامة الفكر والاعتقاد الديني من أجل تفاعل غير رشيد مع ثقافات وافدة وغازية تزيد من مظاهر الانحراف الفكري لدى الشباب العربي.

وتبدو مشكلة تحقيق الأمن الفكري عصية بل ربما مستحيلة في بعض الأحايين ؛ لاسيما وأنه ـ الأمن الفكري ـ يعني تحقيق الطمأنينة على سلامة الفكر والاعتقاد، كذلك إحساس المجتمع بأن أفكاره الرصينة الضاربة في القدم ليست مهددة، وهو الأمر الذي بات صعبا أيضا بسبب تسارع المنصات الرقمية وتصارعها بغير رقابة أو ضوابط رسمية تحكم حركتها المضطربة.

مثل هذه الإحداثيات التي تتوافد على كوكب الأرض المشحون بالتنازع والتصارع والاحتراب كانت فرصة سانحة بحق لأولئك المتلاعبين بالعقول الذين باتوا يجيدون فعل المراوغة العقلية والعبث بأفكار الشباب العربي، وأصبح الصراع الحقيقي اليوم ليس صراع الجيل الرابع أو الخامس المهموم بالتكنولوجيا الرقمية، بل بالأدمغة من خلال منابر مباشرة وأخرى إلكترونية تسعى إلى اعتقال النص الديني وتقويضه إن كان في الاستطاعة من أجل صناعة خطاب آخر موازٍ.

وهؤلاء لا يزالوا دونما مهل أو تراخٍ يخططون لثمة سيناريوهات أشبه بالمؤامرات سعيا للوصول إلى سدة الحكم بمناطق عربية شتى، مستخدمين في ذلك أقصى أنواع التواصل المسموع والمرئي أو المقروء فهم يعلمون أن حال الثقافة ومقامها في الوطن العربي يدعو إلى البؤس والإحباط، وهذا شكل لديهم حلما واسعا في السيطرة على أدمغة الشباب المسكين الذي لا يقرأ سوى كتبه الدراسية والجامعية فقط.

لذا فإن مسألة اعتقال النص واعتناق نصوص مغايرة للمألوف هي الهدف الراهن لكافة التيارات والجماعات الراديكالية المتطرفة؛ هذا الهدف يرتكز على فكرة الثنائيات التي لا تقبل مساحات أخرى بين الإباحة والتحريم .

هذه الثنائيات الراهنة هي التي تجسد شكل العلاقة ثلاثية الأبعاد بين الأنظمة الحاكمة الرسمية والشباب وأخيرا الجماعات والطوائف التي أبغي تسميتها بالمتطرفة إن لم تكن الأشد تطرفا وشراسة، فبين حكومات تسعى لتحقيق رؤيتها الاستشرافية كجمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية ضمن أجندة التنمية 2030 والتي تستهدف الارتقاء بالشباب في شتى المجالات وصولا إلى حالة مرضية وجيدة من الأمن الفكري عن طريق إعمال العقل واتباع الوسطية والرهان على الشباب أنفسهم باعتبارهم مصدر قوة وصلابة وحيوية للدولة، نجد على الشاطئ الآخر من يريد أن يأخذ الشباب إلى زوايا أخرى مناوئة مستخدمة في ذلك النص الديني بوجه عام، والنصوص الثقافية على وجه الاختصاص من حيث تأويلها وتحريفها وفق ضوابط تعكس أيديولوجية تلك الجماعات فنجدهم مستخدمين سلاح احتلال العقل بدلا من إعماله، وبأن المرشد أو الإمام أو قائد الجماعة التكفيرية الأولى بالتفكير والتدبير والتخطيط لا أكثر لا أقل .

فضلا عن الولع بالتحريم، الأمر الذي أكاد أشاهده على كافة المنصات الرقمية المتزايدة في الانتشار والتي تنتمي لفكر الخوارج أو الطوائف الساعية إلى الحكم تحت مظلات دينية سياسية، والتحريم بات أمرا خطيرا بل هو الملمح الأخطر في هذا العصر. ورغم أن إثم التكفير أمر عظيم وقتل المخالف أمر أعظم إلا أن إطلاق التحريم بل والولع به صار المشهد الأبرز لدى أنصار وأقطاب وأمراء الفكر المتشدد، وأصبح استغلال النص الديني وفقا للتفسير الظاهري هو الحاكم في حدة التحريم.

وإذا بحثنا على عَجَلٍ عن أبرز روافد التطرف لوجدناها في شيوع ثقافة اللاتفكير، وغلو التحريم وتناسي الكراهية والندب والمباح من الأساس، حتى بات التحريم بفضل أمراء الفتنة وشيوخ جبر الخواطر شهوة لها سطوتها وسحرها سيطرت على عقول الآلاف من الشباب العربي . علاوة على أن المتربصين بالنص الديني أكاد أجزم قولا بإنهم لا يفقهون الفرق بين منطوق النص صفة وشرطا واستثناء وغاية وعددا، والله أعلم !.

المشهد الثاني ضمن إحداثيات اعتقال النص هو مشهد مغاير تماما ؛ لأنه من المدهش ارتفاع نسب الشباب الملحد في الوطن العربي وهذا يدخل من باب الاستعمار الثقافي حيث التشكيك في كافة النصوص الدينية وإطلاق العقل في خياله وصولا إلى ضرب الهوس بالتأمل بغير ضابط أو حاكم رشيد للعقل، والأخطر أن تجد شبابا فقير الرؤية والرؤى ضعيف اكتساب الثقافة عن طريق منابعها الأصيلة والرصينة يعكف طويلا على شاشات الهواتف النقالة سعيا إلى معرفة الفكر الإلحادي المتطرف، الأمر الذي من الأيسر والأسهل معرفة قدر ولو بسيط عن أمور العقيدة والدين نفسه من أجل تحقيق سلامة الأمن الفكري الذي تحدثنا عنه.

ولا شك أن الهاربين من النص الديني هم أنفسهم يسعون إلى اعتقاله وحبسه بعيدا عن أنفسهم أولا، وهي مغبة نكراء تعصف بطمأنينة المجتمعات العربية صاحبة التقاليد الثابتة، وإذا استقرأنا طبيعة الفلسفات الإلحادية المعاصرة لاكتشفنا أنها في مضمونها عبارة عن تيارات فلسفية ترتكز على مجموعة من المبادئ الدينية ذات الطبيعة الذهنية المحضة تتخللها أفكار وثنية شرقية وغربية. وتتناول هذه الفلسفات ـ في العادة ـ قضايا غيبية كمصير الإنسان بعد الموت، أو قضايا ذهنية حياتية كوجود الإنسان وماهية هذا الوجود، والأدوار الحياتية للإنسان كدور الخير والشر والتسامح، بالإضافة إلى الطبائع البشرية غير الثابتة كالقلق والتوتر والخوف من المجهول وهكذا.

وأغلب اليقين لا الظن في هذه الفلسفات التي انتشرت بقوة وسطوة في أوروبا منذ بزوغ نظرية النشوء والارتقاء والتي كان من بين ضحاياها ملايين الشباب في الدول الغربية اهتمت جل اهتمامها بالروحانيات، لكن للأسف الشديد لم ينتبهوا إلى عظمة الإسلام وطبيعة القرآن الكريم بوجه خاص في معالجة الجانب الروحي للإنسان، ولأنهم أرادوا بأنفسهم سوءاً طفقوا يجربون كل شئ على سبيل القلق الوجودي فكانت النتيجة انتحار الملايين وانتشار البغي والفساد وشيوع الزنا لاسيما زنا المحارم، انتهاء بالشرك والعياذ بالله. إن هؤلاء مرضى بحق لاسيما وانهم ضحايا الجهل المركب ؛ جهل العقيدة، وجهل الحياة !.

وما أشبه تلك الفلسفات بمرض السرطان الذي يدخل جسد الإنسان في خلسة غير مرئية أو مسموعة، وسرعان من تتحول الخلايا السرطانية إلى وحش كاسر فاتك يدمر الإنسان نفسه، والتشبيه هنا يتقابل في مبدأ السرية والتخدير الكاذب، فمعظم المبشرين للفلسفات الإلحادية أوهموا الشباب التائه لاسيما بعد وقائع الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا بالكامل من وجهيها الحضاري النفسي والمادي المحسوس، وأوقعوهم في شرك الهدوء النفسي والبحث عن سبب لوجودهم، وهدف يأملون إليه، ناهيك عن المزاعم التي فرضوها على أولئك الشباب قسراً وقهراً حول إعادة التوازن النفسي لهم إزاء الآثار الناجمة عن الحرب .

ولاشك أن أولئك الشباب لم يجدوا في تعاليمهم الدينية غير الإسلامية ملاذاً وملجأ ومأوى، مما دفهم إلى الهرولة نحو هذه التيارات الهدامة التي أججت النار في نفوسهم المحمومة بدلاً من تطفئها وتهدئ من روعها. وكأنهم لم يقرأوا قول الله تبارك وتعالى: (وكذلك أوحينا إليك من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) .

وكما تعددت مسميات هذه الفلسفات الإلحادية مثل الهندوسية والجينية والبوذية والطاوية والشنتوية، أو وثنيات الشامانية والدرودية والهونا والويكا، أو فلسفات حديثة مثل الوجودية والبنيوية والتفكيكية والواقعية القذرة (كما في ترجمتها الإنجليزية) وغيرها من الفلسفات العجيبة، تنوعت وتباينت مظاهر معتنقيها مما دلل على هوسهم وتشتتهم الفكري والعقلي. فوجدنا أنصار ومريدي تلك الفلسفات ممن يطيلون شعرهم كالنساء، بالإضافة إلى ملابسهم الغريبة والتي تعبر عن حالات القلق والتوتر والتمرد التي يعيشونها .

وليتهم في ذلك الوقت استعانوا بالذكر الحكيم وهو يعبر عن حالات إنسانية راقية ترتقي وتعلو بفضل الله ورحمته، يقول تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء * ومثل قوله تعالى الذي يفيد أن كل شئ بيده وحده لا شريك له: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير). وهذه الآية الكريمة من شأنها أن تجعل الإنسان المؤمن قرير العين هادئاً مطمئناً لقدرة الله.

وجاءت الفلسفات الإلحادية المعاصرة بفكرة موحدة وهي القدرة المطلقة للوجود الإنساني، وأن الإنسان بقدرته فاعل وقادر، واستندوا في ذلك على عشرات الأساطير اليونانية الوثنية التي تدعم قدرة هذا الوجود كأساطير بروميثيوس وأدونيس وغيرهما من القصص الأسطورية التي خدرت عقول الشباب الأوروبي وجاهد المستشرقون والتبشيريون في نقلها إلى الواقع العربي الإسلامي، وهوى كثير من الشباب العربي المسلم في بئر هذه الظنون والمزاعم الكاذبة من باب الولع بالتقليد.

واستندت أفكارهم على نثار الفلاسفة القدماء، أمثال ديكارت الذي حاول أن يقيم علاقة بين العقل والمادة، لكنه لم يعبأ بإقامة علاقة بين الله ـ سبحانه وتعالى ـ وبين العالم ؛ لأنه كما أشار المفكر الإسلامي عباس محمود العقاد أن قدرة الله في غنى عن هذه العلاقة، وكذلك جورج بركلي الذي لم ير أهمية في الكون سوى العقل لاسيما العقل الباطن . ومنهم من ارتكز على فلسفات أخرى مثل مذهب اسبينوزا الذي اعتقد أن الله والكون والطبيعة جوهر واحد، ومذهب الأخير متعدد الولوج في قضايا ذهنية مملة تدور في فلك الجوهر والماهية والامتداد ومصطلحات أخرى لا تفيد.

ولا شك أن الحكومات والأنظمة العربية في مأزق شديد بسبب حالتي التطرف الديني المتشدد، والنزوع إلى الإلحاد، وبات من الأحرى تحقيقا لسلامة الأمر الفكري التخطيط لمواجهة إحداثيات شائكة تعصف بالمجتمعات العربية، هذا التخطيط وفق أجندة رؤى الدول الطامحة في التنمية المستدامة لأعوام مقبلة ؛ التنوير الثقافي هو أبرز هذه الأسلحة من خلال التوعية والتبصير المباشر بغير خلل أو غموض لكثير من المفاهيم ذات الأهمية مثل التطرف والإرهاب والوسطية وازدراء الأديان واحترام الآخر والمساواة بين الرجل والمرأة .

ناهيك عن ضرورة معالجة قضايا مجتمعية ساخنة كالاستنساخ والزواج العرفي وزواج المتعة ونكاح الجهاد وتعليم الفتاة وغير ذلك من مشاهد من المؤسف زمنيا تناولها لأنها من أساسيات قيام المجتمعات منذ القدم.

من أسلحة المواجهة أيضا التوسع في دوائر النقاش والحوار مع الشباب الذي بدا تائها باحثا عن بوصلة لليقين ومرفأ آمن للمعرفة، بدلا من تركهم فريسة سهلة القنص لتيارات وجماعات ذات مخالب ومثالب ومطامح خبيثة، أو هؤلاء الشباب اللاهث وراء فوضى منصات التواصل الاجتماعي سعيا لشهرة باهتة مؤقتة حتما تنتهي بهم لنهايات لا تبدو سعيدة كالإصابة بالأمراض النفسية أو الإلحاد أو الانتحار.

***

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية - كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر.

في المثقف اليوم