قضايا

محمد الربيعي: الهندسة عماد تطور البلد وركيزة اساسية لتقدمه

في العالم الخارجي، إذا كان الشخص ذكياً، فيمكن له أن ينجح في أي مجال من مجالات الحياة. لكن بالنسبة للآباء العراقيين، فإن جعل ابنهم طبيبا هو حلمهم. وبسبب محدودية الفرص المتاحة في المجال الهندسي في العراق، ينتهي الأمر بمعظم الشباب اللامعين كاطباء او صيادلة بدلا من ان يكونوا مهندسين حالهم حال اقرانهم في العالم.

على عكس ما يحدث في العراق فأن اعداد المهندسين وجودة دراستهم وتدريبهم تعتبر معايير اساسية لقياس درجة ومستوى التطور التكنولوجي والحضاري في البلدان. وعدم وجود اعداد كافية من المهندسين اللامعين، وانعدام فرص العمل لهم يؤدي بالبلد الى التخلف والتراجع في مختلف مجالات العمران والصناعة وكذلك في الابداع والابتكار.

بكل جدية وصدق، الهندسة تخصص صعب حقا. التدريب والمقررات الدراسية التي يخضع لها المهندسون قاسية. يجب أن تكون على دراية بمجموعة متنوعة من التخصصات، على سبيل المثال لا الحصر: الرياضيات والفيزياء والكيمياء والإحصاء وعلوم الكمبيوتر. والبيئة والاحياء وحساب الكلفة والاقتصاد

بالإضافة إلى الأساسيات، عليك أن تفهم أي مجال تختار أن تكون فيه، سواء كان ميكانيكيا، أو كيميائيا، او معماريا، أو حيويا، او مدنيا وما إلى ذلك ... هذا حقا يكسب كثير من المعرفة والفهم ويستغرق سنوات من الجهد والعمل الجاد، فأي نوع من الأشخاص يريد تجربة ذلك؟

لكي تكون مهندسا كفوءاً، يجب أن تكون قادرا على التفكير المنطقي والعقلاني والنقدي، والتواصل بفعالية وكفاءة، والتوصل إلى حلول مبتكرة وذكية لمختلف المشكلات. وإذا كنت ترغب في ادارة المشاريع، فيجب أن تكون قادرا على التخطيط بفعالية، واتخاذ القرارات التنفيذية بشكل جيد، وأن تكون اجتماعيا مع المجاميع التي تديرها، سواء كانت هندسية أو مالية أو أياً كانت.

كونك مهندس يمثل تحديا قد لا يرغب الكثير من الناس في تحمل هذا العمل الجاد والتوتر الذي يصاحب المهنة (خاصة في كلية متميزة او شركة كبرى). بالنظر إلى مدى صعوبة عمل معظم المهندسين، لا يسعك إلا أن تشعر بالاحترام لهم وتشفق على ظروف عملهم. في مقابل ذلك يتم مجازاتك على جهدك كمهندس فوفقا لمكتب الولايات المتحدة لإحصائيات العمل، يكسب المهندسون أجرا سنويا متوسطا يبلغ 106 الف دولار. وفي المملكة المتحدة يذهب كثير من حملة الشهادات الهندسية للعمل في سوق المال حيث تستميلهم البنوك لمهاراتهم في التحليل والتواصل والحسابات.

لكن مع هذا وللاسف لم تعد الهندسة في بلادي وظيفة مرغوبة او مشوقة!

لماذا يعتبر وجود مهندسين لامعين معيارا للتقدم والتطور الاقتصادي؟ السبب يكمن في امتلاك المهندس لثلاث مهارات رئيسية (يحصل عليها من الجامعة الناجحة والمتميزة) وهي: مهارات الملاحظة ومهارات التحليل ومهارات حل المشاكل.

من بين مهارات التحليل وحل المشاكل هناك شيء آخر وهو التجريب. إذا ذهبت إلى أبعد من ذلك، فهناك ما يتميز به خريج الهندسة وهو التحفيز والاختبار والانتاج. بالإضافة إلى ذلك، يتعلم طلاب الهندسة الكثير من الاشتقاقات التي تعمل أساسا على إنشاء معادلات او ايجاد مصادر، أو من الناحية العملية إيجاد حلول جديدة لمشكلة قائمة.

على الرغم من أن المواضيع المهنية الأخرى تمثل تحديا بنفس القدر وأن الاطباء وغيرهم يتمتعون بمهارات عالية، إلا أن مجال تخصصهم أكثر تركيزا. ومن ثم فإن المواد الخاصة بهم أكثر مباشرة على الرغم من أن كمية مواد الدراسة التي يتعين عليهم حفظها أكبر بعدة مرات من تلك الخاصة بالمهندس. وعلى الرغم من أنها تتطلب أيضا مهارات تحليلية، إلا أنها أقل من تلك المطلوبة من المهندس. يحتاج المهندس إلى حفظ مواد دراسية أقل بكثير عند مقارنتها بالاختصاصات الأخرى، لكن مقدار التحليل والتركيب والاشتقاقات التي يتعين عليهم الانغماس فيها أكبر بعدة مرات من الاختصاصات الاخرى.

من اهم صفات المهندسين الكفوئين هي صفة الابتكار في سياق تعليمهم الاكاديمي وحياتهم المهنية، فيتعلمون أن يكونوا متنوعين ومبتكرين ويعملون بجد واجتهاد. في المواقف الصعبة، فانهم جيدون في اتخاذ القرارات الإستراتيجية والعملية والتغلب على المشاكل، ويتعلمون من الاخطاء للقيام باعمال أفضل ويحافظون على تطوير أنفسهم باستمرار. وقد يحاججك احدهم بان هذه هي صفات الشخص الناجح في اي اختصاص، لكني أؤكد بأن المهندسين يتميزون بها بجدارة.

الشخص الذي لديه عقل هندسي يراقب ويحلل الأشياء دائما كجزء من الروتين اليومي للعمل وهذا يؤدي إلى ابتكار او خلق أفكار جديدة أو تعديل الأفكار الموجودة. عموما عندما تبتكر تنمو، بغض النظر عن المجال الذي تعمل فيه ولا تحتاج إلى ان تختص بالهندسة من أجل ذلك، فأنت تحتاج فقط إلى العقل الهندسي. في العالم يتم تصميم اختصاص الهندسة لتعزيز هذه المهارات أكثر من أي شيء آخر. ويعتمد ذلك على ما إذا كان الأساتذة يعززون هذه المهارات في الطالب وطريقة تفكيرهم.

يضاف الى كل ما ذكرته ان عماد الحضارة المعاصرة هو وجود طبقة كفوءة من المهندسين المسؤولين عن قطاعات الانشاء والبنى التحتية والصناعات التحويلية وانتاج الطاقة وغيرها، وبدونها لا يمكن تصور مفهوم الحضارة. واهم من كل ذلك ان الوظيفة الرئيسية للمهندس هو توفير السلامة ووسائل الراحة للانسان في مسكنه وعمله وتنقله وتلبية احتياجاته في مختلف المراحل العمرية مع الاستجابة للاحتياجات الخاصة الناجمة عن العوق الجسدي. ان العمل الهندسي هو الظهير الامثل لمختلف انواع الرعاية الصحية والاجتماعية.

برأيي ان البلد الذي لا يستطيع تدريب مهندسين لامعين ولا يستطيع ايجاد فرص عمل لهم او الاستفادة من قابلياتهم العقلية وقدراتهم العملية والادارية هو بلد فاشل.

بنيت هذا الرأي على تجربتي وملاحظاتي كون اختصاصي علوم طبيعية لكني عملت في كلية هندسة لاربعين عاما.

***

محمد الربيعي

بروفسور في كلية الهندسة، جامعة دبلن

 

في المثقف اليوم