قضايا

علي حسين: ان كلما يعرفة الانسان.. يمكن قوله في ثلاث كلمات

كان في الخامسة والعشرين من عمره، يجلس في احدى زوايا حديقة عامة يجادل احد الاصدقاء لكنه وقف فجأة وهو يشير باصبعه ويقول بصوت عال:"هذه شجرة ! أعرف حقيقة أن هذه شجرة! ". سيتحول المشهد الى موقف محرج عندما أدرك الرجلان أن المارة قد توقفوا واخذوا يحدقون بهم. انتبه لودفيغ فيتغنشتاين والتفت إلى المارة قائلاً، "لا تقلقوا، لسنا مجانيين... نحن فقط نمارس الفلسفة."

حكاية فيتغنشتاين الغريبة مع الشجرة تقترب من حكايتي معه، في منتصف السبعينيات يقع بيدي كتاب بعنوان " لدفيج فتجنشتين " تاليف عزمي إسلام، وهو الكتاب رقم " 19 " في سلسلة نوابغ الفكر الغربي التي كانت تصدر عن دار المعارف المصرية آنذاك. كان الاسم غريبا ومثيرا في نفس الوقت، دفعني الفضول لاقتناء الكتاب، وعندما وصلت الى البيت كنت متلهفا لمعرفة اسرار المدعو " فتجنشتين"، في ذلك الوقت أدرجت لنفسي، نظاما للقراءة كانت كتب الفلسفة جزء من هذا النظام، اغوص في تاريخ اصحابها، اتمتع بما يتيسر لي فهمه، واصارع احيانا كتباً ملغزة بالمصطلحات، وكنت أجد بعض الاصدقاء لا يقرأون كتب الفلسفة، لأنها مملة حسب تعبيرهم، لا يمكن متابعة قراءتها، وتتعارض لغتها مع متعة القراءة التي يبحثون عنها، في بعض الاحيان اوافقهم الرأي، خصوصا عندما اجد نفسي مع كتب محيرة مثل هذا الكتاب الذي يخبرني مؤلفه عزمي إسلام ان صاحبنا "فتجنشتين" من جماعة الفلسفة للفلسفة، وليس للفضوليين من امثالي، فقد كان يصر على ان عمل الفيلسوف هو أن يكون فيلسوفا للفيلسوف. كانت هذه الجمل اشبه بالاحجية بالنسبة لي، بعدها يوصيني مؤلف الكتاب ان اكون حذرا وانا ادخل عالم فيتغنشتاين الغريب الاطوار الذي ترك مدينته بعد ان تأثر عميقا بكتابات تولستوي عن الاخلاق والدين، فقرر السكن في الريف.

كان فيتغنشتاين يطرح دائما سؤال: ما هي الجدوى من دراسة الفلسفة ؟، فهو يرى أن الفلسفة تتحول الى عبء عندما تُمكننا من الحديث:" عن بعض المسائل العويصة ".

في خريف العام 1922 يصدر فيتغنشتاين كتابه " رسالة منطقية فلسفية "، وقد كان مقتنعا بان النتائج التي وصل اليها كانت صادقة، وان المشكلات الكبرى في الفلسفة قد تم حلها. يكتب في المقدمة:" إن الافكار التي سيقت هنا يستحيل الشك في صدقها، ولهذا فانني اعتقد ان كل ما هو اساسي في مشكلات الفلسفة قد تم حله نهائيا " – رسالة منطقية فلسفية ترجمة عزمي إسلام – كان هذا الكتاب هو تجربتي الثانية مع فيتغنشتاين، ولمدة اسبوعين التزمت نظاما خاصا، اقرأ صفحات من " رسالة منطقية فلسفية " واذهب للبحث عن فيتغنشتاين في بطون كتب الفلسفة، كنت اقرأ بتمهل واحيانا بملل حتى اصل الى نهاية الصفحة، وعندما انتهيت منه اكتشفت انني لم افهم الكتاب جيدا، وانني فشلت تماما بالاتصال به، ويبدو ان الكتاب كان اعلى من قدرتي على الفهم آنذاك. بعد سنوات اعود الى كتاب فيتغنشتاين وسادرك انني عندما قرأته للمرة الاولى كنت غير ناضج، واكتشف في القراءة الثانية انني سوف استمتع بمغامرات فيتغنشتاين الفكرية، وان تحذير الفيلسوف زكي نجيب محمود في المقدمة التي كتبها للترجمة العربية كان صائبا، حيث كتب:" من لا يجد في نفسه الرغبة الاكيدة المؤرقة المقلقة، في أن يتزود بعلم اوضح وأعمق عن العلاقة بين الفكر من ناحية والاشياء الواقعة من ناحية اخرى، فليس هذا كتب موجها اليه "، بينما كان فتغنشتاين ينبهني ان كتابه ليس:" كتابا مدرسيا يريد من خلاله ان يقدم شرحا لافكاره، انه ليحقق الغاية منه، لو امتع قارئا واحد قراءه وفهمه " كان فيتغنشتاين بالنسبة لي فيلسوفا اشكاليا، لكنه مثير للحماس، جعلني اشعر ان القراءة له وعنه ستكون مغامرة مثيرة،ولا تزال هذه المغامرة تثير حماسي حتى اليوم، كل ما عدت الى كتبه.

اعتقد فيتغنشتاين بعد ان اصدر كتابه " رسالة منطقية للفلسفة " ان المشكلات الكبرى في الفلسفة قد تم حلها،، لكنه بعد سنوات وبالتحديد عام 1929 سيكشف عن خطأ بعض تصوراته وان عليه ان يعيد النظر في موقفه الفلسفي وان يبدأ من جديد وهذا ما فعله، فقد عاد مرة اخرى الى كمبردج ليمارس عمله الفلسفي من جديد، وهذه المرة سيكون مزودا بسؤال جديد عن الفلسفة واللغة، معلنا ان السنوات التي قضاها في تدريس الاطفال منحته تصور جديد للفلسفة، ولهذا نجده في كتابه " تحقيقات فلسفية " يؤكد ان بعض افكاره في الرسالة المنطقية كانت افكارا خاطئة:" لقد اتيحت لي منذ اربع سنوات مضت ان اعيد قراءة كتابي الاول رسالة منطقية فلسفية لكي اشرح ما فيه من افكار الى شخص ما. وقد بدا لي فجأة انني يجب ان اطبع هذه الافكار القديمة والافكار الجديدة معا، لأن هذه الافكار الاخيرة لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا إذا تمت المقابلة بينها وبين طريقتي القديمة في التفكير.. فمنذ ان بدأت اعود للاشتغال بالفلسفة مرة ثانية، اضطررت ان اتبين أخطاء جسيمة فيما كتبته في الكتاب الاول " – لدفيج فتجنشتين تاليف عزمي اسلام –

يعود فتغشتاين ولكن هذه المرة ليطالب الفلاسفة نسيان تاريخ الفلسفة والالتفات الى الاشكال المعقدة لحياتنا من اجل ان يدركو ما هو الانسان؟.

في تاريخ الفلسفة، ليس هناك من فيلسوف اختلف حوله الناس مثل فيتغنشتاين، الذي ظل مجهولا لسنوات طويلة، ولا يتداول اسمه إلا النخبة من المهتمين بالفلسفة واللغة، وبقدر ما كان عبقريا في تأسيس فلسفة جديدة بقدر هدمه لنفس الفلسفة التي بدأها، كان فيتغنشتاين يتذكر دوما مقولة نيتشه: "أصل نفسك حربا لا هوادة فيها ولا تهتم بالخسائر والأرباح، فهذا من شأن الحقيقة لا من شأنك أنت. وإذا أردت الراحة فاعتقد وإن أردت أن تكون من حواريي الحقيقة فاسأل".

ولد لودفيغ فتغنشتاين في فيينا في السادس والعشرين من نيسان عام 1889، كان الاصغر بين تسعة ابناء لكارل فتغنشتاين احد كبار رجال الصناعة، يملك مصاهر للحديد، اما امه التي تنحدر من عائلة فلاحية اقطاعية فقد كانت تعشق الموسيقى، كان بيتهم يضم سبع آلات بيانو، جميع افراد العائلة يعزفون بمهارة، ومن اجل شقيقه الاكبر سوف يؤلف الموسيقي الشهير موريس رافيل مقطوعته الشهيرة " بوليرو "، وكان الموسيقار براهامز صديقا حميما لوالده، وفي بيتهم يلتقي نخبة من الرسامين والموسيقيين والادباء.ومثل اشقاءه تلقى فتغنشتاين تعليمه الاولي في المنزل، ولم يرتد المدرسة إلا في الرابعة عشرة من عمره، لم يكن تلميذا نبيها، لكنه استطاع ان يحصل على الثانوية. كان آنذاك ماخوذا بالآلات الصناعية، التحق بجامعة برلين التقنية، بعد ذلك بسنتين يسافر الى مانشستر حيث عمل في مجال صناعة المحركات ومراوح الطائرات، في هذه الفترة يعثر على كتب شوبنهاور، بدأت الرياضيات وعلم المنطق يستهويانه، يعود الى فينا حيث يقوم بزيارة الى منزل عالم الرياضيات والمنطق غوتلوب فريغه الذي كان يحاول في عزلته عن العالم فك لغز قوانين المنطق العامة، وقد لاحظ فريغه موهبة فتغنشتاين، فنصحة بالسفر الى كامبريدج لمواصلة تحصيله الدراسي، واوصاه أن ييتلمذ على ابرز اسمين لامعين في مجال الفلسفة آنذاك وهما وايتهد وبرتراند رسل. لكن راسل اعتقد في بداية الامر ان هذا المهندس الشاب الذي ارسله فريغة مجرد ثرثار:" بعد المحاضرة جاءني الماني متهور ليتخاصم معي..في الواقع النقاش معه ليس إلا مضيعة للوقت " – برتراند راسل سيرة حياة.. آلان وود ترجمة رمسيس عوض – بعد اسابيع سيتغير موقف راسل ليعترف بان فتغنشتاين عبقري معتبرا افكار هذا التلميذ افضل من افكاره هو، بل ذهب اكثر من ذلك حيث طلب من فتغنشتاين ان يراجع كتابه " مبادئ الرياضيات " أملا في أن يتعلم الكثير من هذا النمساوي الغريب الاطوار والذي يصغره بسبعة عشر عاما. عندما علم الاب أن ابنه ترك الهندسة واتجه للفلسفة غضب غضبا شديدا، ففد كان يجد في الفلسفة مهنة غير نافعة للعائلة، الامر الذي زاد من امراض فتغنشتاين النفسية.

في الجامعة يبدأ بكتابة الصفحات الاولى " من رسالة منطقية فلسفية " في دفتر صغير، كانت غايته من الكتاب هو ايجاد حلاً لمشكلته مع الفلسفة، التي أصرّ على ان الجوهري فيه هو علاقة اللغة بحل مسائل الفلسفة والمنطق، فالجمل المجردة من المعنى وحدها تصف وقائع واحداثا تجري في العالم، لكن على اي شيء يتركز العالم ذاته، نسيجا وحضورا، هذا هو ما يبقى التعبير عنه مستحيلا: " اذا كان لابدّ من ان أجيب على سؤال: ما الأخضر الذي يطرحه شخص لا يعرف عن الأخضر شيئا فلا يمكنني إلا ان اقول، هو هذا وانا أشير الى شيء اخضر، بامكاننا ان نشير بالبنان الى هذا الواقع الخارج عن اللغة وان نبرهنه لكننا لا نستطيع التعبير عنه " – رسالة منطقية فلسفية ترجمة عزمي اسلام -، يُسمي فيتغنشتاين هذا الواقع بالمجازي، والخطأ الأكبر شيوعاً هو ارادة التعبير عن هذا المجازي الذي لا يوصف، لذا يضع مقابل هذا الوهم قاعدة تقول:" ينبغي اخفاء ما لانستطيع قوله".

اندلاع الحرب العالمية الاولى في العام 1914 اعطى فتغنشتاين أملاً لتحقيق رغبته في الموت، تطوع في الجيش على الرغم من وضعه الصحي، يكتب في دفتر يومياته : " ذهبت الى الحرب على امل أن يحميني الموت في المعارك من فكرة الانتحار "، شارك في الحرب بكل قواه، ونراه يمجدها في قصيدة قصيرة، يكتب الى استاذه برتراند رسل، رسالة يسخر فيها من دعواته للسلم، يتم اسره فيتفرغ للانتهاء من كتابه " رسالة منطقية فلسفية "، بعد اطلاق سراحه عام 1919 يعود الى اسرته في فيينا، محملا بافكار شوبنهاور المحبطة، أمضى ست سنوات في وظيفة معلم في احدى القرى، قطعها عام 1926 بشكل مفاجىء، ليعود الى فيينا حيث احتفت به " الجمعية الفلسفية في فيينا "، وكان اعضاء الجمعية ينتظرون حضور فيلسوفهم المحتفى به، فقد كانت " جماعة فينا" تنادي بتأسيس فلسفة جديدة للمعرفة اسمها " الوضعية المنطقية "، التي تؤكد ان اللجوء فقط للوقائع " الوضعية "، والبرهان الصارم " المنطق"، وكان كتاب فتغنشتاين بالنسبة لهم بمثابة آلة حربية ضد كل الفلسفات التأملية والخطابات الايديولوجية، والحشو الفلسفي غير الضروري، لكن الفيلسوف سيخيّب املهم حيث ذهب ليعمل بستانياً في احد الاديرة قرب فيينا.عام 1929 تقرر جامعة كمبردج اعادته اليها، هناك استطاع بسهولة ان يؤثر باساتذته من جديد وقد وصف راسل " رسالة منطقية فلسفية " بانها عمل شخص عبقري، قام بعدها بتكليف بعض طلبته بترجمتها الى الانكليزية لتصدر في كتاب، كتب المقدمة له راسل شرح فيها فلسفة فتغنشتاين مع تسليط الضوء على المصطلحات التي ضمتها الرسالة. مع حصوله على شهادة الدكتوراه حصل على منحة محاضر، ظل فتغنشتاين في كمبريدج حتى عام 1936 ثم رحل الى النرويج تفرغ لمدة عام في تاليف كتابه الثاني " بحوث فلسفية " – ترجمه الى العربية عزمي اسلام، وهناك ترجمة اخرى بعنوان تحقيقات فلسفية ترجمة عبد الرزاق بنور - يعود مرة اخرى الى كمبردج ليخلف الفيلسوف جورج إدوارد مور على كرسي الفلسفة،ولما نشبت الحرب العالمية الثانية شارك فيها فعمل في احد المعامل الطبية، استفاد من دراسته للهندسة ليطور آلات مختبرية لقياس ضغط الدم. يعود للتدريس من جديد. عام 1947 يستقر في مزرعة بالريف الايرلندي حيث عاش في وحدة تامة، وهناك اكمل الجزء الثاني من كتابه تحقيقات فلسفية.

 اكتشف عام 1949 اصابته بمرض السرطان، يعود الى اكسفورد. يُعلن عن وفاته في 29 ايار عام 1951، وكان آخر عبارة قالها لممرضته:" قولي لهم انني قد عشت حياة رائعة ".

لماذا العودة الى فيلسوف صعب مثل فتغنشتاين ؟ ونحن نريد من الفلسفة ان تحُسن تفكيرنا في الحياة، لان الفلسفة نفسها لم تتمكن من تجاوزه برغم صعوبة كتاباته التي لا تزال تطبع وتتلقفها الجامعات، فقد ساهمت كتاباته في ظهور تخصص جديد اصطلح عليه بالفلسفة التحليلية، التي اعتبرت اهم مدرسة فلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين. فانطلاقا مما قاله فتغنشتاين، يتوجب فهم الفلسفة وتحليلها دائما كمشاكل للتعبير اللغوي، ذلك ان طريقة تَعرف الناس على العالم تتاثر دائما بلغتهم، فاللغة دائما حمالة أوجه.

ان قصة حياة فتغنشتاين وفلسفته عبارة عن شغف عقلٍ سعى الى البحث عن مكانة في هذا العالم، وإذ عدنا اليوم للحديث عنه، فبمقدورنا ان نقول الكثير عن الاهمية التاريخية لهذا الفيلسوف المميز.

" يجب عدم الافصاح عما لايمكننا قوله "، هذه هي الجملة الشهيرة التي اطلقها فتغنشتاين في كتابه " رسالة منطقية فلسفية "، كانت بمثابة دعوة الى الصمت، يجب التوقف عن الثرثرة وعن الحديث عن الفراغ. لكن، ماذا يمكننا قوله ؟ التفلسف هو الاستفسار الوحيد عن اسئلة كثيرة: هل الانسان حر ؟، هل للحياة معنى ؟، ما هو الخير ؟ اسئلة قد تطول وتطول، ولاسيما وصف عدد من الخلافات والمجادلات حول هذه الاسئلة، وبالتالي فان القضية كلها تكمن في مسألة التعبير عن الرأي، فلكل فيلسوف فلسفته، لكن عندما نصل الى هذه النتيجة نكتشف اننا لم نحرز أي تقدم، بمكننا الاعتبار ان ما يجب فعله هو التفاهم حول الكلمات: ماذا يعني حر، ماذا تعني كلمة معنى؟، مالذي نعنيه بالجميل؟ هكذا نعود نضغي الى فتغنشتاين الذي يعلمنا ان من الضروري ان تتناسب الكلمات التي نستخدمها مع الاشياء.

يوصينا فتغنشتاين ان نقترب من الفلسفة ليس من اجل ايجاد اجابة للاسئلة التي تشغلنا، بل من أجل الأسئلة نفسها، لأن هذه الأسئلة توسع تصورنا لما هو ممكن، وتثري خيالنا الفكري.لقد انتج فتغنشتاين صرحين فلسفيين بارزين " رسالة منطقية فلسفية " و " تحقيقيات فلسفية " كفلا له ان يدخل نادي كبار الفلاسفة، الأمر الذي جعل برتراند رسل يقول عنه انه العقلية الاعظم في القرن العشرين.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

........................

* فصل من كتاب: "لماذا نقرأ الكتب المملة ؟ " سيصدر عن دار المدى

في المثقف اليوم