قضايا

أيها الزوجان والحبيبان.. تخاصما تتحابّا

"فسحة عائلية بعيدة عن السياسة ومنغصاتها"

الحياة الزوجية الهادئة الساكنة الخالية من الخصومة ليست تماما بأفضل حال، فقد تحيط بها الرتابة والملل والسطحية ويُضعفها الروتين اليومي عندما لا نكترث بما يحصل من منغّصات وأخطاء ومسالك غير سويّة ؛ فنلجأ للسكوت لئلا يحصل شجار بسيط او ملاسنة كلامية أو نزاع أسَري، في حين ان المخاصمة الايجابية العابرة التي تهدف الى معالجة الخطأ واجتثاثه من جذوره تعدّ ضرورية لبقاء الآصرة الزوجية متينة وشديدة الحزم .

لتدرك ايها الزوج، وايتها الزوجة اذا لم تتشاجرا بين حين وآخر فأنتما لستما متحابين بالقدر الذي يُرضي حياتكما ويزيد من أواصر محبتكما، وليكن الخصام سائدا بين أمدٍ وآخر من اجل إدامة الحياة الزوجية، فهذه الفسحة الصغيرة من الملاسنة الكلامية والنقاش الهادف هي نكهة الديمومة والالتحام بين الزوجين .

ان لم تتشاجرا بين حين وحين فأنتما تفتقدان حبا حقيقيا ؛ ففي الخصام البريء يتحرك الحب ويعيد ترتيب الحياة الجميلة ويحرّك الراكد ويذيب الجمود السائد بين اثنين تعلقا ببعضهما ؛ وإلا كيف تعالج الأخطاء ونكشف السوءات التي تتخلل حياة الحبيبين من اجل محوها من صفحاتنا البيضاء ؟؟

لا تخافا من الشجار المؤقت العابر وكشف الأخطاء على سبيل العتب وبيان مواقف الفتور والضعف التي تتخلل حياتكما ؛ فالمعاشرة الرتيبة تثير الملل أحيانا ولا بد من تحريكها وتسخينها لو بردت، وما أجمل ان تُسمع وجهة نظر الزوج او الزوجة عند الإشارة الى سبب الخصام ومبعثه من اجل معالجة حالة الإرباك والخطأ التي لابد ان تتخلل الحياة الزوجية، انها اشبه بمصل اللقاح لتعزيز وتقوية مناعة الجسد السليم حتى ولو أُنهك بضع ساعات ليعود معافى قوياً منتصرا على حالة الفتور والهوان .

ايها الزوجان الغاليان؛ اذا أردتما إبقاء جذوة الحميمية بينكما دافئة ومشتعلة فادخلوا في خصومة مؤقتة لتعالجا مطبّات طريقكما ولو شعرتما ان الأمور بينكما أضحت ليست على ما يرام، تخاصما قليلا، ولتعلموا ان أكثر الشجار حدّة لا يستطيع ان يضعف حالة الحب بينكما بل يزيد من حالة الثقة بين الطرفين طالما إنكما تهدفان الى إعادة ترتيب حياتكما بالشكل الأسلم .

وليفهم الزوجان ان لاشيء يشبه الكائن الاخر في السلوك والتصرف والتعامل ولسنا نسخا كاربونية نشبه بعضنا ونتطابق تماما وانما نقترب فيما بيننا الى حد التلاقي والتهامس والمناجاة وقد نبتعد في حالة ما ونلجأ الى رفع الصوت اذا اختلفت وجهات النظر وتعارضت الآراء مع الإبقاء على احترام آراء الطرف الاخر حتى وان اختلفت مع وجهات نظر الطرف الثاني دون ان نترك الاختلاف يبعد المسافة بينكما بحيث تسحقنا الاختلافات سحقا ؛ انما من الضروري الإبقاء على احترام وجهات النظر مهما ابتعدت عن قناعة الطرف المقابل .

هكذا هو الشجار الأسَريّ العابر والمؤدي الى التصحيح باعتباره اختبارا للقوة العقلية وامتحانا للقوة العاطفية كي ترسخ أكثر فأكثر وهنا لابدّ ان يقف الخصام على معالجة أمرٍ شاذ وطارئ قد يطفو وإزالته من محيط العلاقة الزوجية السامية دون ان يمتدّ ليخرب كلّ شيء وما على الزوجين سوى ان يمسكا زمام الأمر بيدٍ واثقة قوية لئلا ينفلت الى ما لا تحمد عقباه، فما ان تنتهي عاصفة الخصام وتهدأ رعود أمطارها سيعود القوس قزح جميلا ساطعا بألوانه في سماء العلاقة الحميمية وتصفو الأجواء صفاءً لا مثيل له .

اذا كانت الخصومات العائلية تمثل لحظات انفجار التراكمات غير المستساغة في مسار الحياة الزوجية ورفع مستوى الشجار الى درجات مخيفة وصحوة الخلافات في نفس الزوجين وظهورها للعيان بكل مخاطرها لمجرد إشعال عود ثقاب صغير او شرارة عابرة فقد تحرق كل هذه الأكوام من الأشياء القابلة للاشتعال وربما تكون هذه الحرائق بداية لانفصال الزوجين واتخاذ قرار الطلاق الى غير رجعة .

غير ان العقل الراجح والتأنّي العميق والمراجعة الايجابية يمكنه ان يعيد تدوير تلك المعركة الظالمة الى معركة عادلة وتحويل الاشتباك الى اتفاق والشقاق الى عناق وتطويع الخصام الى وئام مما يسمى في علم النفس التربوي (الاشتباك من اجل الاتفاق) .

فلا شيء ضمن الخلافات التي يسببها الشجار يصعب حلّه لو تم إحكام العقل والعاطفة المتّزنة وتسييرها صوب التوافق والتواد، فالحرائق الكبيرة الممتدة يمكن إطفاؤها لو خلصت النوايا الطيبة واتجهت نحو اللحمة والآصرة السليمة، فما بالك لو انبعثت شرارة صغيرة هنا وهناك اذ يكفيها قطعة منديل صغيرة مبللة بالمسامحة والغفران وإحكام العقل وترطيب العاطفة والأحاسيس لسحقها حتى تنطفئ .

وكم من الملاسنات والعويل والصراخ وتبادل الأصوات والزعيق بين زوجين اثنين اختلفا في أمرٍ ما ؛ لكنها سرعان ما هدأت وتيرتها لأن الحب دخل بينهما فجأة وأغلق الأفواه بغمضة عينٍ مستعينا بمراقبة العقل وشدّ وثاق الانفلات اللساني والتحكّم العقلاني وإطفاء ثورة الغضب ببلل القلب ومائه الرطيب وتتجسّد المصالحة أمامهما كائنا ضاحكا مستبشرا غاية في اللطف واضعا يدا بيد في مصافحة حارة ينبعث منها دفء التوادّ وملامسة الوداد .

ويبدو لنا ان كل المعارك والخصومات التي اعتدنا عليها في وسطنا الاجتماعي والسياسي هي كريهةٌ وممقوتةٌ باستثناء معركة الحبيبين من اجل معالجة الهفوات والمشاكل التي يسهل علاجها وتعديل المسار وهذه يمكن ان نسميها المعركة العادلة الجميلة بين الأزواج المتخاصمين ولو ارتفعت لغة الكلام والملاسنة وتعالى منسوب الغضب وزاد من حدّه لأنها بالنتيجة سيؤدي في نهايته الى المصالحة والتراضي طالما كان ذلك الخصام محصورا بالتحكّم والاستماع الفعّال لوجهات النظر حتى ولو ارتفع الصوت ونحا نحو الصراخ والزعيق والتشنج والدويّ العالي، فمثل تلك الخلافات تعدّ ايجابية وفرصة لمراجعة النفس وطرح المقترحات الايجابية لطمر المشاكل وإسكات الاهتزازات اللسانية وطلب الهدأة بعد النزاع كأن تقول لخصمك : انا أنهيت كلامي فابتعد عني ودعني الان وحدي أفكر فيما قلتَ وتخاصمتَ من اجله وأعرف مدى فائدته او ضرره .

تلك المساحة الزمنية لفكّ الاشتباك والخلوة مع النفس بعيدا عن الطرف الخصم كفيلة بمراجعة ما قال وما ردّ الطرف الاخر وفرز الهذر والقذع من الكلام، والتبصر بالنافع والمجدي والمصيب ليكون مفتاحا لفكّ كل مغاليق الابواب الموصدة والنوافذ المغلقة لإعادة تهوية البيت رياحا منعشة مبللة بالنسائم العليلة بدلا من الخناق والوخمة وضيق الأنفاس وخلق أجواء صحية من المناخات الأسرية الرائعة .

ليت الزوجين الذين يواجهان بعضهما كخصمين أن يدعا جانباً كلمة " أنت فعلت كذا " و" أنت أسأت التصرف وأنت تصرفتَ عكس ما نريد " حينما يشتدّ هياج الخصام وتتصاعد وتيرة المواجهة وليقولا بدلها " أنا فعلتُ كذا وأنا أقدمتُ كذا من أفعال وسلوكيات وأنا من يؤمّن ترتيب حالة معينة " ولنجعل من المشاعر الغاضبة الى أدوات من الرجاء والسماح والعفو والغفران عن سلوك شاذ وغريب يخدش العلاقات الحميمة بين الزوجين، فإن لغة المخاصمة والمعاتبة ضمن هذا الإطار برفع سبابة أصابع الاتهام " أنت " قد تشعل اليانع واليابس بينما تكون لغة " الأنا " اثناء المواجهة هي إشارة للبناء ومراجعة النفس والثقة بإعادة المسار الى جادّة الصواب والصلح .

مناي ان يكون الخصام والشجار الأسري العابر بين ثنايا الحياة الزوجية طريقا سالكا نحو التراضي وتصحيح الأوضاع الأسرية ومنغصاتها وطمرها بعيدا عن واحة البيت تماما لتنعم أسرنا وعائلاتنا في كل بيتٍ بمناخ يعمّه العنفوان العاطفي والمحبة والتوادّ وراحة البال والهدأة بدلا من الصراخ والزعيق والربكة .

***

جواد غلوم

 

 

في المثقف اليوم