قضايا

ثامر عباس: انتعاش السرد التاريخي في المجتمعات المتصدعة..

دليل أزمة أم مؤشر وعي؟!

لوحظ في الآونة الأخيرة زيادة غير مسبوقة في مضمار (الكتابة التاريخية) والسعي خلف مصادرها، لاسيما تلك التي تستحضر الماضي ولكن استيحاء وتستعيد التاريخ ولكن على وجل. وبرغم تنوع تلك الكتابات وتعدد مشاربها من حيث طبيعة الأفكار التي تستلهمها وماهية المنطلقات التي تحفزها، إلاّ أن ما يؤخذ على أغلبها انعدام الجرأة النقدية وتحاشي الخوض في غمار المحظور السوسيولوجي، والحفر في المطمور الانثروبولوجي، والنبش في المستور السيكولوجي لذلك الماضي، وذلك من منطلق عدم إثارة النعرات والحساسيات العصبية بين الجماعات المجيشة نفسيا"والمستنفرة سياسيا"على الدوام. بل والأنكى من ذلك، ان النادر من تلك المحاولات والمبادرات الاستثنائية من تناولت المواضيع المتعلقة بتلك الحقب المندرسة من منظور (النقد) العقلاني و(التحليل) الموضوعي، بدلا"من أن تنخرط في (التمجيد) الإيديولوجي و(التطبيل) السياسي، كما بات شائعا"في مثل هذه البحوث والدراسات.

وفي الحقيقة ان دوافع هذا التوجه الاستثنائي نحو المبحث التاريخي الشائك، لا يعدم التعبير عن ظاهرة مألوفة باتت لصيقة ببنية الفكر العربي الحديث والمعاصر وهي ابتلائه بلوثة (التقليد) التي تجسدها خطابات النخب العراقية والعربية المأخوذة ب (الحداثة) والمبهورة ب (التنوير)، والمتمثلة في (إتباع) كل ما يصدر عن مراكز الفكر الغربي من موجات فلسفية وموديلات منهجية لا يفتأ بعضها ينقض البعض الآخر وفقا"لديناميات الجدل الهيجلي المتصاعد، والتي كان من نتائجها تمخض مجموعة من المنظورات الفكرية والمداخل المنهجية ذات الطابع الجذري في مضامير التحليل والتأويل من مثل: (الاركيولوجية) و(الجينالوجية) و(التفكيكية) الخ. حيث دأب أصحابها على تناول حقبة (الحداثة) وما صدر عنها وارتبط بها وتأسس عليها، على أسس تاريخية ومعرفية ذات طبيعة (نسبية) متغيرة ومتنوعة ابتداء من (نيتشه) و(ماركس) و(فرويد)، وليس آخرهم (فوكو) و(دريدا) و(بودريار) وسواهم من الفلاسفة والمفكرين، ممن استطاعوا اجتراح فكريات ومنهجيات قلبت المسلمات والتواضعات السابقة رأسا"على عقب، حيث أخضعت براديغماتيات وسساتيم العلوم الاجتماعية والإنسانية لنقد جذري واسع المدى وعميق الأبعاد لم تزل آثاره على مختلف الصعد فاعلة لحد الآن.

ولعل في إطار هذا المنعطف يعتبر علم (التاريخ) من أبرز العلوم الاجتماعية والإنسانية التي حضيت باهتمام متزايد من لدن رهط لا تني قاعدته العلمية والأكاديمية من الاتساع جغرافيا"والتنوع ثقافيا"، ليس فقط لجهة التوسيع في مجالاته والتنويع في مباحثه والتطوير في مناهجه فحسب، وإنما لجهة شرعنة التداخل في الاختصاصات والتفاعل في المجالات والتواصل في الاهتمامات أيضا". ولهذا فقد نحت الدراسات التاريخية المعاصرة منحا"مغايرا"عما كان سائدا"في الماضي، حين كان التركيز ينصب على الأمور المتعلقة بالسياسة (طبيعة الدول ومؤسساتها)، والقضايا المرتبطة بالسلطة (أنماط الحكومات والحكام)، دون يصار الى مراعاة الجوانب الأخرى والمجالات المختلفة التي لا يمكن للباحث الفطن – دون استحضارها واستنطاقها - فهم واستيعاب صيرورات الظواهر الاجتماعية وتبلور خصائصها النوعية، ناهيك عن تحليل سيرورتها وتأويل معطياتها سواء في حالات الظروف الطبيعية أو الأوضاع الاستثنائية. وهذا بالضبط ما فعله رواد مدرسة الحوليات الفرنسية – وفي مقدمتهم (فرنان برودويل) - الذين وضعوا مبحث التاريخ على مسارات جديدة ومنطلقات مبتكرة، أفضت لاحقا"الى حدوث (ثورات) معرفية و(انقلابات) منهجية غيّرت المعنى التقليدي التاريخ، واجترحت له من ثم حقول معرفية مثمرة في مجالات الجغرافيا والاقتصاد والاجتماع والثقافة والهوية والسيكولوجيا والآداب والفنون، الخ.

والجدير بالذكر أن الوقوف على ظاهرة ما اعتبرناه (انتعاش) السرد التاريخي في مثل هذه الأجواء الاجتماعية والظروف الاقتصادية والأوضاع الثقافية والسياقات التاريخية، المفعمة بتطوير المعارف وتنوير الذهنيات وتثوير الإرادات وتغيير العلاقات، لا يمكن للشك أن يداخلنا إزاء حقيقة أن المجتمع الذي يمر بمثل هكذا تحولات وانزياحات، لابد وأن يكون قد قطع أشوطا"واسعة في مضامير تشذيب الماضي من خرافاته، وتقويم التاريخ من انحرافاته، وتحرير الوعي من عصبياته. وهو الأمر الذي يسوقنا الى تبني الانطباع الذي مؤداه؛ ان زيادة اهتمام المجتمع المعني باللجوء الى (السرد التاريخي) في مثل هذه الحالة، لا يمكن أن يدلل على أن هناك ما يوحي بوجود أزمة بنيوية تفضح هشاشة المجتمع وتهدد كيانه، بقدر ما يؤشر على أن هناك مخاضات نهضوية متفاعلة العلاقات ومتواصلة التأثيرات، مقدر لها أن تشي بمتانة المدماك الحضاري ورصانة الوعي الاجتماعي.

وإذا ما نظرنا الى ذات الظاهرة (انتعاش السرد التاريخي) من زاوية المجتمعات التي تعاني الاحتباس في مواريث الماضي، والالتباس في أحداث التاريخ، والارتكاس في أضغاث الوعي. فان الأمور ستبدو لمن يعاني القصر في النظر كثيرة الغموض وشديدة الإبهام، ان لم تكن محيرة وعصية على الإدراك والتفسير، بحيث لن يكون من السهل على من يحاول موضعة تلك الظاهرة ضمن سياقها المناسب، والذي على أساسه ومن خلاله يمكن تقدير فيما إذا اعتبرت دليل أزمة بنيوية مزمنة أم مؤشر وعي نهضوي مبشّر !. ومن هذا المنطلق، نحاول تقييم الحالة التي شهدتها - وتشهدها - الساحة العراقية المضطربة على امتداد العقود الأربعة الماضية، خصوصا"وان معدلات السرد التاريخي بلغت مستويات عالية مقارنة بإنتاج نظيرها في الفترات السابقة، ليس فقط لجهة تزايد عدد الأطروحات الجامعية والدراسات الأكاديمية من قبل المؤرخين والباحثين فحسب، وإنما لجهة ارتفاع نسب طلاب الجامعات المنخرطين في أقسام التاريخ بفروعه الثلاث (القديم والحديث والمعاصر)، بحيث يبدو الأمر كما لو أن هناك نقلة نوعية طرأت في مجال (الوعي التاريخي) أحدثت هذا التحول المفاجئ في التوجهات الفكرية والاهتمامات الثقافية للعراقيين، بعد فترة الخمول الفكري والسبات الثقافي والانقطاع المعرفي.

وكما هو الحال مع أية ظاهرة جديدة تظهر على سطح الواقع العراقي الطافح بالمفارقات والتناقضات، فان الانقسام في المواقف والاختلاف في الآراء سرعان ما يأخذ طريقه داخل الأوساط الثقافية بمختلف أنماطها وتنوع فاعلياتها وتعدد مستوياتها. لجهة دعم هذا التوجه أو ذاك، أو تغليب هذا المنحى على ذاك. وهكذا، ففريق يرى  - وهو الغالب في المشهد – ان ظاهرة تزايد الاهتمام بالتاريخ والإقبال على دراسته، ما هي إلاّ (مؤشر ايجابي) يعبر عن قدرة الجماعات العراقية المتشظية على تخطي عوائق خلافاتها السياسية وتجاوز اختلافاتها الاجتماعية وتذليل احتقاناتها النفسية، بعد أن عركتها تجارب الصراعات العصبية العقيمة والصدامات الأصولية العبثية، للحدّ الذي أوردتها – بالمحصلة النهائية - مورد الاحتفاء بتاريخها المشترك والارتقاء بحضارتها الموحدة. بعدما كان الأول (التاريخ) في حالة من التفكك والتشظي، مثلما كانت الثانية (الحضارة) في حالة من التشرذم والتفتت، وهو ما يعطي الانطباع الوهمي بأن هناك (صحوة) في الضمير الجمعي، و(نضوج) في الوعي التاريخي، و(نهضة) في الإرادة الوطنية.

أما وجهة نظر الفريق الثاني – وهم الأقلية – فترى أن حدوث هذا (الانتعاش) السطحي والاختزالي، لا يعد – وفقا" لجميع المعطيات والمؤشرات - دليلا"على (تعافي) عقلية الجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية التي يتشكل منها المجتمع العراقي المتصدع من لوثة النعرات القبلية التي تتقاذفه، والعصبيات الطائفية التي تتآكله، والأصوليات الدينية التي تتقاسمه. بقدر ما يعتبر مؤشرا" (سقم)، بلّه، مرض عضال رابض في تلك العقلية لم يبرح ينخر أسس الكيان الاجتماعي المتضعضع والمتهالك تحت وطأة انقساماته المزمنة وصراعاته المتوطنة، ليس فقط على صعيد السياسة والاقتصاد والاجتماع والدين فحسب، بل وكذلك – وهنا الطامة الكبرى – على صعيد الجغرافيا والتاريخ والثقافة والهوية.

ومن باب الإنصاف القول؛ ان المجتمع العراقي لا يشكل – في هذا الإطار – نمط فريد أو حالة خاصة يستحق أن يوضع موضع الاتهام والإدانة، وإنما هو شريك (متفوق) ضمن شركاء آخرين داخل منظومة مجتمعات بلدان العالم الثالث عامة ونظيرها المجتمعات العربية خاصة، يشاطرونه هذا الابتلاء وينسجون على منواله في هذه المحنة، لاسيما في (احتضان) هذه الظاهرة وتهيئة البيئات الاجتماعية والثقافية المناسبة، ليس فقط في أنشارها واستشرائها في المؤسسات الإيديولوجية والبيداغوجية فحسب، وإنما في توطينها وتكريسها في الذهنيات العلمية والأكاديمية أيضا". وهو ما نعتقد ان هذا الأمر هو الذي حدا بالمؤرخ والمفكر المغاربي (عبد الله العروي) أن ينعى هذا النمط من المجتمعات المتصدعة بنيويا"والمتشظية قيميا"فقدانها (للرأس التاريخي)، أي بمعنى حيازتها للعقلية الملتاثة بمعاطب ومثالب المغالطات التاريخية التي تنعدم لديها قدرة التمييز بين سيرورات التاريخ وجدليات حقبه، فضلا"عن رذائل الخلط بين سياقاته المتبدلة ودينامياته المتحولة على الدوام.

وفي إطار هذه الرؤية السوريالية (اللاتاريخية) يمكن اعتبار ان عقلية المجتمع العراقي – عامته وخاصته – هي من أكثر عقليات المجموعة البشرية فقدانا"(للرأس التاريخي) رغم شدة ادعائها الافتتان بالتاريخ وحرصها على مواريثه، وذلك جراء تعاملها (البراغماتي) مع الواقع الاجتماعي المزدحم بالتناقضات والفائض بالتعارضات والغارق بالمفارقات، كما لو أنه مستنقع راكد لا أثر للحياة فيه. بحيث لا ضير عند كل من يبحث في مضان هذا التاريخ الملتبس، من استحضار أحداث الماضي وزجها في أتون الحاضر، أو بالعكس إسقاط تداعيات الحاضر على وقائع الماضي، مع التأكيد على أن توقعات المستقبل هي الغائب الأكبر عن أفق كل من دعاة الماضي والحاضر معا". لذلك فليس من الغريب أو العجيب أن يختلط في هذه البنية العقلية الحابل بالنابل، ويتم – بأريحية استعراضية - تحيين أرشيفات الذاكرة واستدعاء مخزونات المتخيل ليس من باب العبرة والاعتبار، وإنما من منطلق التباهي القبلي بها والاحتكام إليها وسط ضجيج تصادم السرديات المختلقة والمرويات الملفقة، أو – وهذا أسوأ - للاتكاء عليها في تسوية أزماتنا السياسية المتراكمة وحل مشاكلنا الاجتماعية المتفاقمة.

وبالمقارنة مع بقية المجتمعات التي تماثل في ظروفها القلقة وأوضاعها الهشة ظروف وأوضاع المجتمع العراقي، فان ما يميّز هذا الأخير عن أقرانه ويبزهم فيها هو ليس فقط (الإفراط) بإنتاج وتداول (السرد التاريخي) على المستويين الشعبي والرسمي فحسب، وإنما لجهة والتداعيات الناجمة عن مثل هذا التعاطي (البراغماتي) المعلن تارة والمبطن تارة أخرى، والذي أفضى – وسيفضي دائما"- الى ؛ إثارة الحساسيات الجغرافية / التاريخية، وتأجيج الصراعات الاجتماعية  / الاقتصادية، وتصعيد الاحتقانات الدينية / النفسية، وتسعير التوترات النفسية / الثقافية، وتفجير التوترات السياسية / الأمنية. ولعل من أبرز الأسباب التي جعلت من هذه الظاهرة تأخذ هذا المنحى المتطرف في التعبير والتأثير هي:

أولا"- غياب دور الدولة (الوطنية) المزمن في إدارة الأزمات المتواترة التي لم يبرح المجتمع العراقي يتعرض لها كما لو أنها لعنة أبدية، والعمل من ثم على إيجاد الحلول والتسويات المناسبة بما يفضي الى جعل مبدأ (المواطنة) الحضارية هو المعيار في الحصول على الثروة والاشتراك في السلطة، بدلا"من الركون الى الرعويات الأقوامية والطوائفية والقبائلية. فالمواطنة الحضارية – كما يرى بصواب الباحث العراقي (علي ثويني) – (وبال على كل دعاة التشرذم والتحاصص، بعدما يلجأ الإنسان للدولة بدل أن يلجأ لشيخ العشيرة أو رجل الدين).

ثانيا"- غياب الروابط الاجتماعية الموحدة، وانعدام الرموز الوطنية المشتركة، وفقدان السردية التاريخية الواحدة، التي من شأنها شدّ وسمتنة لحمة المكونات السوسيولوجية المقسّمة الى أقوام وأجناس، والجماعات الانثروبولوجية المتفرقة الى طوائف وقبائل، ومن ثم لملمت شعثها وجمعنت تبعثرها تحت خيمة (هوية) عراقية متسامية فوق النعرات القومية والعصبيات الاجتماعية والأصوليات الدينية.

وهكذا يتبين لنا أن ظاهرة انتعاش (السرد التاريخي) في المجتمع العراقي، لا تعبر – كما يرى البعض – عن وجود (صحوة) لاسترداد الوعي بالتاريخ الوطني المشترك، بقدر ما تشي عن (انكفاء) و(تشظي) الجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية صوب أصول تاريخية مختلقة  ومرجعيات رمزية ملفقة، تضفي على وجودها الاجتماعي والثقافي والحضاري مشروعية (وطنية) مفتقدة، بعد أن تحول المجتمع المتصدع الى أقوام متكارهة وقبائل متباغضة وطوائف متنازعة.

***

ثامر عباس

في المثقف اليوم