قضايا

محمود محمد علي: علي الوردي.. قطرة العبير في الطريق للتنوير

هنالك تنويريون مغامرون مسكونون بالقلق والسؤال، شغلتهم أحوال مجتمعاتهم التي تدور فيها العدل، وكثر الظلم، متعثرة في خطواتها، تغرق في الآثم مخلفات التاريخ وتجتر الجاهز من الأجوبة، هم خردوا عن المألوف في التفكير وفي تشخيص أعطاب المجتمع، فآثارت أطروحاتهم عصفًا من السجال والنقاش لم يهدأ قبل أن اتخذ شكل مرتكزات جديدة في أنواع المعرفة، فصاروا من المؤسسين. لذا لم يكونوا عادلين في زمانهم أو مقلدين، بل مقيمين في أزمنة مستقبلية بعد رحيلهم، وذلك عبر انجازهم المعرفي الذي كسر ما مألوف ومطمئن؛ إذ إنهم حركوا الساكن، وتجرأوا على المسكوت عنه، فحُوربوا من الذين وجدوا فيهم تهديدًا لسلطتهم وطمأنينتهم، فهم لم يطرقوا الأبوال الموصدة لمتعة شخصية، أو غاية نرجسية، بل لغاية الإصلاح، وتطوير المجتمعات، وتحصينهم بالمعرفة الخلاقة، فهم زعزعوا الثابت، والذي يبدو أبديًا في الثقافة المتحجرة عبر تفكيكه وتشريحه لغرض الاستدلال والإشارة إلى أسباب العلة. هم فلاسفة ومبدعون.. علماء من بلاد العراق حطموا صدمية العقل.

قصدت من هذا القول الدكتور علي حسين محسن عبد الجليل الوردي (1913- 13 تموز 1995 م)، ذلك العالم العراقي الشهير الذي حاول تفسير المجتمع العراقي على ضوء فرضيات ثلاث: صراع البداوة والحضارة، التناشز الاجتماعي، ازدواج الشخصية. سنتناول الآن هذه الفرضيات بإيجاز.

1ـ صراع البداوة والحضارة:

يتضح هذا الصراع بأجلي مظاهره في العراق كما ذكر الوردي، فالعراق هو "بلد هابيل وقابيل" بحسب المؤرخ المعروف آرنولد توينبي، وهذا هو الذي جعل المجتمع العراقي عُرضَة لمد البداوة وجزرها على توالي العصور، يأتيه المد البدوي تارة وينحسر عنه تارة أخرى حسب تفاوت الظروف. وأطول فترة سيطر فيها المد البدوي على العراق، كما احتمل الوردي، هي الفترة الأخيرة التي بدأت بسقوط الدولة العباسية أو قبلها بقليل، لتستمر لستة قرون.

2ـ التناشز الاجتماعي:

جاءت الحضارة الحديثة إلينا بأفكار ومبادئ وقيم تناقض عاداتنا الاجتماعية القديمة، مثلًا: جاءت بمبادئ المساواة والعدالة والديمقراطية والحرية والوطنية، وهذه لا تنسجم في حقيقة أمرها مع قيم العصبية والقرابة والجيرة والنخوة والدخالة وحق الزاد والملح. جاءتنا هذه الأفكار الحديثة من طُرقٍ متعددة، المدارس والأحزاب والحفلات والمظاهرات والصحف والكتب والإذاعات والتمثيليات، فحفظناها بسرعة لأنها تلائم ما نشعر به من طموح أو نتحسس به من آلام، ولكننا حين فعلنا ذلك لم نستطع أن نُغير عاداتنا الاجتماعية التي نشأنا عليها بمثل هذه السرعة التي غيّرنا بها أفكارنا.

3ـ ازدواج الشخصية:

تعني أن يسلك الإنسان سلوكًا متناقضًا دون أن يشعر بهذا التناقض في سلوكه أو يعترف به، وهو ينشأ عن وقوع الإنسان تحت نظامين متناقضين من القيم أو المفاهيم. وينتشر الازدواج في البيئات الدينية المتزمتة التي تُكثِرُ من الوعظ، إذ يتأثر الشخص بالوعظ ظاهرا، لكنه يسير في حياته حسب القيم المحلية المناقضة للتعاليم الدينية كل المناقضة.

ولهذا فقد قال عنه الدكتور عبد الحسين شعبان بأنه امتاز بثلاث صفات مهمة : امتاز بالشجاعة اللامنتاهية، عارض الجميع أو عارضه الجميع ولم يبالي، واخذ يبشر بأفكاره ووجهات نطره واستنتاجاته، امتاز باستقلالية حادة كحد السيف، لأنه لم يتخلى عن استقلاليته على الإطلاق، والشيء الآخر الثالث أنه كان مجتهدًا لم يكرر مقولات تقليدية، وإنما جاء بأشياء جديدة، وأهم كتاب تأسيسي لفكر علي الوردي هو كتاب وعاظ السلاطين، وهذا الكتاب نشره عام 1954 حيث ثار على رجال الدين جميعهم : سنة وشيعة، وهذا ما أثار عليه اليساريين واليمنيين ورؤساء العشائر، وكذلك المؤسسة التقليدية بجميع أركانها حيث واجهته، حيث خاصمه الجميع ولكن بقىّ ثابتًا لا يبالي أحد، حيث كان يستدرجهم أكثر للحوار وللسجال وللنقاش لأنه كان يشعر أنه الأقوى، يختبر صحة الأفكار للتطبيق.

أما حسن العلوي فقد قال عنه في كتابه عمر والتشيع : علي الوردي رائدًا: يُحَدّد الدكتور علي الوردي ثنائية الانقسام بفصلٍ مُوَسّع من كتابه "مهزلة العقل البشري" على ضوء قوانين علم الاجتماع، وببساطة وعفوية وبحياد وشجاعة رائدة مما يوجب علينا التوقف عن السرد والاستطراد، لنفسح المجال لرؤية الوردي أن تأخذ مداها الكامل، باعتباره أول عالم اجتماع وأديب ينتسب إلى أسرة شيعية فيسخر من المنهج الصفوي ورواياته مثلما ينتقد المنهج الأموي في تفسير التاريخ الإسلامي. والذي يبدو أن علي شريعتي قد تأثر بمنهج الوردي، أو أن الوردي هو الذي أيقظ في روح هذا المفكر عنفوان الاحتجاج والتمرد.

كما قال عنه الدكتور على المهرج بأنه أهم المفكرين في علم الاجتماع وهو مفكر إشكالي.. استطاع أن يخترق الوسط الأكاديمي ليدخل في الوسط الثقافي بشكل عام والوسط الاجتماعي لحلل ويطرح مجموعة من الرؤى التي جعلت كثير من العراقيين يستشهدون بها، وكأنها بديهيات للحكم على الشخصية العراقية.

أما المفكر الماركسي فالح عبد الجبار فقال عنه : ابتدع الوردي في هذه الرحلة طريقا ثالثا للخروج من إسار الفكر القومي المتزمت، أو قواعد الفكر اليساري في صيغته المتحجرة. ولم يكن من باب المصادفة أن يدعو إلى مجتمع يعتمد الليبرالية السياسية. كان يحرص على تفرده في مجتمع يبغض الفردية، وينفتح على كل النظريات في مجتمع يُحوّل النظرية إلى معتقد ديني، ويمضي في البحث وسط مؤسسات علمية خاضعة لجبروت الدولة، ومجردة من حرية التفكير والبحث الطليق. هذا وحده إعجاز!

هذا وغيره من أفكار على الوردي جعله رائدًا من رواد التنوير، ودعاة التحديث والإجهاز ما يعيض الحركة، لذلك وضع التاريخ والأفكار على طاولة البحث والتشريح، وأشار إلى الأطراف الهالكة في جسم المجتمع والذي شوشت شخصيته وجردتها من حريتها وحركتها في التعبير والتأمل وأعاقت خطواته في التقدم للمشاركة للمنجز الحداثي فكرًا وعلمًا وتقنية.

ولهذا يعد علي الوردي كما قال ابراهيم الحيدري معلماً كبيراً من معالم الفكر الاجتماعي ورائداً من رواد الفكر التنويري، النقدي في العراق، الذي شغل فراغاً واسعاً في الحركة الفكرية والثقافية والاجتماعية، وخلف وراءه ثروة فكرية قيمة كانت حصيلتها ستة عشر مجلداً ومئات الدراسات والبحوث العلمية والمقالات الصحفية، في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي. وبوفاته خسر العراق رائداً من رواد الفكر الاجتماعي في العصر الحديث

لقد كان الوردي شاهداً على أحداث قرن بكامله تقريباً، فقد فتح عينيه مع بدايات الحرب العالمية الأولى، وأسدلها وما زالت حرب الخليج الثانية لم تنته بعد. وكان في كل ذلك حاضراً، يستقرء الأحداث ويحللها وينقدها بأمانة، نابعة من استقلاليته الفكرية وموضوعيته العلمية، كما كان حاضراً وما يزال في وجدان ثرائه ويريده وأصدقائه وحتى نقاده لأنهم وجدوا في آرائه وأفكاره النقدية كثيراً من الأجوبة على تساؤلاتهم وتشخيصاً للكثير من مشاكلهم، وبخاصة ما يرتبط بازدواجية القيم. التي نتجت عن الصراع بين البداوة والحضارة، ومحاولته رسم ملامح شخصية الفرد العراقي وازدواجيتها، وكذلك ما أفرزته الحداثة والتحديث من تغير وتحول وصراع وتناشز اجتماعي. وهي مؤشرات على ما يحمله عراق اليوم من معاناة، والتي تنعكس على حالة الشكوى والتذمر التي تلفه والضياع الذي يحيط به، وذلك بسبب ما أصابه من مآسي ومحن ومظالم خلفتها سلسلة الحروب والانقلابات وتغير الأنظمة والحكومات واستبدادها.

وكان الوردي قد أشار منذ أكثر من نصف قرن، وبجرأة متميزة وفكر ثاقب، إلى الكثير من الظواهر الاجتماعية السلبية والعادات والتقاليد البالية التي ما زالت تؤثر فينا وتنخر في مجتمعنا وتسيطر على تفكيرنا وسلوكنا، فكشف عنها وحذر العراقيين من مغبة استفحالها أو إعادة إنتاجها وترسيخها من جديد. وبذلك يمكننا اعتباره أول عالم اجتماع درس المجتمع العراقي وشخصية الفرد فيه دراسة اجتماعية-تحليلية رصينة، وأول من استخدم منهجاً أنثرو-سوسيولوجيا في دراساته وبحوثه، وأول من غاص في جذوره الخفية منقباً عن الظواهر الشاذة والغريبة وغير السوية، التي ليس من السهل التعرض لها ونقدها، لشدة حساسيتها الاجتماعية والدينية والسياسية.

ولذلك نستطيع القول كما قال ابراهيم الحيدري أن الوردي هو أول من شخص تلك الظواهر الاجتماعية المرضية التي رزح تحت ثقلها المجتمع العراقي سنيناً طويلة، وبذلك استطاع أن يضع يده على الجرح العراقي العميق وقال: هذا هو الداء..ساهم الوردي مساهمات جادة فيما طرحه من أفكار وفرضيات في دراسة المجتمع العراقي وكرس حياته كلها لها، محاولاً تحليل أنماط الثقافة والشخصية من خلال تتبعه للتحولات الاجتماعية والتبدلات البنيوية التي حدثت في العراق والعالم العربي والإسلامي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وما أفرزته من صراعات وتناشز اجتماعي بين القديم والحديث وبين البادية والحضر، التي شرحها في كتابه "شخصية الفرد العراقي"

وتعتبر مؤلفاته العديدة، وبخاصة "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"، وكذلك موسوعته الاجتماعية "لمحات من تاريخ العراق الحديث"، بمثابة مراجعة جديدة وشاملة لتاريخ العراق الاجتماعي وفتح فيه باباً واسعاً للوعي به وإعادة إنتاجه من جديد، ولكن بشكل جديد ونقدي، مثلما وضع تصوراً واضحاً للتركيبة السكانية والمجتمعية التي هي تشكيل لظروف وشروط تاريخية واجتماعية واقتصادية-سياسية ما زالت تعيد نفسها اليوم، تلك المقدمات السوسيولوجية التي بينت بوضوح عمق ما يحمله العراق اليوم من تناقضات وصراعات واختلاف لا نعرف بعد نتائجها الوخيمة. إن كتابات الوردي ومحاولاته ومناقشاته العلمية كانت إسهاماً ثرياً ومثيراً أغنى الحركة الثقافية والاجتماعية في العراق وتركت قراء وتلاميذاً ومريدين ما زالوا يستنيرون بأفكاره الاجتماعية الثاقبة وآراءه الجريئة ومنهجيته الفريدة التي حصلت على اهتمامات فئات اجتماعية عديدة ومختلفة وذلك كما قال ابراهيم الحيدري.

وللكاتب الماركسي صادق البلادي بضع مقالات نوعية ناقش فيها جانباً من جوانب فكر علي الوردي مناقشة هادئة وعميقة، كأن يقف عند مفهوم ما من مفاهيم الوردي أو يرصد لديه تأويلا معينا، فيجادله موافقا أو معارضا. وقد يثيره مقال كُتب عن فكر الوردي فيعمد إلى الإدلاء برأيه حول ما طرحه ذاك المقال من رأي، موظفاً معرفته بفكر علي الوردي وكيف أوصله التذبذب في تبني طروحات الماركسية إلى بعض الثغرات والهنات التي أخذها عليه معارضوه وبعض منهم من الشيوعيين الذين اعترضوا عليه بردود أفعال قوية تارة ولينة تارة أخرى وبحسب طبيعة الفكرة التي يبادر الوردي إلى طرحها.

وهذا برأينا هو ما جعل الدارسين لفكر الوردي ينقسمون بين اعتباره شيوعياً يوالي الفكر الماركسي ويتبناه، وبين من يعتبره لا منتميًا يصادي الماركسية، متحينا الفرص للإيقاع بالشيوعية في شرك التشكيك والدحض. وعلى الرغم من أن الدكتور الوردي كان معروفاً بميوله لثقافة الحوار والتنوير العقلي، وبهما تعدى حدود السياسة بكل تحزباتها وتنظيماتها اليسارية أو الديمقراطية، فإن هذه الميول لم تمكنه من صنع رأي عام ديمقراطي يساهم في تنمية الوعي الشعبي. هذا الوعي الذي لم يكن ضمن أولويات الوردي بعكس الأحزاب التي تضع الرأي العام في مقدمة أولوياتها ساعية إلى تحقيقه مناهضة بذلك الفكر الرجعي المتعصب والمحافظ ومقاومة الأساليب الفاشية الراكدة التي أكل الدهر عليها وشرب والتي هي بمجموعها تخدم المصالح الإمبريالية.

وكان يمكن للوردي أن يكون مساندا القوى التقدمية في معركتها مع القوى الرجعية لو أنه ناصر طروحات اليسار العراقي ولم يدخل في ما يشبه التعارض مع فكرهم حتى أن بعضهم تصور الوردي يعادي الشيوعيين ويكرههم.

ومن المقالات التي أثارت اهتمام الاستاذ صادق البلادي المقال الذي كتبه وليد نويهض في جريدة الحياة اللندنية عام 1996 وعنوانه” كيف قرأ علي الوردي الشخصية العراقية في ضوء منهج ابن خلدون.؟” متحصلا فيه على فكرة “أن علي الوردي يكره الشيوعيين وأن الشيوعيين يكرهونه”. الامر الذي جعل الاستاذ البلادي يكتب مقالا عنوانه( الشيوعيون وعلي الوردي) رد فيه على نويهض، نافيا فيه عن الوردي النظرة السكونية والأحادية، ملقيا باللوم لا على فكر الوردي وإنما على محللي هذا الفكر الذين يتناسون ما للقوى الحزبية من ثبات وانحياز وما للوردي من تبدل ولا انتماء.

تحية طيبة لأستاذنا الدكتور علي الوردي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

............................

المراجع

1- علي الوردي: من وحي الثمانين، جمع وتعليق: سلام الشمّاع، مؤسسة البلاغ، الطبعة الأولى 2007.

2- علي الوردي: وعاظ السلاطين، دار كوفان لندن، الطبعة الثانية 1995.

3- روافد | الكاتب والباحث العراقي علي الوردي - الجزء الأول يوتيوب.

4- د. نادية هناوي: علي الوردي في مرايا الآخرين.. مثال منشور في الصباح بتاريخ 2021/05/12

5-إبراهيم الحيدري : علي الوردي: شخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية، منشورات الجمل، 2006.

6- معاذ محمد رمضان: علي الوردي.. قنطرة المرور إلى التنوير، مقال منشور بالبوابة نيوز.. الثلاثاء 13/يوليو/2021 - 09:08 م.

في المثقف اليوم