قضايا

فالتر بنيامين: الـرّاوي

فالتر بنيامين

ترجمة : عبد الوهاب البراهمي

***

(ستشعرون كيف أنه كان على الشعوب أن تروي في طفولتها عقائدها وخرافاتها وتنشأ تاريخا لكلّ حقيقة أخلاقية)... جان ميشليه ، الشعب.

I

" إنّ الرّاوي، ومهما كان هذا الاسم مألوفا لدينا، فهو أبعد عن أن يكون حاضرا بيننا تماما في نشاطه الحيوي. إنّه بعدُ بعيد جدّا عنّا و يزداد بعدا. فليس تقديم شخص مثل ليسكوفي Leskov1  بوصفه راوٍ narrateur، هو تقريبه منّا ، بل بالأحرى زيادة المسافة التي تفصلنا عنه. وإذا ما لاحظنا من مسافة معينة  السمات الكبرى البسيطة التي تكوّن الراوي تفوّقت عليه. فتبدو بأكثر دقّة على نحو ما نقف أحيانا على صخرة ، حالما نلحظها من نقطة مقصودة، شكل رأس أو جسم حيوان. إنّ ما يرسم هذه النقطة لدينا هي تجربة يومية. فهي التي تخبرنا بأنّ فنّ الحكاية يقترب من النهاية. ومن النادر جدّا اللقاء بأناس قادرين على حكي شيء ما في المعنى الحقيقيّ للكلمة. من هنا يكون الإرباك العام حينما  يقترح أحدهم ، أثناء سهرة ، أن نروي لبعضنا بعضا حكايات. وقد نقول بأنّنا نفتقر الآن لملكة تبدو لنا غير قابلة للإستيلاب ، وأكثر ضمانة من سائر الملكات: ملكة تبادل تجاربنا.

من اليسير تصوّر أحد أسباب هذه الظاهرة: انخفاض مسار التجربة. انخفاضا يبدو أنه يمدّد في انهيارها. ما من يوم لا يثبت لنا بأنّ هذا الانخفاض قد بلغ مستوى قياسيا، وأنّ صورة العالم الخارجي لم تتأثرّ فحسب بالتغيرات الكبيرة التي تبدو مستحيلة من قبل، بل أيضا صورة العالم الأخلاقي. ظهر مع الحرب العالمية مسار، لم يتوقف منذ ذلك الوقت. ألم نلاحظ زمن الهدنة أن الناس عادوا صامتين من جبهة القتال ؟ هم لم يغتنوا فيها بتجربة تواصلية بل عادوا منها فقراء. وما الغريب في ذلك؟ ما من تجربة قطّ قد وقع نفيها بالأساس، قدر ما كان من التجارب الاستراتيجية لحرب المواقع، التجارب المادية بفعل التضخّم والأخلاقية بالحكومات. فالجيل الذي يركب بصعوبة الترامواي للذهاب إلى المدرسة،  يجد نفسه في الهواء الطلق، في منظر لم يبقى فيه شيء لم يتغيّر سوى السّحاب؛ و، وجسم الإنسان الصغير الضعيف في مجال عمل التيارات المميتة والانفجارات المؤذية.

II

إنّ تجربة النقل الشفوي هي المنبع الذي يشرب منه جميع الرواة. ومن بينهم من وضع حكايات بواسطة الكتابة، فأولئك هم الرواة الكبار الذين يبتعد النص لديهم على الأقلّ عن كلام الرواة المجهولين الذي لا يحصرهم العدّ. يجب فيما يبقى أن نميّز من بين هؤلاء الرواة فريقين لا يكفاّن عن التداخل فيما بينهما. فشخصية الراوي لا تستمدّ اكتمالها إلاّ من هذا الأصل المزدوج. يقول المثل السائر الأماني :" بعضهم شاهد كثيرا ليحتفظ بالكثير"، ويقدّم الراوي نفسه بوصفه إنسانا عائد من مكان بعيد. غير أننا نجد لذّة كبيرة في الاستماع لمن ظلّ في بلده ويعرف حكاياته وتقاليده ، و يكسب قوته بشرف. هكذا يمثلّ كل من الفلاح المقيم في أرضه والبحّار التاجر، النمط التقليدي للفريقين. وبالفعل، تنتج بيئة كل منهما سلالتها الخاصة من الرواة. ولا يبقى على الأقلّ سوى أن نتصوّر مجال الحكاية في كلّ اتساعها التاريخي دون تداخل حميميّ متبادل لكل من هذين النمطين التقليديين. إنّ العصر الوسيط بالخصوص الذي، وبفضل الترافق في العمل، قد حقّق مثل هذا التداخل. فصاحب العمل المقيم ومرافقيه يقومون بجولة في فرنسا وهم يعملون معا في الورشة، وكلّ صاحب عمل يقوم بجولته في فرنسا قبل أن يستقرّ في بلده أو بلد آخر. فإذا صحّ أن المزارعين والبحّارة كانوا هم أسياد فنّ الحكاية، كان الصانع من جهته أرقى توجهات هذا الفنّ. فلديه ترتبط رسالة البلدان البعيدة التي يحملها كلُّ من سافر كثيرا، برسالة الماضي التي تحبّذ في الحضريّ أو المقيم كونه إنسانا كاتما للسرّ. على هذا النحو تكوّنت شخصية الراوي الذي، مثلما قال جان كاسو، وهب للحكاية نبرتها وأدرك واقعها، الذي يودّ القارئ أن يلجأ إليه أخويا وأن يعثر فيه على قدرِ، ومستوى المشاعر والوقائع الإنسانية العادية. (....)

إنّ المؤشّر الأوّل لمسار أفضى إلى انهيار الحكاية هو تطور القصّة في بداية العصور الحديثة. إنّ ما يميّز القصّة عن الحكاية أو الرواية (وعن جنس الملحمي تحديدا)، هو كونها ترتبط أساسا بالكتاب. فلا يمكن للقصّة أن تنتشر إلاّ انطلاقا من اختراع الطباعة. بينما تكوّن التقليد الشفوي - وريث الجنس الملحمي - على نحو آخر غير ما يصنع أساس القصّة. إنّ ما يقابل القصّة بكلّ أشكال النثر وقبل كلّ شيء بالحكاية أو الرواية، هو كونها لا تنتج عن التقليد الشفوي ولا تعرف كيف تلتحق به.

إنّ ما يحكيه الراوي ، يستقيه من التجربة، من تجربته الخاصّة أو التجربة المتبادلة. فيجعل منها بدوره تجربة من يستمع لحكايته. وعلى العكس، فقد انحبس القصّاص في عزلته. لقد تكوّنت القصّة في أعماق الفرد المنعزل، الذي ليس له القدرة على أن يتكلّم بطريقة دقيقة عما هو أحبّ إلى قلبه، والذي يفتقر إلى النصح ولا يعرف كيف يقدّمه.

إنّ كتابة قصّة، هو أن نخرج بكل ّ الطرق ما يتعذّر قيسه في الحياة. في فسحة الحياة بالذات و تكشف القصّة، بتمثيل هذه الفسحة، عن عمق وهن إرادة الكائن الحيّ. وأولى الأعمال لهذا الجنس من الكتابة هو دون كيشوت، الذي يبيّن لنا كيف أنّ عظمة الروح والجرأة ودأب الإنسان الأكثر نبلا على المساعدة هي خالية تماما من النصح السديد ولا تتضمّن أي قبس من الحكمة.

VI

يجدر أن نتمثّل تغيّر أشكال ملحمية في إيقاع على نحو إيقاع التحوّلات التي عرفتها الأرض طيلة آلاف السنين. ومن بين جميع أشكال التواصل بين البشر، لم يوجد أكثر من القصّة شكلا اكتُسب ببطء وانحلّ ببطء. كان على القصّة التي تعود جذورها إلى العصر القديم، أن تنتظر قرونا عديدة قبل أن تعثر في البورجوازية الصاعدة العناصر التي لابدّ أن تولدّ ازدهارها. إنّ ظهور هذه العناصر الجديدة هو الذي أثار الاستبعاد التدريجي للحكاية في المجال التقليدي؛ فإذا استخدمت الحكاية غالبا المحتوى الجديد ، فهو لم يكن مع ذلك محتوى محدّدا حقّا. ونرى من جهة أخرى، في قمّة العصر البورجوازي الذي وَجد في الصحافة أحد أدواته الأكثر أهمية ، ظهور هذا الجنس الجديد من التواصل.  وأيّ كان منبته قصيّا ، فهو جنس لم يؤثّر بعدُ على الشكل الملحمي بصورة محدِّدة. بيد إنه يفعل ذلك الآن. ونحن ندرك أنه ليس أقلّ غرابة قطّ ، بل أكثر فتكا بالحكاية كما القصّة التي ستشهد من جهتها في النهاية أزمة. وهذا الجنس الجديد من التواصل هو الإعلام".

***

..............................

* فالتر بنيامين " الرّاوي".. تأملات في مؤلف نيكولا ليسكوف (القسم الأول).

LE NARRATEUR. RÉFLEXIONS À PROPOS DE L’ŒUVRE DE NICOLAS LESKOV (PREMIÈRE PARTIE), PAR WALTER BENJAMIN.

في المثقف اليوم