قضايا
عدي البلداوي: الثقافة العربية المعاصرة ومشاريع الذكاء الإصطناعي

كثير من المفكرين والكتاب العرب، حتى الذين اثارت طروحاتهم استياء الوسط الثقافي والاجتماعي، سيكون لهم مواقع مهمة في تاريخ الثقافة العربية، لأنهم حاولوا صادقين تقديم رؤى جديدة ومفيدة يرتجى منها خدمة الواقع الثقافي للمجتمع العربي الاسلامي. حتى لو ان تلك الطروحات كانت قاصرة عن ادراك الحقيقة. خصوصاً في القرن الواحد والعشرين الذي يمتاز بالتطور التقني المتسارع في العالم الغربي، وبالتطلع الثقافي المتسارع في العالم العربي .
الانسان والتكنلوجيا:
اصبح التطور التقني الآلي الرقمي اليوم واقعاً لا غنى عن قبوله وتقبله. ولم يعد مجدياً إعداد بحث عملي ناجح او دراسة عملية ناجحة في اي مجال من مجالات العلوم وانت تجلس منعزلاً في ركن مكتبك الخاص، ما لم يكن لديك اتصال وتواصل مع العالم من حولك حيث تشهد احداثه حركة تغيير متواصلة ومتسارعة. المشهد الثقافي الخاص بكل مجتمع هو من بين تلك المجالات التي نحتاج في عالمنا العربي المعاصر الى ان ندرسها ونبحثها في ضوء علم الانسان – الانثروبولوجيا – للوقوف على طبيعة المشهد الثقافي الحياتي لمجتمعاتنا العربية لمعرفة الكيفية التي نوظف بها مواردنا الطبيعية والبشرية في مشاريع تخدم تمكين المجتمع ثقافياً في خط التطور الذي يشهده العالم من حولنا.
اننا نسعى من خلال حياتنا الى تكوين شخصيات صالحة وناجحة تبقى بعد موت اجسامنا، يستفيد منها الأحياء بعدنا في تكوين شخصياتهم. هكذا جيلاً فجيل، حتى تبلغ البشرية ما امكنها من درجات الكمال والجمال العليا بحيث تغدو الحياة كما وصفها النبي الخاتم (حلوة خضرة والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون).
يقول الطبيب الفرنسي (ليكونت دي نوي) (على الإنسان أن يفهم إن التطورات الآلية التي أدخلها في بيئته وراح يلائم بينه وبينها لن تكون لها إلا نتيجة من نتيجتين، وهما التقدم أو الدمار حسب نجاحه في شفاعتهما بالتطور في بيئته الخلقية. فواجب الانسان إذن ان يزيح جانباً معالم حضارته الباطلة ويقيم في مكانها معالمه الصادقة وهي الكمال الذي يوافق كرامة الانسانية، وليس المطلوب منه ان يحارب التقدم الآلي – ولا طاقة له بمحاربته لما يرجى من المزيد في تقدم العلم والطب – بل بتهذيب النفس والارتفاع بامثلتها العليا).
العقل الانساني والذكاء الآلي:
ما يميز العقل البشري عن الآلة الذكية هو ان العقل البشري عقل مرتبط مباشرة بمنظومة حسية حيّة يفتقر اليها الروبوت الذكي، لذا فالعقل البشري عقل حيوي بينما يمكن وصف الآلة الذكية بالعقل الفعّال، الأمر الذي يجعل الآلة الذكية تجيب بسرعة ودقة اكبر من الإجابة التي يقدمها العقل البشري للسؤال نفسه الموجه اليهما .
في كتابه (الانسان ذلك المجهول) يقول الطبيب الفرنسي الكسس كارل الحائز على جائزة نوبل عام 1912م : ان النظر الى الانسان كأنه آلة جسدية هو " خطأ طبي" أو خطأ علمي تثبت للباحث جرائره الحسية كما يثبت كل محسوس يعتمده اصحاب التجارب الطبية والعلمية..
يتخوف بعض الباحثين من مستقبل علاقة الانسان بالآلة الذكية إذا شكل الذكاء الإصطناعي تهديداً لحيوية العقل البشري، وتمكن من التاُثير على عملية التفكير حين تتعلق بإستحضار بيانات ومعلومات من الماضي. ولعل تلك المخاوف مرهونة بأجندات النظام العالمي المتحكم بمشاريع الذكاء الإصطناعي، فكلما أمعن هذا النظام العالمي في اعطاء اولوية للمكاسب المادية على حساب قيم الإنسانية، فقد نرى ان هناك تهميشاً للتفكير النقدي لصالح الإعتماد الأعمى على الأنظمة الذكية، وتركيز سوق السلع على تحويل الإنسان الى كائن مستهلك للبيانات بدلاً عن تحفيزه على أن يكون منتجاً للمعرفة. فهل سيحافظ العقل البشري على ريادته وسيادته الفكرية في ظل هذا التطور المتسارع للتقنية الرقمية.؟
قد يصبح التسليم للذكاء الإصطناعي خياراً جذاباً في المستقبل، وقد يبدو ذلك واضحاً كلما اتسعت مساحات إستثمار النظام العالمي الجديد في مجالات الحياة الإنسانية، وكلما كثرت أموال الشركات المنتجة للتقنية، وكلما كثرت حاجة الناس الى استخدام تلك التقنية. لكن مع كل هذا يخبرنا التاريخ ان التغيير الكبير يحدث غالباً في الوقت الذي يرى فيه الانسان انه مجبر على التكيف مع الواقع الجديد.
التراث والتكنلوجيا:
عندما نتحدث عن تراث العرب فإننا نتحدث عن مساحة ثقافية كبيرة، وعن تاريخ موغل في العمق الزمني في عمر البشرية. فالعرب هم اول من استخدم الأرقام والخوارزميات والجبر وعلم الفلك. وهم اول من استخدم مفهوم الجاذبية قبل نيوتن بـ 600 عام على يد العالم العربي المسلم ابن الهيثم الذي يعد اول من وضع منهجاً علمياً في العالم قبل الحضارة الغربية بستة قرون، وهو من اكتشف قانون الحركة. وابن سينا هو مؤسس علم الطب في العالم، وشواهد كثيرة شاخصة وقامات عربية اسلامية كثيرة لا تزال شاهقة رغم كل محاولات إلغاء او تهميش هذا التاريخ الثقافي. المشكلة الكبرى التي تواجه ثقافتنا اليوم انها لم تصل رغم كل الجهود الى مصالحة بين التراث والمعاصرة . لهذا السبب تبدو الفجوة واسعة بين يومنا وأمسنا، وبدا مستقبلنا مصادراً بالكامل لصالح التقنية الرقمية الذكية التي ستؤثر في المثقف العربي الى الحد الذي لا يعود معه قادراً على تكوين رؤية سليمة واضحة المعالم لعلاقة الماضي بالحاضر والمستقبل، الأمر الذي سيدخله مرحلة الأتمتة الثقافية، حيث تتحول المفاهيم الكبيرة الى مضامين بحثية تنتهي بنتائج روتينية لا تخدم يقظة الروح الانسانية في ضمير الأمة.
لا يزال في وسع الثقافة العربية المعاصرة القيام بكثير من الجهود والخطوات التي من شأنها حفظ الموروث الثقافي العربي الإنساني الإبداعي وتنميته ، واعتقد ان فصل الثقافة عن سياسة الدولة سيعطي العقل الثقافي العربي قدرة القيام بذلك وهو يستخدم ايجابيات التقنية المتطورة في عمليات الفهرسة والبحث وتنظيم البيانات وجمع المعلومات لتوظيفها في تمكين المجتمع ثقافياً من خلال الفهم الانثروبولوجي للثقافة بعيداً عن أجندات السلطة ومشاريع السياسة المرتبطة بالنظام العالمي والمصالح العابرة في كثير من الأحيان لإنسنة المجتمعات البشرية.
***
د. عدي عدنان البلداوي