قضايا

صادق السامرائي: الأمة والعلم!!

كلما إبتعدنا عن العلم تآكلنا وخارت قوانا، فعصرنا عصر العلم والإبداع، وعلينا أن نرى ذلك بوضوح وعزيمة جادة، فالحاجة أم الإختراع، وما إبتكرنا ما نحتاجه من أبسط الأشياء، وصار إعتمادنا على الآخرين بالمأكل والملبس، وكافة معطيات العصر التكنولوجية.

وأصبحت الدول القوية علميا تهيمن على وجودنا، والصين تستعمرنا إقتصاديا، والقوية عسكريا، ومَن يطعمنا يصادر إرادتنا، فتحولنا إلى عالة على غيرنا، وتوهمنا بأننا سننتصر على أعدائنا بالسلاح الذي إشتريناه منهم.

وما تخصصه أنظمة حكم دولنا للنشاطات العلمية نسبة ضئيلة، وتوفر بيئة طاردة للعقول العالمة والباحثة، فتهاجر إلى الديار الأخرى لتعبر عن طاقاتها فيها.

فإهمال التعليم والبحث العلمي والمختبرات وغيرها من متطلبات التواصل مع العصر الإبداعي الفياض، تسبب بتفاعلات سلبية أنهكت الحياة في دول الأمة، التي لا تعرف أنظمة حكمها سوى الإعتماد على السلاح المستورد، وما أنجزت به غير التناحرات والصراعات البينية الخاسرة.

أولا: الثقافة العلمية!!

الثقافة الحقيقية علمية، فهذا قرن الثقافة العلمية  والبحث العلمي والإبداع العلمي، وغيرها يأتي في درجات أخرى، فالقوة والإقتدار إبداع علمي، فالسيادة للعلم والقوة بالعلم، فعلينا أن نعزز الثقافة العلمية، ونحث الخطى بالإتجاه الذي سيقرر مصيرنا.

والإبداعات الأخرى لا تمنح القوة والقدرة على التحدي والحياة، فما قيمة الشعراء أمام عالم واحد يبدع ويخترع، ويأتي بأفكار قابلة للتحول إلى موجودات مادية فاعلة.

فعلينا أن نعيش في عصرنا ونتعلم قوانينه، ومعطياته المؤثرة بصناعة الواقع المستقبلي، لأنها مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الأجيال الحاضرة، التي من واجبها أن توفر الظروف المواتية لإطلاق طاقاتها المتوافدة إلى ميادين الجريان الحي.

وليس مقبولا أن نغفل أهمية التفاعل العلمي في الزمن المُعاصر، بل المطلوب إعطاء الأولوية لما هو علمي، للوصول إلى حلول وإستنتاجات نافعة للبناء الأرقى.

وعلى المسؤولين والقادة وعي أهمية العلم في تأمين الإرادة الوطنية، وتحفيز المواطنين على العطاء الأمثل النافع للجميع.

فالحياة بالعلم، وبدونه نعيش تداعيات مروعة ومدمرة للكينونة الحضارية، وممزقة للّحمة الوطنية، فلا شيئ يتقدم على العلم، ولا يكون بغير العلم، وإن الحياة تتنور بالتفكير العلمي، وبأبحاث العلماء الجادين القادرين على الإمساك بالحلول الناجعة للمشاكل والتحديات القائمة في أوطاننا، المُبتلاة بالذين ينكرون العلم.

فهل لنا أن نعلن ثورتنا العلمية، ونتعلم، ونرفع رايات العلم؟!

ولن نكون إذا بقي العلم بلا دور في حياتنا!!

ثانيا: الأمية العلمية!!

المستقبل علمي صناعي، والمجتمعات القوية تهتم بالبحث العلمي والإبتكارات التصنيعية، فالعالم يسير على سكة معبّدة بالعلوم، والدول المتقدمة تخصص ميزانيات ضخمة للنشاطات العلمية.

ويمكن تقدير القوة العلمية لأي بلد من براءات الإختراعات الممنوحة فيه، ومن الواضح أن دولنا تأتي في آخر القائمة، لأن الأمية العلمية تعصف بأرجائها ، فتمحنت بالمشاكل وعجزت عن حلول ذات قيمة عملية، وأصبحت تتوسل بالدول الطامعة فيها لحل مشاكلها، وتتناسى بأنها تحقق مصالحها بواسطتها.

فالدول القائدة للعالم هي الفائزة بأكثر براءات الإختراعات، وقد إنطلقت دول آسيا الشرقية في الربع الأخير من القرن العشرين نحو التأسيس لمراكز للبحوث العلمية، وحشدت الجهود لبناء القاعدة العلمية اللازمة لتقوية  الحياة وتطويرها، وأكثرها نجحت وإنطلقت في مسارات أوصلتها إلى مصاف الدول المتقدمة، فبرعت بالصناعات المؤثرة في الحياة المعاصرة.

ودول الأمة متمحنة بالمعضلات، لأنها تناست العلم وأنكرته، وأشاعت الجهل ورسخت الأمية الشاملة، حتى أن مناهج تعليمها بدت خارج العصر، لإندحارها في موضوعات بائسة وتصورات سوداوية ظالمة.

وصارت أدمغة مجتمعاتها محشورة في زوايا حادة، ومؤججة بأضاليل وأوهام وعواطف سلبية خانقة تدفع للإنتقام والإنهزام، فغاب العلم وتسيَّد الجهل والإحتران.

فالمطلب الشافي يتمثل بالإنطلاق في دروب العلم، والإهتمام بمناهجه وبمراكزه البحثية، وتشجيع إرادة الإبتكار والإختراع، وحث الشباب على الإبداع التقني والتكنولوجي اللازم للنهوض والبناء.

فلا خيار سوى الإستثمار في المستقبل العلمي للأمة، فعندها ستنتصر على التحديات وتؤسس لمنطلقات حضارية أصيلة.

فهيا إلى ميادين العلم والبحث العلمي!!

ثالثا: المُعاصَرة العلمية!!

الكلام عن المعاصرة لم يعد جديدا، بل من أقدم الموضوعات التي تناولها الكتاب والمفكرون العرب، والمغيّب في المعاصرة ماهيتها ومناهجها التي أغفلت، فالدنيا في عصر العلم، ولكي تتحقق المعاصرة لا بد أن تكون علمية أولا، وبعدها تأتي الحالات الأخرى.

فالأمم الغير قادرة على التفاعل العلمي المتجدد مع منطلقات عصرها، لا تستطيع أن تدّعي المعاصرة، مهما حاولت أن توهم نفسها في نشاطات أخرى أيا كان نوعها.

فعندما تنتفي المعاصرة العلمية تنهار أية معاصرة أخرى، فلكي تعاصر على مستويات الحياة المتنوعة، لابد من المعاصرة العلمية.

وهذه العلة وقع في مهاويها المفكرون العرب، وراحوا يتحدثون عن المعاصرة وكأنها مصطلح خيالي، وتجنبوا الخوض في صميمها العلمي، الذي تتولد عنه سلسلة من المعاصرات المتصلة به.

فالمجتمعات العاجزة علميا، لا يمكنها أن تخدع نفسها وأجيالها بأنها تعاصر في ميادين المعارف الأخرى، كالشعر والقصة والرواية، وغيرها من الإبداعات.

فخلو الساحة الثقافية من المعاصرة العلمية يتسبب بتداعيات سلبية، ويمنع نشاطات فكرية وأدبية متعددة.

وفي واقعنا العربي، توهمنا التجديد في الأدب بشتى نشاطاته، وما أتينا بما هو معاصر وجديد، وأصبحنا ندور في دوامة مصطلحات مبهمة، ومسميات مستوردة لا تمت بصلة للواقع الذي حُشرت فيه، وراح أصحابها يسوقونها على أنها معاصرة وتواصل مع ما في الدنيا من ثورات معرفية متسارعة.

وهذا التخبط والإضطراب الإدراكي عوّق قدرات إنتاج المعرفة في واقعنا المأسور بما لا يعنيه، ففقد خصوصيته ونكهته ومميزاته وضاعت ملامحه، فصارت المعاصرة إقتلاع لحاضره ومستقبله وتدثر بماضيه.

فمجتمعاتنا هامت في متاهات المعاصرة، وياليتنا تحررنا من سطوة المصطلحات، وتعاملنا ببساطة ووضوح مع ما تمليه علينا حاجاتنا المادية والنفسية والفكرية والروحية، لنكون مبدعين أصلاء، وأصحاب معارف غير مسبوقة.

فهل لنا أن نعاصر بما فينا؟!!

رابعا: القوة العلمية!!

القوة في العلم وكل قوة تولد من رحمه، فالعلم يصنع ويعزز القدرات، فالدول الصناعية بالعلم تكوَّنت، وبالبحث وإعتماد المناهج العلمية تطورت وتجددت قدراتها، وتعاظمت إرادتها المعرفية والإبتكارية، حتى سادت الدنيا وتشامخت بما تنتجه عقولها العلمية المتفاعلة.

الدول الغربية بالعلم تسامقت، الصين بالعلم تواصلت وتوثبت، ففي العلم قوة، فالذي لا يصنع ما يحتاجه، عليه أن لا يتبجح بالقوة، فحالما يستورد طعامه وشرابه وحاجاته الأساسية الأخرى وما يلزمه للدفاع عن نفسه، فأنه ضعيف وخانع وتابع، فالقوي الحقيقي مَن يصنع سلاحه ويطوره وينافس الآخرين بعقول شعبه وأمته.

فأين نحن من هذا وذاك؟

البشرية عاشت قرونا متعاقبة بظلامية خانقة وعندما إستيقظت من أوهامها وهذياناتها، وتحركت عقول نخبها وأبصرت وتعلمت وتباحثت وإكتشفت وإخترعت، أدركت أنها كانت تعيش في عصور دامسة، فبعد أن أضاء العلم دروب وجودها إتخذته سبيلا لبناء حاضرها.

وتجدنا في بعض مجتمعات الأمة قد إندحسنا في أنفاق العصور المظلمة، التي قاست منها أوربا خصوصا، وأنهكتها تصوراتها، التي كانت سيدة المواقف والقرارات.

خامسا: الشباب والحركة العلمية!!

الشباب المتوثب نحو المستقبل عليه أن يتزود بالعلم، ويتعلم مهارات التعبير المادي عن الأفكار، فبدون هذه القدرة العلمية لن ينجز إرادته، ولن يحقق تطلعاته، فلابد للعلم أن يكون قائدا، وفاعلا في حياة الشباب الطامح إلى الأفضل والأقدر.

فالمستقبل يصنعه العلم، والشباب الخالي من المعرفة العلمية، والمجرد من مهارات الإبتكار والإختراع والإبداع الأصيل، لا يستطيع أن يقدم خيرا لنفسه ولبلاده.

الشباب الغير متمكن علميا يتحول إلى طاقة مبيدة لوجوده الوطني، وعالة على الآخرين، ويتحقق إستعماله لإنجاز ما تفرضه رموز التضليل والإستعباد والهوان والتبعية.

الشباب يجب أن يتألق بالعلم، ليدرأ عنه آفات الخنوع والخضوع للمدّعين بالمعارف، ويحسبونه من الجاهلين المغفلين، الذين عليهم أن يعيشوا حياة القطيع، ويساقون إلى مجازر الرغبات الدونية لأدعياء المُثل والقيم السامية.

فتعلموا أيها الشباب، وارفعوا رايات العلم، فأن أعداءكم سيذهبون، لأنهم سيدركون بأنكم تضعون أصابعكم على زناد الثورة الحقيقية، بعد أن كنتم تسرحون وتمرحون في عبثية، وإستنزاف لطاقاتكم وقدراتكم الإبداعية المتميزة.

فتعاونوا علميا، وتحركوا بإتجاه نأسيس المشاريع العلمية، فهي التي ستجمعكم وتوحد طاقاتكم، وتنمي قدراتكم وتنقلكم إلى آفاق التقدم والعطاء المعبر عن وجودكم الحضاري المعاصر.

أيها الشباب أنتم منبع العلم وجوهر العلماء، ففيكم من موروثات أجدادكم العلمية ما لا يتوفر عند غيركم، فلا تخنقوا طاقاتكم، ولا تبددوا ثرواتكم الفكرية، ولا تخضعوا للمنوِّمين والمخدرين لوجودكم .

أيها الشباب العلم طريقكم، وبالعلم قوتكم وإزدهار حاضركم ومستقبلكم، فكونوا علماء أوفياء لأجدادكم العلماء الأعلام!!

سادسا: العرب والثورة العلمية!!

العرب يحتاجون لثورة علمية شاملة، تزعزع أركان النمطية الخامدة، وآليات التفاعل الخاملة مع التحديات القائمة.

العرب بالعلم يكونون، مثلما كانوا به في مسيرتهم الحضارية، أما التركيز على ما دون العلم فعبث وضياع، وإستنزاف للطاقات والقدرات الوهاجة الكامنة في أعماق الأجيال.

فلا خيار عند العرب غير طريق العلم، والإندفاع العلمي الثوري على جميع المستويات، ولديهم المؤهلات الكفيلة بتعبيد مساراتهم العلمية المتميزة، القادرة على الإتيان بالأصيل الواعد.

العرب لن يتحرروا من مأزقهم الحضاري، ويفعّلون العقول ويتفاعلون بها، إلا بإتخاذ العلم منهجا للقوة والقدرة والحياة.

فخيار العرب المصيري يتلخص بالتفكير والبحث والإبداع العلمي، فهذه الأركان الثلاثة هي المنقذ من الضياع والخسران.

وقد أغفل المفكرون والمصلحون أهمية العلم ودوره في صناعة الوجود العربي الأرقى والأقوى، وتخبطوا في متاهات بائسة أوصلتنا إلى ما نحن عليه من أحوال واهنة خالية من إرادة الحياة الحرة الكريمة.

فعندما نراجع ما طرحوه منذ منتصف القرن التاسع عشر، لا نعثر على الحث على العلم والتفكير العلمي ولا تأكيد على مناهج البحث والإبداع العلمي، رغم إنشاء الجامعات والمعاهد والمراكز المعرفية المتنوعة في العديد من دول الأمة، لكن مفهوم البحث العلمي لا يزال في المؤخرة، وما يُرصد له لا يكاد يذكر في ميزانيات معظم الدول.

فتجد العرب يعتمدون على غيرهم، فكل ما يتصل بحياتهم من إنتاج الآخرين، ولا يمتلكون حلولا لمشاكلهم، لأنهم لا يعرفون التفاعل العلمي معها، ولهذا تتراكم المعضلات وتتعقد، ويزدادون قعودا، ورقودا في كهوف الإمتهان، ويوفرون الأجواء المواتية لصناعة الويلات والتداعيات المريرة.

فلا حياة للعرب إلا بالعلم، ومَن سار على الدرب وصل، ومن جَدّ وجَد، فتعلموا العلم ومناهجه وانطلقوا في مسارات الدنيا المشرقة بالإبداعات الأصيلة، فالعرب أمة علم!!

سابعا: البحوث العلمية والتقدم!!

أتصفح هذا الصباح مونوغراف يبين الأموال المرصودة للبحث العلمي في علاقة الدماغ بالسلوك وهي بمئات الملايين، ويشترك فيها مئات الباحثين والعلماء في ميادين السلوك، وهذا على مستوى بعض الجامعات أو إن شئت بعض الأقسام في عدد من الجامعات، فكيف سيكون الحجم والرصيد المالي على مساحة البلاد وفي المجالات الأخرى؟!

إن المجتمعات المتقدمة لم تتقدم بالعبثية والتصورات الطوباوية والأضاليل والخداعات التي تمتهن الأجيال في المجتمعات المتأخرة، إنها متقدمة بالبحوث العلمية، وسلوك البحث العلمي صار عنصرا من الحياة اليومية ويؤكد دوره في أي دائرة أو ميدان عمل.

وهذه المجتمعات تخصص نسبة كبيرة من ميزانيتها للبحث العلمي، ويمكن القول أن قوة وتقدم أي دولة في العالم تتناسب طرديا مع ما تخصصه للبحوث العلمية، أما المجتمعات المتأخرة فموضوع البحث العلمي لا يعنيها ولا تقترب منه، ولا يوجد في ميزانياتها تخصيصات له، ولا يتوفر وعي إجتماعي لتأسيس الجمعيات المعتمدة على تبرعات المواطنين للصرف على البحوث العلمية اللازمة للتقدم والرقاء.

ويبدو أن من أهم الأسباب الجوهرية لتردي الأوضاع في تلك المجتمعات هو إغفالها لدور البحث العلمي في معالجة تحديات الحاضر وبناء الأسس الصحيحة لمستقبل أفضل.

ففي المجتمعات المتقدمة لا يوجد سلوك أو عمل لا يخضع للبحث العلمي والدراسة والتدقيق والتقييم المتكرر لإستنباط الدروس والعبر ولمنع تكرار الخطأ الذي حصل، فلا تمر حالة دون دراسة وتحليل وتحقيق وإستنتاجات وتوصيات وتعديلات تكفل التطور والوقاية من الزلل.

وبما أن مجتمعات الدول المتأخرة مغفلة بحثيا وجاهلة لأهمية وضرورة البحث العلمي، فستبقى ترزخ تحت سنابك التداعيات والتفاعلات السلبية المتفاقمة، التي تأحذها إلى مزيج من الخسران والبهتان، فعليها أن تتعلم كيف تمارس نشاطات البحث العلمي، فكل حالة وموقف يجب أن يكون تحت أضواء البحث والدراسة العلمية المعاصرة.

فالمجتمعات تتقدم بالبحوث العلمية، وتتأخر بإهمالها، وإن لم تتنبه إلى هذا القصور الحضاري الفتاك فأنها لن تتعافى، وستبقى تدور في دائرة مفرغة من الويلات الجسام.

فهل ستتمكن الدول المتأخرة من ترسيخ مفاهيم وسلوكيات البحث العلمي، وهل للجامعات والمؤسسات التعليمة دور رائد ومنور فيها؟!!

وهل سيتم تخصيص ما يكفي من الأموال للبحوث العلمية؟!!

تلك أهم الفوارق الحاسمة ما بين التقدم والتأخر!!

وفي الختام طلب العلم فريضة، وما أوتينا من العلم إلا قليلا، فلماذا لا نتفكر ونتعقل، ونبتهل بالجد والإجتهاد، أن نزداد علما، فالقوة علمية ، وأمتنا عندما كانت ترعى العلم والعلماء بلغت ذروة القوة والإقتدار.

و" العلم يرفع بيتا لا عماد له... والجهل يهدم بيت العز والشرف"!!

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم