قضايا

محمود محمد علي: كيف ضاعت قدسية الوحيين في فوضى التأويلات المعاصرة؟

يقال في علم الدلالة والمعنى أنه ثمة إشكالية كبيرة تعنى بها فلسفة اللغة، وهى إشكالية مفهوم المعنى. كيف يمكن اقتناص المعنى المراد في الخطاب؟ هذا السؤال يجر إلى أسئلة عديدة: هل المعنى المقصود من أي خطاب هو ذات المعنى الذى يروم المتكلم إيصاله إلى القارئ أو السامع؟ أم أن المعنى هو ما تشى به مفردات الخطاب من دلالة بمعزل عما يقصده المتكلم على وجه الدقة واليقين في خطابه.

ولهذا عندما وصفَ الدكتور نصر حامد أبو زيد (رحمه الله) الحضارة العربية الإسلامية بأنها "حضارة نص"، كان يدرك أهمية الخطاب الإلهي في حياة المسلمين، وكان يعرف ما الذي تعنيه الكلمة؛ كلمة الله التي دخلت مجال البشر واستقرت فيه، فأصبحت المحور الذي تدور في فلكه حركيتهم، ونزوعهم-الذي لم ينقطع-من أجل كشف الغلالات الكثيفة عن تلك الكلمة / الكلام، بغية فهمه، والوقوف على معانيه، وتأمّل بيانه الذي لا يماثله أيُّ بيان لغوي آخر.

قصدت هذا القول لأقول كما ذكر مركز رواسخ في فيديو شهير بعنوان: إسلام واحد أم إسلامات متعددة .. كيف تضيع قدسية الوحيين في فوضى التأويل؟.. بأنه علي احدى الشاشات الإعلامية أو ضمن أسطر مقال على موقع شهير، ربما سمعت أو قرأت كلاما لم ترتاح له نفسك، ولكنه أثار في عقلك شكوك، يقول القائل من باحثينا المعاصرين:" نحن نقدس نصوص الوحي ولا نريد تركها .. لكن علينا أن نعيد قراءة النصوص وتأويلها بما لا يتوافق مع روح العصر، لا بما أقره فقهاء سابقون قبل قرون ".

والحجة الأساسية عندهم نحن نقدس النص لا الفهم، فلكل منا فهمه، وطالما أن الفقهاء اختلفوا في مذاهبهم، فلنا الحق أن تختلف عنهم، فهم رجال ونحن رجال، فهل تكون إشكالية بعض التأويليين في فهم النص بالفعل؟ .. أم إن مشكلتهم الحقيقية في عدم انقيادهم للنص؟.. وما موضوع الفهم إلا حجة للطعن في الشريعة كلها بزخرف من القول؟

تخيل أنك وريث شرعي لأحدى الشركات، وأن مجموعة من أقربائك يشاركونك هذا الإثم، وبينما أنتم تتناقشون حول تفسير أحد عقود المعاملات بالشركة، أتى أحدهم وأخبركم بأنه لا يمكن فهم هذا العقد، وأن إرثكم محكوم عليه بالضياع،  لأنكم لا يمكنكم تفسير العقل واستخراج الأحكام القانونية منه، وأنه لا سبيل لكم لمعرفة ذلك على الإطلاق، تُرى ماذا سيكون موقفك؟ .. من المؤكد أنك سترفض كلامه، وربما تسخر منه، فما العلاقة بين الاختلاف في فهم العقود وضياع معانيها والحقوق المترتبة عليها؟ .. ألا يوجد مرجعية ومختصون يمكن الرجوع إليهم؟ .. أم إن العالم ينتهي عند أفهامكم وحدكم؟ ..

الأمر نفسه ينطبق على من يقول:" نحن أمام إسلاماتِ متعددةِ، فأىّ إسلامِ نُطبق" زاعما أن الخلاف ووجود النصوص القابلة للتأويل معول يمكن هدم الشريعة وهدر نصوصها، وهذا أمر يخالف العقلي الذي يخبرنا أن الاختلاف في شيء لا يلغي وجوده ولا حجيته ولا مكانته، وما زال البشر يختلفون في كل مناحي الحياة ومذاهبها، لو صح ادعاء البعض الاختلاف ذريعة لهدم معيارية الشريعة لما يقي أي معنى في أيدينا لمفاهيم الحرية أو العدالة، أو حقوق الإنسان وغيرها، فإن حضور الخلاف لا يلغي حقيقتين قطعيتين بديهيتين وهما أن هناك قدرا مشاركا من المتفق عليه، وأن الحكم عند الخلاف يرجع إلى الحجة الدالة على الحق، وعند النظر إلى الشريعة سنجد النصوص على مرتبتين: المرتبة الأولى: مرتبة الأحكام القطعية، وهي التي دلت عليها الدلائل ظاهرة بينة لا يتطرق إليها الشك، وهي محل إجماع بين المسلمين، أي هي معلومة من الدين بالضرورة، كالاعتقاد في وجوب الصلاة والزكاة وتحريم الزنا والخمر . أما المرتبة الثانية: فهي الأحكام الظنية، وهذه الأحكام قد يصل اجتهاد العلماء فيها إلى الإجماع، أي الاتفاق بينهم في تأويلها بما يلغي مشروعية للخلاف، وقد تحتمل الخلاف في تأويلها بين العلماء، لكن هذا الخلاف قد يكون معتبرا سائغا تٌقبل الأقوال المختلفة فيه، وقد يكون شاذا غير سائغ ولا معتبر .

ومن هنا نتبين أن الخلاف المزعوم يقع في حالة واحدة من مرتبة واحدة من مرتبتي النصوص الشريعة، لا كما يوهم البعض ويزعم أن كل النصوص تحتمل الخلاف والتأويل، وإعادة القراءة من جديد بحجة أن الفهم غير مقدس.

ومن النظر بما سبق ربما تتبين منهجية هذا الخطاب التأويلي الذي يهاجم النصوص من باب مهاجمة التفسير، وليس هذا القول حقا يراد به باطل، بل هو قول باطل في نفسه، لأن الفهم في حالات كثيرة يكون مقدسا، وذلك حين يكون مصدره هو مصدر التشريع نفسه الله ورسوله .

إضافة إلى ذلك فإن التراث الإسلامي مرتكزا على منهجية موضوعية في التعامل مع الخلاف، بل وأهم من ذلك كله، هو أن الخلاف في مسائل الخلاف المعتبرة يعني أن العلماء كانوا يحاولون الوصول للمراد الإلهي من النص، فلم يكونوا يتبعون الهوى بحجة العصرية والتجديد، أو يهملون النصوص بحجة تعدد التأويلات، ولهذا كان للمجتهد أجرا إذا أخطأ مكافأة على نيته  وسعيه إلى تتبع الحق، وإعلاء شأن النصوص وتقديسها.

وقد تفطن ابن تيمية إلى حجج هؤلاء التأويلية تلك من أشباههم في عصره، وأدرك كيف يستخدم هؤلاء التأويليون تلك الخدعة معولا لهدم النصوص، وذلك لأنه لم يكن لهم قانون قويم وصراط مستقيم في فهم النصوص، ولأن التأويل من عدمه يرجع إلى نفس المتأول ورغبته لا أكثر، ولهذا فإنهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما .. أما الآيات التي تخالف رغباتهم فيشرعون في تأويلهم شروع من قصد ردها .

ولهذا يتعجب الإمام ابن حزم الأندلسي من أقول أسلاف هؤلاء فيقول:" إذا لم يكن الكلام مبنيا على معانيه، فبأي شيء يفهم هؤلاء المخذولون عن ربهم وعن نبيهم صلي الله عليه وسلم "، وهو ما يعني أن ثمة منهجية للفهم تكسب هذا الفهم قدسية ملاصقة لقدسية النصوص وتحافظ عليها من الإهدار والهدم.

وللوصول إلى معيار الفهم، نجد في القصة الكلاسيكية الشهيرة حكمت الكنيسة أوروبا بالحديد والنار، متحالفة في ذلك مع السلطة، وفرضت سلطان الخرفات والجهل والتحريف على عقول البشر، وحاربت العلم، واتهمت العلماء بالهرطقة، حتى قامت الثورة الفرنسية ضد هذا الإرث الغاشم، وتبعتها الثورة على الإرث الديني المليء بالتناقضات، المخالفة للعقل والمنطق السليم، وأمام عاصفة الثورة انحنت الكنيسة للفلاسفة والتنويرين، وسمحت بأفلامهم بإعادة النظر إلى الكتاب المقدس، والتعسف في تأويله، حسب ما تقتضيه الحداثة ويأمر به التنوير، وظهرت المدارس اللغوية التي تتعامل مع النصوص المقدسة باعتبار أن مؤلفها قد مات، وترك للبشرية مهمة التفسير والتأويل حسب ما يرون .

ومن أوروبا إلى عالمنا العربي أتي إلينا الحداثيون وزعموا ليستوردا هذه الثورة المسيحية على الكتاب المقدس، ويسقطوها على القرآن ونصوص الوحي، زاعمين أن الحق في التأويل مكفول للجميع، ومن هنا يظهر السؤال حول نصوص الوحي، وكيفية التعامل معها لنسأل: هل ثمة ضابط لفهم النصوص وتأويلها بصورة علمية وشرعية؟ .. أم إن النصوص متروكة لتأويل كل عابر، وكأن صاحبها سبحانه قد مات؟  .. لنجد أن أئمة الإسلام قد ذكروا قواعد أصولية هامة في التعامل مع النصوص الشرعية، وأول هذه القواعد، هو الجمع بين هذه النصوص، أو درء التعارض المتوهم عن الوحي، وتلك قاعدة منهجية يجب أن ينطلق منه الفقيه حين يتعامل مع النصوص .

ومن غابت عنه القاعدة يتيه في كل اتجاه فيحسب أن ثمة تعارضا بين آية وحديث نبوي، فينكر السنة أو يهدر فهم الآية القرآنية في سياقها الصحيح، ولهذا اكنت قواعد الترجيح بين الأدلة، فضلا عن علم الناس في الناسخ والمنسوخ، والمعرفة بالمطلق والمقيد، والتفرقة بين العام والخاص من النصوص، وهذه القواعد إنما هي أدوات عملية للتعامل المنهجي مع النصوص الشرعية، كما أن هناك ملمح آخر يتعلق بمنهج الفهم الصحيح للنص، والذي لابد له من مراعاة أمرين رئيسين: أولهما: هو العلم بأصول العربية ومكونات الخطاب العربي، والثاني، معرفة أقوال الصحابة وتابعيهم، إذ هم أقرب لزمن الوحي وفهم اللغة التي نزل بها، وهو ما يعني أن الإلمام التام باللغة العربية، شرط لا يمكن التخلي عنه لفهم الوحي مصداقا لقوله تعالي في سورة يوسف الآية 2:" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" .

ولهذا رأينا أنه من أمارات التأويل الفاسد، تأويل النص بما لا يحتمل كل وضع لغوي، أو بتفسير اللفظ بصورة تخالف السياق التاريخي الذي نزل له، أو بمعنى غير الذي أُصطلح عليه، ومثل ذلك من يحاول تأويل نص متشابه بتفسير يخالف نصا محكما من ثوابت الشريعة، فكل تلك أمارات للتأويل الفاسد الذي يهدر النصوص بدعوى اختلاف الأفهام، ولو أننا تركنا الشريعة إلى هذه الدعوى وتلك السيولة المفاهيمية، فكأننا نقر بأن الله أرسل إلينا مجموعة من الألغاز وحاشاه .

ولقد دفعت هذه المسائل الفقهاء إلى تأويل النص رغم صراحته وقطعيته، مستعينين في ذلك بالأحاديث النبوية ومحاولة استحضار سياقه وافترقوا كثيرا في تأويله. ومن ثم يثور التساؤل: ما هو المنهج المنطقي الذى ينبغي انتهاجه في تأويل معانى الخطاب، خاصة أن الخطاب هو أشبه بكائن حي تتعدد وتتنامى دلالاته عبر التاريخ؟.

وهنا يجيب عن ذلك ابن رشد في كتابه "فصل المقال" فيقول: "نحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن".

إن الشريعة المحكمة لا يأتيها الباطل، بل وأن الله قد كلف عباده بفهم هذه الألغاز بتفسيرات لم يمنحهم إشارات لفهمها، وتركها مبهمة سائلة، تلهوا بها الرغبات، كما أن هذا الفهم يحتوى مفارقة هزلية، حيث يفترض أصحابه أن صحابة النبي وتابعيهم عجزوا عن فهم هذه النصوص، وهم أهل اللغة، واًصحاب الرسول المبلغ صلي الله عليه وسلم، فإن كان معاصر التنزيل أعجز عن فهمه ونقله، فكيف يدعى من بعدهم قدرتهم على ذلك، وأكبر من هذا وأضل، فهذه المنهجية الحداثية تتعارض مع حقيقة مطلقة لا يستقيم بغيرها الإيمان، وهي أن علم الله تعالى سابق على جميع المخلوقات، وأنه سبحانه عندما أحكم بعض النصوص بمعان ثابتة، إنما فعل ذلك في الثوابت التي لا تتغير، كتحريم الزنا والخمر مثلا، بينما سكت عن المتغيرات التي يحتاج الناس فيها سعة بحسب زمانهم ومكانهم، أو أتى فيها بنصوص فيها من المرونة اللغوية ما يسع مختلف الأفهام، كبعض قضايا الطهارة وغيرها ليترك باب الاجتهاد مفتوحا،ولكنه مع ذلك قيد هذا الاجتهاد بآيات محكمات تأمرنا باستفتاء أهل الذكر وإنكال هذا الاجتهاد للعلماء فقال سبحانه: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً (الآية 83 من سورة النساء)، فهل هؤلاء أحكم من الله .. وللحديث بقية..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

...........................

المراجع

1- مركز رواسخ: إسلام واحد أم إسلامات متعددة .. كيف تضيع قدسية الوحيين في فوضى التأويل؟.. يوتيوب.

2- موسي برهومة: التأويل الديني والمواجهة المستمرة مع المعاني، مؤمنون بلا حدود، 22 يونيو 2-23.

3- د. عصام عبدالفتاح: إشكالية التأويل في الخطاب الديني، العربية، نشر في: 08 يونيو ,2023: 09:44 م GST

في المثقف اليوم