قضايا

تشابك العلاقة بين المجتمع، العقل، المعرفة

"انا أبدو أكثر حكمة من هذا الرجل، لأن لا أحد منا يعرف أي شيء عظيم وجيّد، لكنه يتصور انه يعرف شيئا ما رغم انه لا يعرف شيئا، بينما انا كوني لا أعرف أي شيء، لا أتصور انا أعرف. في هذا الموقف، انا أبدو أكثر حكمة منه لأني لا أشعر أعرف بما لا أعرف". (دفاع سقراط).(1)

طبقا لإفلاطون، كان هذا جزءاً من دفاع سقراط في المحاكمة التي انتهت بإعدامه والتي وجد فيها القضاة ان دفاعه غير مقنع. كان سقراط رجلا مزعجا، يتجول في أثينا يستدرج المواطنين البارزين في محادثات تنتهي بهم عادة في تناقض صارخ مع أنفسهم مما يدفعهم للاعتراف بجهلهم. هل هو حقا يعرف أفضل منهم؟ ام هل هو، كما ادّعى، كان مجرد ذبابة حصان تلدغهم لتثير انتباههم؟ هو رأى نفسه يخدم الصالح العام، وقوله أعلاه يجعله يشبه العلماء اليوم الذين لديهم نظريات وآراء ولكن ايضا يؤمنون برؤى مؤقتة، مستعدون لإعادة فحصها او التخلي عنها عند الضرورة عندما يبرز دليل جديد.

في أية حال، مهمة سقراط كانت خطيرة. العديد من المواطنين الاثنيين الذين تحدّاهم اعتبروه يتجاهل الحقائق الأخلاقية والسياسية التي بُنيت عليها دولتهم. يحقّق في معنى الشجاعة او طبيعة العدالة؟ كم واحد منا لم يقل "بالطبع انا أدعم حرية الكلام، ولكن ليس الآن، ليس في هذا الموضوع بالذات؟" المفاهيم التي كان يحقق بها سقراط كانت حقا أساسية، جزء من "المعرفة" المشتركة التي ساعدت في ديمومة عمل المجتمع. محاكمة سقراط هي مثال على العلاقات المتشابكة والمعقدة والمتغيرة بين المجتمع والمنطق والمعرفة.

المعرفة العلمية تأتي من العقل والتجربة، لكن ما يُعد "معرفة" في مجتمع يتضمن ايضا العادات والقواعد وحكايات الناس الخاصة والمعلومات المضللة والعقائد المشتركة حول الدين والأخلاق والمعرفة التقنية العامة حول كيفية العمل في سياق اجتماعي معين. كيف ان التفكير او المنطق يساعدنا في غربلة كل هذا وتقييمه ومعرفة الدور الذي يلعبه؟

ما نستطيع قوله هو ان المجتمع، من بين أشياء اخرى، نظام لمبادلة ونقل المعرفة والعقيدة حول كل شيء من سعر التفاح في السوق الى الفيزياء النووية وكيفية التصرف تجاه المواطنين الآخرين. المجتمع ايضا يولّد معرفة بمختلف الطرق، والمعرفة تحافظ على المجتمع ايضا بطرق مختلفة.

التفكير او المنطق يكتشف المعرفة والمعرفة بدورها توفر الأساس لتفكير جديد آخر. المجتمع والتفكير والمعرفة متشابكون ومترابطون بطرق معقدة. هل هناك فقط طريقة واحدة للمنطق؟ المثقفون النسبيون يدّعون ان ما هو صحيح في مجتمع معين قد لا يصح في مجتمع آخر، وان ما يُعد كسبب جيد للاعتقاد بشيء ما ايضا يتغير من مكان وزمان الى مكان وزمان آخرين. لكن هل يمكن ان يكون هناك أكثر من منطق، او هل المنطق سليم وصادق عالميا في كل الأوقات والأماكن؟

يجب ان نتذكر ان البيانات الضخمة Big Data (بيانات كبيرة ومعقدة جدا يصعب التعامل معها بالسوفتوير التقليدي) حاضرة في الميدان. نحن نعرف دائما ان "معرفة قليلة يمكن ان تكون شيئا خطير" – يتبع ذلك ان الكثير من المعرفة هي أكثر خطورة؟ ميشيل فوكو المثير للجدل بالتأكيد يعتقد بهذا ويستطلع التفاعل بين المجتمع والمعرفة والسلطة كأساس في كتبه المثيرة. عندما نمتلك معرفة هل يجب ان نتقاسمها مع الآخرين؟ في العلوم ذلك متوقع جدا وضروريا، لكن ماذا في المجال الأعم؟ واذا كانت لديك معرفة، ففي أي ظروف يجب ان تحتفظ بها؟ طبقا للنكتة الشعبية: المعرفة تشبه الملابس الداخلية نحتاج امتلاكها لكن لا نحتاج كشفها أمام الآخرين.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) بما ان سقراط أنكر معرفته بأي شيء، هو حاول ان يجد شخصا أكثر حكمة منه بين السياسيين والشعراء والناس الحرفيين. تبيّن له ان السياسيين ادّعوا الحكمة بدون معرفة، والشعراء يمكن ان يلامسوا مشاعر الناس بكلماتهم لكنهم لايعرفون معانيها. اما الحرفيين يستطيعون فقط ادّعاء المعرفة بمجالات محددة.

 

 

في المثقف اليوم