قضايا

علاء اللامي: ليس الفرعون فرعوناً ولا النيل نيلاً ولا النمرود نمرودا

كلمات توراتية لا علاقة لها بالسرديتين الحضاريتين المصرية والعراقية القديمتين: ترك الخطاب التوراتي تأثيراته الواضحة والقوية على لغة ونتاج النخبة العربية المثقفة غالبا، بل وقد تجاوز ذلك فسادت بعض مفرداته في لغة الإعلام الشعبي والتعليمي؛ فكلمات مثل الفرعون والهيروغليفية والنيل كلمات لا علاقة لها بالحضارة المصرية القديمة، وهي مفردات لم يعثر عليها في أي نص أو أثر مصري قديم. وكذلك الحال مع كلمات من قبيل النمرود وميزوبوتاميا اللتين لا علاقة لهما بالسردية الحضارية العراقية القديمة. لنلقِ نظرة على جدور هذه الكلمات:

* الفرعون: لم يعثر أبدا على كلمة فرعون ومشتقاتها في السردية المصرية القديمة كمقابل لكلمة "ملك" أو "إمبراطور" وقد جاءت كلمة "فرعون: من التوراة حصرا حيث أشارت التوراة في سفري التكوين والخروج لملوك مصر بلقب «فرعون»، ولم تفرق التوراة في ذلك اللقب بين الملوك الثلاثة الذين كانوا يحكمون مصر في عصر الأنبياء التوراتيين: إبراهيم ويوسف وموسى. والمثير للعجب ولتساؤل هو أن الآثار المصرية على ضخامتها وكثرتها وشمولها لكل صغيرة وكبيرة من حياة المصريين القدماء لم تذكر كلمة فرعون ولا اسم أحد الأنبياء الذين ذكرتهم التوراة!

وقد حاول العلماء التوراتيون المعاصرون أن يجدوا جذرا لغويا لكلمة فرعون التوراتية في «برعو» في اللغة المصرية القديمة وتعني «البيت الكبير»، ولكن علماء المصريات غير التوراتيين أكدوا عدم وجود دليل في خرطوش واحد من الخراطيش الملكية المصرية التي تحمل أسماء الملوك يشير إلى ذلك اللقب «بر - عا». وعلى هذا سيكون من العلمي والأقرب إلى الحقيقة التاريخية أن نقول "الملك المصري" بدلا من "الفرعون".

وقد "كشف الباحث الأثري المصري أحمد عامر عن أن "المُسمي الصحيح للمصريين قديماً هو اسم "المصريين القدماء"، وليس الفراعنة، فهذه الكلمة عامية... وأن أصل كلمة "فرعون" جاءت من اللفظ المصري "بر_عا" الذي يشير أصلاً الي القصر كمؤسسة كبرى". ولكن عامر يعود ويؤكد الاسم التوراتي بشكل غريب، فيقول "وتدرج هذا اللفظ منذ عهد الدولة الحديثة ليعني الفرعون شخصياً" وهذا كلام لا دليل عليه كما قلنا في كل الآثار المصرية القديمة التي عثر عليها حتى اليوم. والأغرب أن هذا الباحث يضيف بعد أسطر ما يناقض عبارته الأخيرة فيقول إن الملك المصر القديم "كان يطلق عليه اسم "نسو" بمعني "جلالته"، وكان غالباً يُتبع بعبارة "له الحياة والصحة والكمال"، أما ألقابه أو المراسم الخاصة به فهي كانت تتضمن خمسة أسماء هي الاسم "الحوري"، والاسم "النبتي"، واسم "حورس الذهبي"، واسم ملك "الجنوب والشمال "، واسم "ابن رع"/ تقرير إخباري لأخبار اليوم - مارس / آذار 2019.

* كلمة الهيروغليفية: وهي كلمة يونانية وقد اشتقت كلمة «هيروغليفي» من الكلمتين اليونانيتين «هيروس» (Hieros) و«جلوفوس» (Glophos) وتعنيان «الكتابة المقدسة» جاءت كترجمة لعبارة مصرية قديمة هي "ميدو نتروا" وتعني النقوش المقدسة أو العلامات الروحانية، وكانت كلمة إله عند المصريين القدماء هي (mdw nṯr) وتلفظ من دون تحريك "مدو نتر". ولكن الذي حدث هو أن الترجمة اليونانية شاعت وانتشرت والكلمة الأصلية المصرية غابت وانطمست.

*النيل: كلمة النيل ليست ذات أصل مصري قديم. والمرجح كثيراً أنها - كما يقول الباحث العراقي الراحل طه باقر في كتابه / مقدمة في تاريخ الحضرات القديمة ج2 "حضارة وادي النيل"- [من الكلمات السامية القديمة - وربما تكون مشتقة - من «نهر» أو «نهل» أو «نخل» (بإبدال الراء لاما) فصارت الكلمة الثانية بصيغة نيل، ومنها الكلمة اليونانية ( Neilos ) واللاتينية ( Nilus ). أما المصريون القدماء فقد سموا نهر النيل وكذلك الإله الخاص بنهر النيل باسم "حعف" أو "حعفي". وفي الأزمان المتأخرة صار يلفظ بهيئة (هوفي وأوفي وحوفي) ولا يعلم معنى هذا الاسم المصري القديم، وقد أله النيل ونظمت في تمجيده التراتيل الدينية وخصصت له بعض الأعياد الدينية].

* مصر: يرى بعض الباحثين ومنهم مثلا طه عبد العليم في مقالة له في الأهرام اليومي، إن الاسم الذي عرف به المصريون القدماء موطنهم هو كمت أو كامى "ⲭⲏⲙⲓ " وتعني «الأرض السوداء»، كناية عن أرض وادي النيل السوداء تمييزا لها عن الأرض الحمراء الصحراوية المحيطة بها. وكلمة «مجر» التي كانت تعني معنى «الدرء -الدفاع»، ومعنى (البلد) «المكنون» أو «المحصور» واشتقت من كلمة «جرو» بمعني الحد، أو من كلمة «جري» بمعني السور، ثم أضيفت إليها ميم المكانية فأصبحت «مجر» وكتبت بعد ذلك بصور كثيرة مثل «مجري» و«إمجر». وقد استعملها المصريين القدماء فوصف أحد شعرائهم فرعونه سنوسرت الثالث بأنه «أمجر»؛ أي درء "دفاع/ يدرأ" وأنه أشبه بأسوار الحدود.

ويقول الكاتب فاضل الربيعي إن "اسم مصر ورد بهذا اللفظ في اللغة العبرية فقط"، وهذا غير صحيح إذْ أنه لم يرد في العبرية فقط بلفظ "مصر أو مصريم"، بل ورد أيضا باللفظ ذاته أو قريبا منه في لغات جزيرية "سامية" أخرى؛ فهو في الأكدية القديمة التي ظهرت وسادت في الألفية الثالثة ق.م، "مصري"، وفي الآرامية " مصرين"، وفي الآشورية "مشر"، وفي البابلية الحديثة "مصر"، وفي الفينيقية "مصرو".

أما كلمة إيجبت في اللغات الغربية فتأثيله -  كما يقول د. خالد أبو الحمد مدير عام آثار الاسكندرية - "إنه مشتق من الاسم المصري القديم (حت كا بتاح) والواضح أن اليونانيين وجدوا صعوبة في نطق حرف الحاء في بداية ونهاية الكلمة، وأنهم استبدلوا الجيم بحرف الكاف وهذا الابدال قائم في اللغات القديمة والحديثة وهكذا أصبح ينطقون الاسم ايجو بتس ثم أضاف اليها كما في هو الحال بالنسبة لأسماء الاعلام في نهاية الكلمة حرف السين مسبوقاً بحرف من حروف الحركة ليصبح ايجو بيتس".

وهناك تأثيل قريب آخر للكلمة يقول إن "كلمة «قبط» مشتقة من الاسم اللاتيني لمصر إجبتوس Aegyptus المشتق بدوره من اللفظ اليوناني أيجيبتوس Αίγυπτος، الاسم الذي أطلقه اليونانيون على أرض وشعب مصر، ويفسّر البعض ذلك الاسم على أنه مشتق من «حاكبتاح» الهيروغليفية أي "أرض روح الإله بتاح" وهو إله العاصمة القديمة منف «ممفيس»، واستبدلت بعض أحرفه على مر العصور، فأصبح «هكاتباه» وخلال العصر الإغريقي حوّر الإغريق المصطلح بما يلائم التلفظ بالحروف في اللغة اليونانية ومنها استبدال الهاء بالألف، وإضافة الواو والسين، وهما لازمتان لجميع أسماء العلم في اليونانية وكنتيجة للتحوير أصبح المصطلح «إيجيبتوس (باليونانية: Αιγύπτιος)».

وبناء على ما تقدم يمكن استعمال اسم مصر كاسم حقيقي لهذه البلاد وشعبها في عصرنا لأنه ورد بهذه الهيئة اللفظية في جميع لغات الشرق القديمة ولصعوبة التلفظ بالاسم المصري القديم (حت كا بتاح) ولإهماله طوال القرون الماضية حتى صار منقرضا.

النمرود: ورد في التوراة كاسم علم لملك رافداني قديم هو بحسب التوراة "ملك شنعار، التي يفسرها البعض بأنها تعني "سومر"، وكان النمرود وفقاً لسفر التكوين وسفر أخبار الأيام ابن كوش، وهو ابن حفيد نوح الذي ورد ذكره في قصة الطوفان في اللوحين العاشر والحادي عشر من ملحمة كلكامش باسم "زيوسيدرا باللغة السومرية و" أوتا نبشه -الباحث عن "نبشه/ نفسه" أي حياته" باللغة الأكدية البابلية. ويُذكر نمرود في بعض التفصيل في كتب اليهود الأخرى مثل التلمود والمدراش وتاريخ يوسيفوس، فالتلمود يربطه بشخصية الملك آمرافيل - وهو اسم لملك آخر لا وجود له في ثبت الملوك الرافدانيين - الذي كان حاكما أيام النبي التوراتي إبراهيم. ونمرود أيضاً اسم يطلق على مدينة رافدانية، هي العاصمة الآشورية "كالحو/ كالخو" التي أصبحت في القرن التاسع قبل الميلاد عاصمة الإمبراطورية الآشورية الحديثة زمن الملك آشور ناصر بعل الثاني. والفترة الزمنية الفاصلة بين الملوك المعتبرين سومريين في زمن إبراهيم والمولود وفق التوراة تخميناً بين 2324-1850 ق.م، والآشوريين، طويلة جدا وتصل إلى قرابة ألف وخمسمائة عام مع اخذ الفرق بين التخمينين وهو أكثر من أربعة قرون ونصف بنظر الاعتبار. ولكن الاسم لم يرد قط بلفظ "نمرود" في السردية الرافدانية والآثار المادية التي عثر عليها، وخصوصا في أثبات وسِيَّرِ الملوك والمدن القديمة، غير أن الاسم الذي ابتكرته التوراة ساد بعدها في الثقافات اللاحقة وفي العصر الحديث بجهود المستشرقين الغربيين وغالبيتهم من رجال الدين المتأثرين أو المؤمنين بالتوراة.

ميزوبوتاميا/ ميتسوباتاميا: وهي مفردة أخذتها اليونانية عن الترجمة التوراتية السبعينية لاسم العراق القديم باللغة آرامية "بث نهرين/ أي بين نهرين". نجد أن بعض الباحثين والمترجمين والإعلاميين العرب - وحتى بعض العراقيين- يستعملون الترجمة الإغريقية «ميزوبوتاميا» للمصطلح الآرامي العريق «بيث نهرين/ بين نهرين» دون الإشارة إلى أنها ترجمة لهذا الأخير. ويصرّون أحياناً على استعماله بما يوحي وكأنه الاسم الأصلي للعراق القديم. والنهران المقصودان هما دجلة والفرات. وهناك مَن لا يستعمل عبارة «ما بين النهرين» أو مرادفها المعاصر «بلاد الرافدين» التي تعنيها تماماً، بل يكرر الترجمة الإغريقية «ميزوبوتاميا» بالحرف العربي؛ أمّا عبارة «العراق القديم» فهي من المهملات أو ربما المحرمات عند بعضهم، ولهذا التصرف تفسيراته التي لا علاقة لها بالموضوعية البحثية غالباً بل الجانب النفساني والسلوكي للباحث الفرد وبعدم معرفته بهذه المعلومة.

إن اعتبار مصطلح «بلاد ما بين النهرين/ بلاد الرافدين» ترجمة عربية مأخوذة عن المصطلح الإغريقي «ميزوبوتاميا/ ميتسوبوتاميا»، هو كلام خاطئ جملة وتفصيلاً، يتكرر في الموسوعات المعلوماتية على النت وفي الدراسات الإناسية الاستشراقية والعربية، وقد فرح به بعض العراقيين فأطلقوه اسما على دور نشر وجمعيات ثقافية ظانين إنه اسم عراقي قديم في حين أنه ترجمة أجنبية لاسم عراقي آرامي.

إن عبارة «بيث نهرين» الآرامية هي الأصل، وكانت متداولة في عهد الدولة الآشورية. هذه العبارة «بيث نهرين» هي الأقدم تاريخياً من ترجمتها الإغريقية «ميزوبوتاميا»، ثم الروماني لفترة قصيرة كاسم لمقاطعة محتلة من قبل الرومان في شمال بلاد الرافدين في عهد الإمبراطور تروجان سنة 116 م، حتى انسحاب الرومان منها في عهد هادريان بعد سنوات قليلة، والتي ولدت في القرن الثاني ق.م. وكما أن اللفظة الأصلية الآرامية «بيث نهرين» هي الأطول عهداً والأوسع استعمالاً والأقدم من ميزوبوتاميا الإغريقية بعدة قرون، ومرادفها العربي الصحيح والحرفي هو بلاد «ما بين النهرين»، واختُصرت في الاستعمال اليومي إلى «بلاد الرافدين» لخفّتها وسلاستها النطقية. وتكون النسبة إليها «الرافداني» على منوال «البحراني» وصنعاني وبهراني كما ورد في موسوعة «لسان العرب» لابن منظور ومراجع أخرى، في موضوع النسبة العَلَمية.

إنَّ اسم العراق الآرامي موثّق منذ اعتماد الآرامية القديمة كلغة مشتركة للإمبراطورية الآشورية الحديثة في القرن الثامن ق.م، وبعدها الفارسية الأخمينية. أمّا الاسم اليوناني، ميزوبوتاميا، فالأرجح أنه صيغ لأول مرة كترجمة لبث نهرين الآرامية في القرن الثاني ق.م، من قبل المؤرّخ بوليبيوس خلال الفترة السلوقية. وهناك صِيَغ أخرى قريبة في السريانية الكلاسيكية «الآرامية» الأقل شيوعاً الأخرى للاسم منها "بيت ناهراواتا" أي بين الأنهار، و "مشآت ناهراويتا" أي وسط الأنهار، وقد استخدم مصطلح بلاد ما «بين نهرين» في جميع صفحات الترجمة السبعينية اليونانية للتوراة (حوالي 250 قبل الميلاد) كترجمة معادلة للمفردة الآرامية والعربية "نهرايم".

وقبل شيوع هذا الاسم الآرامي أو خلاله استعمل اسم قريب في لفظه من "العراق" وهو " آراكيا -آراقيا" في وثائق آشورية تعود إلى القرن الثامن ق.م، كما أعلن المؤرخ الأميركي ألبرت أولمستيد ونشر واحدة من تلك الوثائق في مؤلّفه الضخم «HISTORY OF ASSYRIA»، وهو كتاب مهم ولكنه لم يُترجم إلى العربية حتى الآن، وقد ذكره العلامة العراقي الراحل طه باقر في كتابه «مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» الصادرة طبعته الأولى سنة 1951م، بشكل محايد وعرضي، ولكنه قال إن أولمستيد يعتقد أن اسم العراق جاء من إقليم أيرقا كاسم لبلاد بابل والذي انتشر في العهد الكيشي منتصف الألف الثاني ق.م في وثيقة تأريخية ترقى إلى القرن الثاني عشر («مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» - مج 1 - ص 21.

***

علاء اللامي

في المثقف اليوم