قضايا
خالد اليماني: سوانح فلسفية (1)

محكومٌ على الإنسان أن يعيش في حدود الثقافة والتجربة واللغة؛ إذ لا يستطيع أن يتجاوز هذه الأصنام المرحلية والمتغيّرة إلّا من كان له نصيبٌ من التأمُّل الحقيقي في الوجود.
من لا يُقدَّس التجربة الوجدانية بوصفها الأصل في بناء المعنى والحقيقة، سيبقى أسيرًا لما يمليه عليه العقل المحض، الذي يُوظَّف لتبرير هذه الميول الطبيعية النابعة من التجارب الخالصة في الحياة.
حين نُسمي الأشياء نظنّ أننا فهمناها؛ لكن الحقيقية أننا - بتراكم هذا الكمّ الهائل من المعرفة البشرية - صِرنا نقفُ كخصمٍ مباشرٍ للحقيقية.
عبر تسميات نُلصقها بالموجودات، وإسقاط مقولاتٍ إنسانية عليها، كأن نقول: "الحيوان" ، "النبات"… هذه التسميات بطبيعتها اختزالية، لأنها لا تُدخل هذا الكمّ و الكُل في عالم الوجود تحت تصنيفات ودلالات وظيفية لتسهيل فهم الحياة، وعملية التعليم.
لكن لن تجد من ينتقد كم الإجرام في حقّ هذه الموجودات في الاختلاف، بل وفي التصيُّر والتشكُّل مع الزمن، الذي هو قلب الحركة وثم العالم.
كل هذه البُنى: اللغة، والثقافة، والتجارب، علّمت الإنسان الاتّكاء عليها على حساب التصيُّر الحقيقي، الذي منبعه القراءة الصامتة طويلة الأمد في الموجودات من حيث هي، لا من حيث تصوراتنا اللغوية المبتورة عنها.
نحن لا نُقصي حقها في الاختلاف فقط، بل أيضًا نقتل حقّنا في التأمُّل المفتوح فيها، لأننا - ويا لخيبتنا - عندما نُلوِّن الموجودات بمعانيٍ معيّنة - نفترض بعدها أنها هي الكلمات، أو التصورات، أو الألوان، التي رسمناها عنها.
ركّز على حالتك التأملية والفضولية حين ترى أيّ ظاهرة لأول مرة، دون أي مقدمات، أو تصوّرات مسبقة، نرى في تلك الظواهر الكثافة التي هي هي! أي: أننا نراها بأقرب إمكان للحقيقة!
وفي الثانية التي نُقرر فيها إعطاءها معنىً معيّنًا، أو تسمية خاصة، هنا نحن نُمارس الغباء على عدّة اصعدة ومنها: أوّلاً، أننا أفترضنا - غطرسةً منا - أننا فهمنا ما طبيعة هذا الكائن، أيًا كان، أو هذه الظاهرة ودلالتها، وغالبًا ما نعطي الظواهر دلالات إنسانية أكثر منها موضوعية، كون الدلالة مقولة إنسانية لا أكثر!
وثانيًا، أننا في اللحظة ذاتها نعدم إمكانية التأمُّل والتبصُّر الفضولي الصافي المتجدد لها، لذلك عندما نقول: "صخرة"، دائمًا ما نميل إلى الإدعاء بمعرفة ماهيّتها، رغم أننا نعلم حق المعرفة الآن أن هذا غير صحيح.
نحن لا نعرف ١٪ عن ماهية الشجرة، أو الماء أو كلّ من هذا الكمّ اللانهائي من الموجودات، حتى مع كلّ الفتوحات العلمية التي نحظى بوجودها والأدوات الحديثة التي أتاحت لنا رؤية العجائب في القرون القليلة الماضية.
اللغة أوهمت الإنسان أنه فهِم، بمجرّد تسمية الأشياء، لكنها اختزلت المعنى المكثّف وطمست جمال النظرة الأولى المتجددة، فالموجودات أبعد من الألفاظ، وأغنى من التصنيفات اللغويّة القاصِرة.
***
خالد اليماني