قضايا

رشيد الخيّون: قُطب والقصيمي.. التاريخ أصدرَ حُكمَه

أفردتُ في الكتاب المُنجز مؤخراً، «المقتولون بسبب دينيّ»، فصلاً بالناجين مِن القتل، مَن صدرت فتوى وحكم بقتلهم، لكنهم نجوا لسببٍ مِن الأسباب، بينهم فلاسفة وشعراء وأدباء ومتصوفة وفقهاء دين أيضاً، ووجدتُ أبرز النَّاجين في العصر الحديث، الكاتب عبدالله بن عليّ القصيميّ (1907-1996)، نجا مِن ثلاث محاولات قتل في حياته، بمواقف ودسائس مثيرة، لا مجال لتفصيلها في المقال.

لنتخيل أنّ القصيمي مازال حياً يُرزق، وشهد حكم التاريخ، وما كان يرجوه لبلاده، بصحة ضميره، ونظافة أفكاره، تلك التي شمها سيد قُطب (أُعدم: 1966)، عند الحوار بينهما، «رائحةً غير نظيفةٍ».

كان القصيمي ابن السلفية، يملك حجةَ المصدر، عندما يتحدث عن الإسلام، الذي جعل منه خصومه ومكفروه ديناً للموت لا للحياة، وهو ما دفع صاحبنا إلى منافحتهم، وأخيراً جاء مَن ينتصر له. مرَّ القصيميّ بفترة التدين السلفيّ، وكان محسوباً في صغره على «إخوان مَن طاع الله»، لكنه كان وظل حتى النهاية معجباً بالملك عبد العزيز آل سعود (ت: 1953)، فمَن يعرف نجد آنذاك وما يحيط بها يُبرر إعجاب القصيميّ، لذلك ناشده قبل ثمانين عاماً، في مقدمة كتابه «هذي هي الأغلال» (1946)، الانتصار للتطور والمَدنيَّة.

جاء ذلك بعد خياره الذي لم يتراجع عنه في التنوير، وصار يؤمن بالدين لا بمظاهر التدين، على اعتقاد «الدين حاجة مِن حاجات الإنسان، التي لا يمكن أنْ يُستغني عنها، ولكن ثبت أن البشرية عاجزة- إلا ما ندر- عن فهمه على وجهه الصَّحيح» (هذي هي الأغلال). بعد اتجاهه الجديد واجه مواقف شديدة ضده، وأشدها ضد «الأغلال»، الذي استهله برسالة إلى الملك، طالباً منه التدخل بقوة الصَّلاحية «الخروج بالناس مِن ضيق الدنيا إلى سعتها».

نبه في كتابه إلى العجز عن الإلحاق بالأنظمة المتطورة، التي اتجهت إلى العلم والصناعة. غير أن هذا الكتاب، الذي مثل وجهة نظره، فتح عليه بوابة التكفير، وأول الرَّد جاء مِن «الإخوان المسلمين» في صحيفتهم «النَّذير»، سخروا مِن صلته بالرَّائدة التنويرية هدى شعراوي (ت: 1947)، معتبرينها سبباً لتأليف كتابه، للتقليل مِن شأنه (ابن يابس، الردَّ القويم على ملحد القصيم). بعد ذلك جاء رد سيد قطب في صحيفة «السَّوادي»، التي عرضت مادة الكتاب «هذه هي الأغلال»، بقلم التّنويريّ إسماعيل مظهر (1891-1962).

أهدى القصيميّ كتابه لقطب، متوخياً فيه روح الأديب، قبل إخوانيته الرسميَّة، لكنه كتب: «كنتُ على استعداد أنْ أُدافع عن الرَّأي المخالف لو لم أشم هنا وهناك رائحة شيء غير نظيف تحول شعوري إلى اشمئزاز عميق، هذا رجل يُنافق، يُريد أنْ يطعن الطَّعنة في صميم الدِّين خاصة، ثم يتوارى ويتحصن في الدِّين» (السَّوادي: 11/11/1946).

لا جديد، استعار قطب عبارة ابن عقيل الحنبلي (ت: 513هـ) لتكفير المعريّ (ت: 449هـ): «أظهر ما أظهر من الكفر البارد الذي لا يبلغ منه مبلغ شبهات الملحدين» (ابن الجوزي، المنتظم)! ربح القصيميّ الحقيقة، ولصالح الجعفريّ (ت: 1979)، وأراه قصيميّ النَّجف: «حناناً يا أماثلنا حناناً/ حناناً أيها المتزمتونا/ تبعناكم على خطأٍ سنيناً/ فأسفرت الحقيقةُ فاتبعونا» (شعراء الغري).

أراد عدم إهمال الحياة، لصد «صحوة» شرسة، والرَّائحة التي شممها قطب مِن فكره، كانت رداً مسبقاً على «معالم في الطَّريق» وإطلاق الجاهليّة على مَن لا يقر بحاكميتهم الإلهية! لكنَّ الأعجب، تعرض القصيمي لاستخفاف مثقفين عرب، فلسان حالهم: مَن هذا البَدوي الذي أخذ يزاحمنا في التَّنوير بعواصمنا؟! أقول: إنَّ ما يجري اليوم، مِن إخماد الفكر التَّكفيريّ، انتصارٌ لِما نشده القصيميّ قبل ثمانين عاماً، عندما طلب مِن ملك بلاده التَّدخل بقوة القرار. تلك مقابلة بين فسطاطين، النُّور والظَّلام، والتَّاريخ قد أصدر حكمه.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم