قضايا

علي فضيل العربي: وجهة الفلسفة الغربيّة. إلى أين؟

عندما أُسقط جدار برلين في التاسع نوفمبر سنة 1989 م، كان حدثا محوريا في تاريخ العالم، الذي شهد سقوط آخر مخلّفات الحرب العالميّة الثانيّة، واعتقد العالم أنّ الحرب الباردة قد انتهت بين القطبين المتصارعين؛ القطب الرأسمالي الليبرالي وأتباعه، والقطب الشيوعي الاشتراكي ومريدوه، وأنّ العالم سيتخلّص من مشاعر الخوف والكراهيّة والتهديد النووي، ومن حقّه أن يحلم ببناء نظام عالمي جديد، تحت مسمّى (العولمة)، يتقاسم فيه البشر، دون تمييز، المنافع والأضرار. لكنّ السنوات التي أعقبت ذلك الحدث المحوري، وتلك المشاعر الإنسانيّة المتفائلة، كذّبت أقوال الخطباء، وألقت بأحلام الحالمين في بركة موحلة. لقد خرج العالم من مغارة مظلمة ليلج نفقا أطول من سور الصين، لا ندري له مخرجا عاجلا أو آجلا. وكأنّ هذا الإنسان المعاصر، الذي يمتلك مقاليد الحل والعقد، يستعجل نهايته وفناءه. فراح ينفخ بكل قواه في مواقد الفتن، دون تقدير عواقب ذلك. فإنّ الحرب العالميّة القادمة – إن اندلعت لا قدّر الله ولا وفّق دعاتها – لن تبقي على وجه الأرض ولن تذر سوى الرماد.

ما زلت راسخا على قناعتي – إلى أن يثبت العكس – بأنّ شطحات الفلسفة الغربيّة في القرون الخمسة الأخيرة، هي التي أوصلت الإنسانيّة إلى أزماتها الحاليّة، روحيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا). (فرويد ونيتشه وكارل ماركس وانجلز وهوغو ودوركهايم وروسو، وغيرهم). ولم تقدّم حلولا جذريّة وعادلة للبشريّة، بل خدمت الفكر الأحادي لبناء مجتمع غربي، قائم على السيطرة والنرجسيّة والساديّة والإباحيّة الجنسيّة، ومهّدت للحروب الطاحنة، وشرعنت الاستعمار، ودافعت – بشراسة – عن مصالح الغرب ومنافعه الماديّة، على حساب شعوب مضطهدة ومستضعفة. لقد شرعنت فلسفة نيتشه جرائم النازية في الحرب العالميّة الثانيّة ؟ وشغلت هلوسات فرويد العالم بشطحات سيكولوجيّة أوديبيّة أسطوريّة، وأوهام جنسيّة لوبيديّة، وتحاليل نفسيّة لا تنسجم والعقل السليم. وأفرزت فلسفة ماركس وانجلز اشتراكيّة مفلسة. بينا لم يحقّق العقد الاجتماعي نظاما سياسيا عادلا وإنسانيّا. بل نتج عنه عصبة (عصابة) أمميّة، لتسييس العالم وفق رغباتها. إنّ الديمقراطيّة الغربيّة المنبثقة من شعارات الثورة الفرنسيّة (1789 م – 1799 م) (الحرية والأخوة والمساواة)، وعلى مبادئ ولسن الأربعة عشر (8 يناير / جانفي 1918 م)، والتي ركّز فيها على مبدأ السلم وإعادة بناء أوروبا من جديد بعد الحرب العالميّة الأولى. في الوقت الذي كانت فيه أغلب البلدان في إفريقيا برمّتها، في آسيا وأمريكا اللاتينيّة في قبضة الاستعمار الأوربي، مجرّدة من حقوقها في الحريّة والمساواة والأخوة. ولو أخذنا شمال إفريقيا، كمثال، لا حصرا، على نفاق الفلسفة الغربيّة وزندقة الكنيسة وساديّة حملة صليبها المزعوم، لصدمنا الواقع المرير آنذاك. لقد قتلت الثورة الفرنسيّة ملايين الجزائريين بعد نزول جيوشها البربريّة بأرض الجزائر. كان القتل عشوائيّا، وعلى الهويّة والدين، وباسم شعارات الحريّة والأخوة والمساواة. إنّ غزو الجزائر سنة 1830 م، وتلاه من جرائم يندى لها الجبين، كشف عن النفاق الفلسفي الغربي والتناقض الصارخ بين القول والفعل. لقد قدم دعاة الحريّة (وأغلبهم من المجرمين الساديين ورواد السجون) إلى الجزائر الآمنة، على متن سفن مدجّجة بالأسلحة والقذائف والكراهيّة والانتقام والإرهاب والتطرّف وشهوة القتل العشوائي.

ورغم الانجازات العلمية والتكنولوجيّة الباهرة، في ميادين الحياة بشتى مظاهرها، فقد عجزت الفلسفة الغربيّة عن منع الحروب الطاحنة في أوربا نفسها (الحرب الروسية الأوكرانيّة كمثال). بل إنّ التكنولوجيا، قد أججت نيران الحروب بإنتاج معدّات حربيّة وقتاليّة فتّاكة، وألهبت شهوة السباق نحو التسلّح التقليدي والنووي. في الوقت الذي يتضوّر الإنسان في الساحل الإفريقي وقرنه، وفي أفغانستان، وفي اليمن وسوريا جوعا ويواجه غضب الطبيعة وقساوتها ببطن ضامر، فارغ، وجسد عار إلاّ من إهابه. أما كان، الأولى، على الفلسفة المعاصرة، أن تهتم بالإنسان، دون تمييز، ودون اعتبارات دينيّة أو سياسيّة أو ايديولوجيّة. كيف نفسّر هبة العالم الغربي بسيّاسيه (المحنّكين) وفلاسفته (الأفذاذ) لإغاثة الشعب الأوكراني، وتقاعسه في نجدة الشعب اليمني وشقيقه السوري ونظيره الأفغاني ؟ إنّ سياسة النفاق الغربي المعتمدة حاليا والكيل بمكيالين، لا تقلّ ضررا عن العواقب التي خلّفتها قنبلتا هيروشيما ونكازاكي في اليابان.

من الإجحاف بمكان، أن ننكر ما قدّمه العلم النافع للإنسانيّة المعذّبة، من وفرة في الدواء والغذاء والسكن ووسائل الترفيه، ومعالجة للعلل والأمراض، الفتاكة العارضة منها والمزمنة، لكن لم تكن الجهود في الماضي وفي الحاضر، كافية وخالصة النوايا. فقد كانت – ومازالت – تصاحبها الأطماع والابتزازات والحسابات السياسيّة والإيديولوجية الضيّقة. كما أنّها لم تلامس المثاليّة على أقل تقدير، نظرا لوجود بون شاسع بين النوايا والأفعال، وبين التنظير والتطبيق. مازالت البشريّة، في زوايا عدّة من كوكبنا الأرضي، تعاني جملة من المرارات والسلوكات القهريّة والإحباطات الدونيّة والأزمات الأهليّة، الناشئة عن الصراعات الإثنيّة حول الهويّة، (اللغة، الدين والثقافة والتقاليد والتاريخ)، يضاف إليها التنافس، غير الشريف، للسيطرة على الموارد الطبيعيّة (منابع المياه العذبة، المعادن الثمينة، المنتجات البحريّة، الممرّات المائيّة.

يجب أن يترفّع العمل الإنساني عن سلوك الابتزاز السياسي أو الديني أو الإثني، كي يؤتي أكله، فالعمليّة الإغاثيّة لا وطن لها ولا دين ولا لسان. وما حدث أثناء زلزال الشام وتركيا (6 فيفري 2023 م)، كشف عورة النظام السياسي العلمي. وأماط اللثام عن زيف (العولمة)، وهشاشتها، وكذبة نيسانيّة، تدعى (حقوق الإنسان). إنّ الفلسفة التي تبث الكراهيّة والبغضاء بين بني البشر، ولا تقوم على مباديء التعارف والتعاون والتراحم والتكافل بين الإنسان وأخيه الإنسان، هي ضرب من الإفلاس الفكري والروحي. وإنّ فلسفة المدنيّة الغربيّة المعاصرة، تدفع العالم إلى الانتحار، بل هي مقدّمة (أكيدة) لنهاية الحضارة، وعودة الجنس البشري – إن سلم من الفناء – إلى البدايات الصفريّة. فقد أثبتت نتائج البحوث الأنثروبولوجيّة على أنّ أفول الحضارات القديمة ناتج عن سوء تقدير إنسان تلك الحضارات، وسلوكه المتهوّر وسيادة رعونته.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

 

في المثقف اليوم