قضايا

صالح الطائي: القرآن وعلم الفيزياء ونهاية الكون

أسهب العلماء في الحديث عن نشأة الكون الأولى، ولهم في ذلك نظريات عديدة ومتنوعة، لا زالت رؤاها تتجدد مع كل اكتشاف واختراع جديد تجود به علوم الفضاء المعاصرة. وإذا ما كان الحديث العلمي في هذا الشأن قد جاء متأخرا نسبة إلى العمر الحقيقي للكون، فإن كتب الأديان السماوية المقدسة، اهتمت بهذا الجانب من أجل توظيفه في تبيان قدرة الله تعالى. وكانت الديانتان اليهودية والإسلامية من أكثرها حديثا عن النشأة الأولى، ففي التوراة هناك سفر كامل بعنوان (سفر التكوين)، جاء في الإصحاح الأول منه حديثٌ عن تفرعات بداية الخلق، وفيه عن بدء الخليقة: (في البدء خلق الله السموات والأرض)، وجاء وصفٌ لها بأنها: (وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه)، ثم جاء عن خلق النور والليل والنهار: (وقال الله ليكن نور فكان نور..  ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا وكان مساء وكان صباح يوما واحدا)، ثم جاء حديث شامل عن خلق الأرض وسمائها ومياهها ونباتها ومخلوقاتها؛ التي كان الإنسان آخرها خلقا. أما في الإصحاح الثاني فتحدث بداية عن الفراغ أو الانتهاء من خلق النشأة الأولى التي تلتها الاستراحة: (وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل)، وهكذا.

المهم أن الحديث التوراتي جاء عاما روتينيا قصصيا سرديا يكاد يكون خاليا من العمق الفكري والاستراتيجي والوجداني وحتى الوعظي، وهذا ليس لعيب فيه، وإنما لأنه جاء لتغطية حقبة زمنية، ستكون البشرية خلالها بعيدة عن إدراك حقائق النشأة، لأنها لا تملك الإدراك الكامل ولا الوسائل العلمية التي تعينها على فهمها.

أما القرآن؛ الذي يتفق المسلمون على أنه كتاب هداية لا كتاب علوم وقصص، والذي يمثل آخر رسالة سماوية إلى الأرض وسكانها، بمعنى أن حقائقه سوف تصطدم بالحقائق العلمية التي ستبتكر من خلال التطور العلمي المستقبلي، فقد تناول الحديث عن النشأة الأولى بكثير من الجدية والتركيز الذي يتماهى مع مساعي وتطلعات واستنتاجات العلماء المعاصرين، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ* وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ* وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِهَا مُعْرِضُونَ* وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الَّليْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، هذه الآيات التي قال ابن كثير في تفسيره لها: "كان الجميع [أي الكون كله] متصلا بعضه ببعض، متلاصق متراكم، بعضه فوق بعض؛ في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه. فجعل السماوات سبعا، والأرض سبعا".

وهذا أقرب ما يكون، بل هو تصوير في منتهى الوضوح لما اتفق عليه العلماء الفلكيون والفيزيائيون المتأخرون؛ الذين أطلقوا على عملية (الفتق) هذه اسم (الانفجار العظيم) (Big Bang)؛ الذي تناولته الكثير من الدراسات المعاصرة ووضعت بشأنه نظريات عديدة لا زال العمل على تطويرها جاريا.

كما أنه ليس من قبيل المصادفة أن تولد هذه النظرية العلمية التي تدعم الرؤية الدينية على شكل فرضية على يد رجل دين (كاهن) كاثوليكي بلجيكي هو العالم "جورج لومتر (1894ـ 1966) أستاذ الفيزياء في الجامعة الكاثوليكية، وهي التي تحولت في حدود عام 1927 إلى ما عرف لاحقا بنظرية الانفجار العظيم.  وقد اعتمد الإطار العام لنموذج الانفجار العظيم المتخيل على نظرية (النسبية العامة) لألبرت أينشتاين، وعلى تبسيط عدة فرضيات مثل: تجانس نظم الفضاء، وتوحد خواص الفضاء من خلال وضع معادلات رئيسية للنظرية على يد عالم الكون الفيزيائي والرياضياتي السوفيتي "ألكسندر فريدمان" (1888ـ 1925) ومن خلال الصيغ البديلة التي أضافها لها الرياضياتي والفيزيائي وعالم فلك الهولندي "فيليم دي سيتر" (1872ـ 1934).

لكن هذا لا يعني أن النظرية أصبحت من المسلمات العلمية إذ هناك من نفى وقوع الانفجار العظيم، ولكنه عجز عن نفي الوجود الأول المجتمع الموحد للكون، وبالتالي كان مطالبا بالبديل الذي عجز عن تقديمه، ومن هؤلاء العالم الفيزيائي الهولندي "إريك نوردنسكيولد فرلنده" (1832ـ 1901) الأستاذ في جامعة أمستردام؛ الذي يرى أن هناك وجودا قبل الوجود، وأن الكون لم ينشأ نتيجة الانفجار، بل نشأ من شيء كان موجودا بالفعل، نشأ من المادة المظلمة والطاقة. ولكي يثبت نظريته أنطلق من فرضية أنه كان هناك دائما شيء ما موجود، انبثقت منه المادة كما نعرفها الآن، ويمكن لها أن تختفي فيه مجددا، هذه عملية لا تنتهي أبدا.

رأي إريك كان عبارة عن فرضية فلسفية وجدت بالتأكيد من عارضها من العلماء، مع أن قوله كاد أن يكون في منتهى القرب من قول القرطبي في تفسيره: "كانت السماء مخلوقة وحدها والأرض مخلوقة وحدها، ففتق من هذه سبع سماوات". وبين القرطبي أن المقصود بالفتق: "فتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات"، ولكنه رأي يأتي على خلاف ما أكدته التقنيات العلمية الحديثة، التي أكدت بالملاحظة الدقيقة حقيقة حدوث الانفجار العظيم، ولاسيما بعد اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون في عام 1964، واكتشاف أن طيفها يتطابق مع الإشعاع الحراري للأجسام السوداء، الذي دعمته المعلومات التي أرسلتها المحطات الفضائية السوفيتية عام 1986 مؤيدة نظرية الانفجار العظيم، والتي توافقت كليا مع المعلومات الدقيقة التي أكدها القمر الصناعي الذي أطلقته وكالة الفضاء الأمريكية (NASA) عام 1989 وهي معلومات عن صحة نظرية الانفجار العظيم.

وإذا ما كان سفر التكوين قد تجاوز الحديث عن عودة الكون إلى نشأته الأولى، فإن القرآن لم يهمل هذا الجانب، وهناك عدة آيات صريحة تتحدث عن فناء الأكوان في آخر الزمان، منها في الأقل قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}؛ التي قد تفسر على أن المقصود بها هو أن خلق الإنسان من العدم لا يستحيل معه إعادته في يوم الحساب من العدم مرة أخرى، هذا بالرغم من ارتباط الكلام بما سبقه ارتباطا وثيقا، وقد ذهب إلى ذلك ابن كثير في قوله: "وقوله: (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) يعني: هذا كائن لا محالة، يوم يعيد الله الخلائق خلقا جديدا، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم، وذلك واجب الوقوع". وهذا أحد رأيين أوردهما ابن كثير، والرأي الثاني منهما، يناقض القول الأول، وفيه، "عن ابن عباس في قوله: (كما بدأنا أول خلق نعيده) قال: نهلك كل شيء، كما كان أول مرة"، وهو قول يناقض قول القرطبي السابق وقول إريك أيضا.

أما العلم فإنه لا يستبعد فناء الكون، وللعلماء نظريات كثيرة في هذا الشأن، منها ما يتحدث عن دمار شامل، ومنها ما يتحدث عن الدمار الجزئي مثل انتشار الفيروسات مثلما حدث مع فيروس كورونا، وهذا الدمار الجزئي هو الذي سيغير وجه الكون ويمهد للفناء الكلي، وكانت من آخرها نظرية عالم الفيزياء الفلكية في جامعة سوسكس (University of Sussex) الفيزيائي "جيليان سكادر" التي تتحدث عن الدمار الجزئي؛ الذي سيتسبب في فناء الأرض، والذي قال عنه: "إن اليوم الذي ستدمر فيه الشمس كوكب الأرض سيكون أقرب مما نعتقد، وأن الشمس سوف تفقد كل مدخراتها في نهاية الأمر، لتتحول إلى قزم أبيض، سوف يتلاشى من الوجود كما لو أن الشمس لم تستضيف الكواكب الأكثر حيوية على الإطلاق من بين كل الاكتشافات السابقة في الكون".

أذَّكر في الختام أننا كدين سماوي لا يمكن أن نعوِّل على نتائج الأبحاث العلمية فيما يخص الغيبيات أو الأمور المتنازع عليها، ولا نؤمن بها كمسلمات يقينية؛ لعدة أسباب منها:

- إيماننا الراسخ بقوله تعالى: {يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ}.

- ولأننا نعتقد أن تطور العلم لابد وأن يُسْقط نظريات، ويأتي بنظريات أخرى، قد تكون مخالفة لها.

ولكن ذلك لا يعني أن جميع ما يأتي به العلم لا يؤخذ به، فالإسلام أولا وأخيرا دين علم، أمر بطلب العلم ولو كان في أقصى الدنيا، وأوجب طلب العلم على المسلمين من كل الأعمار، وفي كل الأوقات، من المهد إلى اللحد. والعلم عند الله سبحانه وتعالى.

***

الدكتور صالح الطائي/ الكوت 

في المثقف اليوم