قضايا
خالد اليماني: سوانح فلسفية (4)

لا أحد يستطيع إنكار خطورة الأيديولوجيا اليوم، وهذه الخطورة تتجلى على مستويات وطبقات متعددة، لا يسع لهذا المقال القصير التطرق إليها كاملةً كما في الموسوعات، لكن سنذكر بعضها، كما يفهمه الإنسان العاقل قبل المُفكر.
الايديولوجيا تمثل الصراع الدائم بين ما يُعتبر خيرًا وشرًا، ما يُعتبر صالحًا أو فاسدًا، وهو نموذج كل فلسفة، سواءً كانت دينية سياسية أو فلسفية، في فهم العالم الإنساني والعالم الموضوعي.
وخطرها يكمن في المفاهيم والمصطلحات التي تتأسس عليها وتبّشر بها، وتلك المفاهيم على شاكلة: الأنا والآخر، الصديق والعدو، الحق والباطل، إلى غير ذلك من المفاهيم التي لا تُبنى إلا بازاء آخر يبرز تميزها، وهذه خاصية الأيديولوجيا، أنها نسق بازاء كل الأنساق الأخرى، وفكر بازاء الفكر المغاير، والحقيقة بمقابل الباطل!
مشكلة الأيديولوجيات غالبًا، أنها تقوم بالحذف والتعميم والاختيار الموجّه، وغيرها من الأساليب التي تؤسس لبقائها، فهي لا تبحث عن الحقيقية بموضوعية، بل تمضي باحثةً عن أسباب خارجية ومنطلقات معرفية تعزز ذات الهوية والانتماء لها.
وخطورتها الأكبر ربما في أنها تُسلم بإمتلاك الحقيقة، رغم أن الأصل في التجربة البشرية المعرفية الاختلاف والتداخل و الديالكتيك الذي يقف في صف عملية العلم والتعلُّم متعدد الأطراف، بينما الفلسفة (الأيديولوجيا) الواحدة تختزل الواقع في مقولاتها الخاصة.
لا يمكن فهم أي شيءٍ مهما بدا صحيحًا، من زاوية واحدة فقط. وعليه تصبح الايديولوجيا نظامًا يُعمي اتباعه عن رؤية الواقع والعالم كما هو، فما يلبث أن يعاند هذا الواقع في رسمة بألوان ذات الأيديولوجيا.
ومع ذلك، لا أحد يستطيع أيضًا إنكار أنه لا يمكن بناء أي فلسفة أو فكر، بغير الطابع الأيديولوجي الذي يتأسس على نظام وإطار فلسفي محدد، ونتيجة لذلك بالضرورة يصبح نظيرًا لغيره مِن الفلسفات، وبدون هذا الطابع لن يتمكن العلم من تطوير أي نظريات، ولا الفلاسفة من إبداع معارف جديدة للبشرية.
لذا، رغم وجوب التنبه لمخاطر الايدولوجيا، ودورها كعامل أساسي في إشعال الحروب عبر التاريخ، لا سيما حين يُقدسها الأتباع، إلا أنها، مع كل ذلك، والأمثلة لا حصر لها، تظل ضرورية، بل حتمية، ليس فقط من أجل إنتاج فلسفة تقوم على ركائز جديدة، ونظرية علمية وغيرها من الأساسات لفهم العالم.
بل أيضًا على الجانب الاجتماعي والإنساني الذي نغفل عنه، في دوره الصارم في القانون والاخلاق وتنظيم حياة المجتمعات البشرية، اذ بدون أي أساسات صارمة أو افكار ثابته جوهرية، ولو لفترات معينة من التاريخ، لن يتأسس أي نظام دولة مستقر، ولا قانون عام يحمي المواطنين والمقيمين فيه، ولن يكون هناك قدرة على إرساء مناهج تعليم للأجيال القادمة، دون مرتكزات معرفية قوية. ويصبح نقد الايديولوجيا عدمية فكرية تهدم أكثر منها تبني، وتتحول كل جهود الإنسان إلى سراب. على النقد أن لا يكون نقضًا، وأن يكون أداة إصلاح وترميم وتطوير لها جميعًا.
***
خالد اليماني