قضايا

حَقِيْقَةُ الأَشْياءِ

يكادُ في الغالبِ ننظرُ إلى الأشياءِ وفق معاييرنا المصطنعة، وتحديدًا معاييرنا التي نرغب ورغب من قبلنا في إيجادها، وهذه المعايير إما أنْ تكونَ ذا نزعة اجتماعية أو دينية أو الاثنين معًا، وفي بعض حالاتها تكون ذا نزعة فردانية يصطنعها الفرد لتوائم توجهاته الداخلية الخاصة دون الاكتراث بالمعايير الجمعية الخارجية. في كل هذه الحالات لا يمكن أن نلغي أهمية هذه المعايير ودورها، وإنْ غلب على بعضها الطابع الظرفي والقابلية التجديدية إلا أنّ دورَ هذه المعايير لا يمكن أنْ يعكسَ حقيقةَ الأشياءِ وجوهرها، ولا يمكن أنْ يحققَ فلسفةً إنسانيةً شاملةً وكاملةً تُظهر الأشياءَ بجميعِ عناصرِها المعنوية مثل المنظومة الأخلاقية والعقلية والنفسية وحتى القوانين الكونية أو المحسوسة وتشمل كلَّ الأشياء المادية من حولنا.

نحاول أنْ نكسبَ ودَّ أنفسنا وودَّ بيئتنا بما فيه مجتمعنا البشري ومعاييره الجامدة؛ فنبتعد عن المعايير الحقيقية التي تتناول واقعَ الأشياءِ وحقيقتها؛ فنعيش وهمَ المعرفةِ، ووهمَ المنطقِ المصطنع الذي لا يقيم وزنًا للواقع بل يرتكز على أسس مبدأها الإنانية والترويج للفردانية الجمعية الداعية إلى النزعةِ البشرية، وإلى بقاءِ الفرد أو القبيلة أو الأمة ومحو الآخر سواءً كان فردًا أو مجتمعًا أو أمةً طالما أنّه مختلفٌ عن الطرفِ الأول. عندما أُلصِقَ العاملُ الجمعي على هذه الفردانية فهنا أقصد به العملية التراكمية لنشأة المعايير عبر التاريخ التي تؤكد لنا وجود عامل التطور والانتقائية لهذه المعايير؛ حينها نحن نقع تحت التأثير التاريخي بجميع أحداثه وعناصره الظرفية والبشرية بما في ذلك التوجهات والتفاعلات الإنسانية سواء كانت فردية أو مجتمعية، وبجميع مسبباتها سواء كانت دينية أو فلسفية أو اجتماعية أوسياسية. لهذا ليس من المستغرب أنّ معاييرَنا التي نتبناها اليوم هي مجردُ امتدادٍ "متطور" لمعايير أوجدها من كان قبلنا، وهذه حركة تسهِم -في جانب آخر- في تطور نظرتنا للأشياء وطرق تفاعلنا معها.

أدواتنا المعرفية وتطورها هي الأخرى تساهم في تطور هذه المعايير التي ننظر بها إلى الأشياء، وأدواتنا المعرفية ليست بالضرورة تلك الأدوات العلمية المحسوسة بل تمتد إلى طرق تفكيرنا ومنهجيتها؛ لتُحدِثَ في داخلِنا ثورةً عقليةً قد تساهم أيضا في اضطراب هذه المعايير، بل قد تزعزها وتنسفها لتستبدلها بمعايير أكثر تناسبًا مع الأدوات المعرفية وقواعدها، وهذا ما يمكن أنْ نراه واقعًا يتكرر في التاريخ مثل الثورة الحضارية الإسلامية التي جاءت مع الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام)، والتي تبنّت معاييرَ تصادمت في كثيرٍ من عناصرِها مع المعايير الموجودة والثابتة في ذلك الزمن، مما قاد إلى تبلور الصدام الاجتماعي والسياسي مع أتباع المعايير التقليدية، وهذه الثورة التي بدأت بإحداث معايير من نوعٍ آخر لا تلتزم بمعايير وضعية -في بعضها- أرادها الإنسان "الجاهلي" لتكون رافدًا لنزعته الأنانية الداعية إلى تقليص المصلحة في نطاقها الفرداني "الجمعي" الضيق الخاص إما لحماية أفراد بعينِهم دون غيرِهم أو مجتمعات معينة دون غيرها؛ يومها كان التفاضلُ في مراتب الإنسان ودرجاته؛ فكانت الطبقية واحتكار الحياة ومحاسنها لتلك الفئات التي اكتفت بمعاييرها الخاصة بها وألزمت غيرها من الضعفاء إلى الالتزام بها؛ فحينها يُنظر إلى الأشياء بهذه العين الضيقة، والتي يمكن أنْ نشبهها بمن يعيش في كهفِ إفلاطون، حيث يرى بعض من يتبعون هذه المعايير إلى ظلال الأشياء دون حقائقها الواقعية، أما المتحررون من قيود هذه المعايير الجامدة والمحتكرة فهم يرون حقيقة الأشياء كما هي.

هذا كله يقودنا إلى تساؤل مهم وهو هل نظرتنا إلى الأشياء وفقًا لمعاييرنا الخاصة بنا أم لمعايير الله؟ فعندما نأتي إلى الواقع البشري نجد محاولات الإنسان في معرفة داخله وخارجه من الأشياء؛ فيصيغ لأجل هذه المهمة الشاقة معاييره الخاصة التي يتشبث من خلالها بأملِ تحقق سعادة لا شقاء بعدها، وأمل تشكيل عالم مثالي تحقق افتراضه داخل خياله الواسع إلا أنّه فُقِد على أرضِ الواقع، ولا أجد أمةً بما فيها أصحاب الديانات التي أفقدت معاييرها أو بالأحرى عُطلت قسرًا إشباعًا لنزوات ونزعات الأنانية والطموحات التي تسقط وستسقط ملايين التابعين الذين حلّ عليهم الظلم والضّيْم ليس حبًا لها ولكن تضحية للمعايير السامية التي أرادها المتبوعون أنْ تكون؛ حينها لا غرابة أنْ نرى ملتصقين بالدين يسعون لمضاعفة أرصدتهم وكنوزهم دون العِبْء بما يحق ولا يحق لهم، وفقهاء سلطة يصفقون للجلاد ليس بالضرورة حبًا لهم ولكن تضحية للمعايير السامية التي أرادوها أن تكون خيرَ معين لفهم الأشياء التي تتحقق بها مآربهم ومصالحهم الشخصية. أما معايير الله الخالصة التي لا تتبنى محاباة ومصالح خاصة فإنَّها لا شك المعايير المثلى والأسمى والمتجردة من النقص. معايير الله الداعية إلى العدالة والحب والرحمة، الداعية إلى الفضيلة والأخلاق السامية، وإلى حفظِ النفس والمال والعرض، هذه بعض من كثير من معايير لا تتوافق مع معايير نُخَب المال والاقتصاد والحروب، نخبٌ تجد الخمرَ والمخدرات والجنسَ والسلاح أدوات تضاعف ثرواتهم الزائفة؛ فيصنعون لهذه الأدوات معايير جذابة تأخذ أحيانا شكل المعرفة في فلسفة وعلوم زائفة، وتتألف من قوانين وتشريعات يُلزم دهماء الناس وعاميتهم في قبولها وتطبيقها تارةً باسم صلاح الإنسانية ووحدتها، وتارةً لحماية حقوق الإنسان التي روجوا أنّ الدينَ ابتلعها وهضمها. لست من دعاة التعصب والتشدد، ولكنني أريد أنْ أرى حقيقة الأشياء كما ينبغي أنْ تكونَ وفقًا لمعايير سامية لا زائفة.

***

د. معمر بن علي التوبي - باحث وأكاديمي عُماني

في المثقف اليوم