قراءة في كتاب

في تلاقي ياجي وفيفيان.. التجربة والثمار

قراءة في كتاب، فيفيان أمينة ياجي: من باريس الى أم درمان؛ حياتها وأعمالها. للدكتور مكي البدري

تمهيد  

يوم الأحد الموافق 3 نوفمبر 2018م أهداني البروفيسور حسن الحاج علي، رئيس المكتبة المركزية لجامعة الخرطوم، أهداني مشكورا، دعوة كريمة لحضور حلقة نقاش في منتدى الكتاب بمكتبة جامعة الخرطوم بالتعاون مع دار مدارك؛ ندوة مكرسة لعرض كتاب، عن حياة الكاتبة السودانية الراحلة، فيفيان أمينة ياجي: (من باريس الى أم درمان؛ حياتها وأعمالها) للدكتور مكي بشير مصطفى البدري. جاءت الدعوة مرفقة بنسخة من الكتاب الصادر لتوه، عن دار مدارك للطباعة والنشر. بغلاف كلاسيكي أنيق يحمل صورة الباحثة الفرنسية المولد السودانية الجنسية فيفان ياجي بالزي السوداني الأبيض بجانب بوابة خشبية شرقية أثرية مغلقة مفتوحة بالمناصفة!

وتلك صورة رمزية بالغة المعنى والدلالة في سياق العلاقة التاريخية بين الشرق والغرب الشديدة التداخل والاضطراب. وهذا ما سوف نشير اليه لاحقا.

 الكتاب من الحجم المتوسط في (170) صفحة موزع على جزئيين؛ الأول عن مسيرة حياة فيفيان أمينة ياجي، مقتطفات معروضة في (41) مبحثا. والجزء الثاني: عن أعمالها بعنوان: كتب ومقالات ومحاضرات وبرامج إذاعية. في (12) مبحثا. فضلا عن التمهيد والمقدمة والخاتمة والملاحق.   

على مدى ثلاثة أيام عكفت على قراءة الكتاب بسعادة غامرة، لاسيما وقد صادف هوى في نفسي، إذ وجدته في صميم انشغالي بموضوع الاستشراق والاستغراب في أعادة تأمل مشكلة العلاقة بين الشرق والغرب من منظور الدراسات الثقافية ما بعد الكولونيالية. فضلا عن كونه كتابا جديدا بالنسبة لي، وكل جديد للبالغ متعة! بحسب فرويد. فكيف وجدت الكتاب؟ وماذا وجدت فيه؟ وماهي خلاصة قراءتي له؟

 الكتاب جهد رائع بذله المؤلف مكي البدري وهو بالمناسبة تلميذ وفي للأستاذة فيفيان ياجي، إذ ينطوي العمل الذي قام به والمتمثل في (جمع وإعداد ودراسة) سيرة حياة الأستاذة الرحالة المثقفة الفرنسية السودانية فيفيان أمينة ياجي؛ 1930- 2011م على أهمية مركبة.

أولا: فهو من جهة قد أسدى خدمة جليلة للثقافة السودانية والعربية والإنسانية في حفظ وإشهار تحفة ثقافية رائعة كاد يطويها الإهمال والنسيان بسبب ضياع بعض نصوصها وتشتتها في إضبارات وقصاصات متفرقة. إذ إنه وقد جمع سيرتها الزاخرة بالعطاء والإبداع في هذا الكتاب فقد حفظها من الضياع.

ثانيا: يقدم هذا الكتاب فرصه ثمينة للباحثين والدارسين السودانيين وغير السودانيين للوقوف عند حقبة تاريخية حاسمة ومفصلية في مسار تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، بين المحلي والعالمي، بين الذات والآخر، بين الجنوب والشمال؛ حقبة المواجهة والدهشة والاصطدام مع الحداثة الغربية في أوج انتصارها، إذ إن واقعة الحداثة تعد بلا شك أعظم وأخطر حدث تاريخي في حياة الشعوب العربية الإسلامية والشرقية الحديثة والمعاصرة.

ثالثا: نعتقد أن هذا الكتاب المولد حديثا قد جاء في لحظته وفي سياق تبلور مخاض ما بات يعرف بالحركة الاستغرابية الجديدة التي أخذت تتبلور منذ بضعة سنوات في الدوائر الأكاديمية والثقافة العربية الإسلامية. فاذا كان الاستشراق هو الأسلوب الغربي لتعرف الشرق وبحثه ودراسته وفهمه وتصوره وتشكيله واختلاقه وتمثيله وترويضه وإحكام السيطرة عليه وامتلاكه، فإن الاستغراب بوصفه مشروعاً ثقافياً علمياً لمعرفة الغرب وتخيٌله وفهمه وتمثُله وتمثيله "من خلال بنيته المعرفية والثقافية، بوسائل علمية موضوعية " يختلف عن الاستشراق التقليدي ويتفق معه في جمله من النواحي والابعاد القابلة للرصد والمقارنة.

مما لا شك فيه أن الاستغراب سوف يفتح أفاقا واعدة في إعادة صياغة العلاقة بين الشرق والغرب على أسس عقلانية وأكاديمية إنسانية جديدة بما يعزز من قيم التسامح والتعايش والتفاهم والحوار بين الشعوب والثقافات والحضارات والأديان، بعد أن تحطمت الحواجز والحدود التي كانت في الماضي القريب تفصل بينها؛ بفضل ثورة المعلومات والاتصالات، في عالم بات شديد الانكماش والترابط والتداخل. إذ مع العولمة بأفقها التواصلي الفضائي الإنساني، لم تعد عبارة (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا) جديرة بالمعنى والاعتبار، كما ساد الاعتقاد ذات يوم! بل أضحى التلاقي والترابط والتمازج والتأثير والتأثر بين جميع الجهات من ضرورات تدبير العيش والتعايش للحياة المشتركة في هذا الكوكب الدوار.  

رابعا: تعد أعمال، السيدة فيفيان ياجي، مناسبة متميزة للاطلاع على الصيغة النوعية الفريدة التي اكتسبتها العلاقة بين السودانيين والغربيين، منذ موسم الهجرة الى الشمال للروائي العظيم الطيب صالح، الذي كان له الفضل في إعادة صياغة شكل العلاقة بين الشرق والغرب الى صيغة جديدة غير نمطية البتة. وهو بذلك يدعونا الى إعادة النظر في الاستشراق من حيث هو الأسلوب الغربي لتعرف الشرق وبحثه ودراسته وفهمه وتصوره وتشكيله واختلاقه وتمثيله وترويضه وإحكام السيطرة عليه وامتلاكه. (ينظر، إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة السلطة الإنشاء ص 31). إذ هو حصيلة خبرة تاريخية متراكمة لشبكة واسعة من الممارسات والعلاقات الثقافية والحضارية والمدنية، بين الشرق والغرب، بين الأنا والآخر، بين نحن وهم. هذه العلاقة التي نمت وتطورت عبر التاريخ في مسارات متقاطعة من الفهم وسوء الفهم، والشدة واللين، والحوار والصدام، والسلم والحرب، والندية والتبعية، والتكافؤ والهيمنة، والقوة والضعف، والتحدي والاستجابة، وغير ذلك من تجليات التوتر والاضطراب في جدل التماس والصراع بين الشرق والغرب، بين القوة والضعف منذ الاستشراق الأول المحمول على رؤوس الحروف الإغريقية الأكاديمية حتى الاستشراق الأخير المحمول على رؤوس الصواريخ البالستية الأوروأمريكية" (ينظر، قاسم المحبشي، فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر: أرنولد توينبي موضوعا، ص 311). وسوف نلاحظ أنه من رحم الاستشراق الفرنسي والاستغراب السوداني الإنساني جاءت فيفان أمينة ياجي ونمى وازدهر مشروعها المعرفي الفكري الشرقي العربي الإسلامي.

ميلاد الاستغراب.. في موسم الهجرة الى الشمال

من الملاحظ ونحن نقرأ سيرة حياة فيفيان ياجي، أن طلائع النخب السودانية الموفودة للدراسة في الدول الغربية قد اجترحت نمطا جديدا من العلاقة بين الشرق والغرب، بين نحن وهم، فبدلا من نمط الاستشراق الروبنسوكروزي السكسوني الفرنكفوني النابليوني  الذي المح اليه فيلسوف التاريخ العراقي مدني صالح بقوله:" أن طامة العقدة الروبنسكروزية الفاتكة لم تصبح وباءً طاغياً ساحقاً ماحقاً لا يبقى ولا يذر إلا يوم شد الرحال سبعة رجال من أقطار عربية مختلفة إلى جامعة روبنسكروزية أوروأمريكية سايكسبيكوية مؤمركة فاجتمعوا هناك اجتماع المساكين تحت إشراف المسكين روبنسون كروزو المستشرق الملائي المنغلق المخدوع وتعارفوا فوجدوا أن أحدهم قد جاء ليكتب أطروحة في مسألة الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة وأن الثاني قد جاء ليكتب أطروحة في مسألة الخلاف بين الأمين والمأمون، وأن الثالث قد جاء ليكتب أطروحة في مسألة الخلاف بين الغزالي وابن رشد، وأن الرابع قد جاء ليكتب أطروحة في مسألة الخلاف بين المرابطين والموحدين، وأن الخامس قد جاء ليكتب أطروحة في مسألة الخلاف بين الأمويين والعباسيين، وأن السادس قد جاء ليكتب أطروحة في مسألة الخلاف بين الكوفيين والبصريين، أما السابع فقد مل قضايا المخالفة والتخالف والخلاف وبدل موضوعه من الأدب إلى الفقه، وتحول من مسائل الخلاف بين الملل والنحل والمذاهب والفرق فكانت الأطروحة بعنوان اتفاق الآراء في مسائل الاستنجاء، بدلاً من مسائل الخلاف بين جرير والفرزدق تحت إشراف المسكين بروفسور روبنسون كروزو نفسه" (مدني صالح، بعد خراب الفلسفة، ص 27).

 تلك الصورة النمطية للعلاقة بين الغرب والشرق  كانت علاقة بين ذات فاعلة وموضوع منفعل، بين من يرى ويتأمل ويكتب ويفسر وبين من يبُسط موضوعاً للرؤية والتصنيف والتقييد والحكم بين المستشرق الآتي من بلاد الغرب المزدهر، والشرق المتخلف الضعيف العاجز الذي ينتظر من يؤخذ بيده ويحييه، وهذا ما عبر عنه المستشرق الألماني (لودفيج هيرمان فون) بعد زيارته للجزائر وتونس عام 1835 بقوله: "إنهم يتحلون أكثر مَنا بمظهرهم وسلوكهم بهيبة الإنسان الفطري ويفوقوننا من حيث السجايا البدائية، لكنهم لظروف معينة ظلوا جاثمين عند أول درجة من سلم الحضارة، بالنسبة لغرائزهم الطبيعية التي لا يتورعون عن إشباعها بفظاظة بل قل بوحشية رغم رقة شمائلهم.. أصبحوا جنساً منتكساً قاصراً عن تحقيق أي نوع من النهضة أو عن بعث أي ضرب من ضروب الحضارة، ولا سبيل لحضارة إليهم إلا إذا أخضعوا لهيمنة المسيحيين". ويتساءل بكامل الدهشة، كيف يمكن لمملكة تونس أن تصبح لو آلت إلى الأوربيين من ذوي الخبرة والاجتهاد، إن في وسع هذه البلاد الخصبة أن توفر العيش والنعمة لستة أضعاف عدد سكانها، وينتهي إلى التصريح برغبته في حكم البلاد والعباد معلناً: "إنه ليس هناك مهمة أنبل وأجمل من تنصيبه من قبل القوى الأوربية إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية ملكاً على شمال إفريقيا من حدود المغرب الأقصى إلى حدود برقة، وذلك إشفاقاً منها على هذا الربع المهمل" (مصطفى النفير، الامير في دولة القراصنة، مجلة الاجتهاد، ص 110-114).

على العكس من تلك الصورة النمطية للعلاقة بين الشرق والغرب جاء كتابنا الجميل هذا (من باريس الى أم درمان) بعكس اتجاه الاستشراق التقليدي؛ إنه استشراقا معكوسا. هنا يتم تبادل للأدوار، بين الشرق والغرب، فها هو ابن أم درمان القادم من قلب الشرق السودان طالب الدراسات العليا وتلميذ عميد الأدب العربي، طه حسين، المبعوث الى فرنسا لغرض الدراسات العليا، محمد أحمد ياجي، يغدو منذ وصوله باريس ذاتا فاعلة وجاذبة ومحور اهتمام ثقافي وعلمي واجتماعي لفتاة لا روشيل الأطلسية وطالبة الفلسفة الفرنسية المسيحية الكاثوليكية فيفيان غوغيه المولودة في لحظة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية عام 1930م وهي فترة حرجة في تاريخ أوروبا المعاصرة لم تشهد مثيلا لها في مجمل تاريخها.

من المؤكد أن طبيعة العلاقة بين السودانيين والقوى الكولونيالية واهمها الانجليز قد تميزت بملامح إنسانية على الضد من علاقة معظم الشعوب العربية بمستعمريها، إذ قلما نجد كتابات ما بعد كولونيالية كذلك الكتاب الذي إلفه الكاتب السوداني حسن عابدين بعنوان: (سودانيون وانجليز: الوجه الإنساني للعلاقة التاريخية، دراسة توثيقية في التاريخ الاجتماعي) تناول فيه بعض من أوجه وذكريات العلاقات الإنسانية بين الانجليز والسودانيين، فيما يشبه الحنين، من الطرفين طبعا. يمكن الإشارة الى نماذج من النصوص المعبرة عن المعنى. إذ أكد الكاتب أن للاستعمار الإنجليزي في السودان وجهين؛ وجه قاسي وظالم وقاهر وعبوس " أما الوجه الآخر للاستعمار البريطاني فقد أسفر عن قسمات وملامح الحنو والتعاطف والروح الرسالية ومنهج الوصاية على شعب يستحق ويحتاج ان ينتشل من وهده التخلف الحضاري الى اعتاب المجتمع الحديث وعتبات الدولة الحديثة عتبة تلو اخرى وتدرجاً وئيداً نحو التقدم والرفاهية...تلك كانت نوايا وسياسات حملها للسودان جيل جديد من الاداريين البريطانيين عند منتصف العشرينات وفي اعقاب"(ينظر، حسن عابدين، سودانيون وإنجليز، مدارك، 2016، ص45).

وكما هو معروف أن الأثر دليل على المؤثر! وأن تسأل مواطن جزائري عن الفرنسيين لا يمكن أن تجد جوابا مثل هذا الذي قاله شيخ سوداني في الإنجليز هاكم السوال والجواب: "سأل سائل الناظر بأبو نمر ناظر عموم قبائل المسيرية عن رأيه في الانجليز فقال: " نعم الانجليز كانوا حكاماً اكابر ولكن لم يكونوا متكبرين ينظروا للناس ويعاملوهم بكبرياء.. ولكننا كنا نراهم كبارا..." في سياق آخر يصف بابو نمر الانجليز وقد عُرف عنه محبتهم واحترامه لهم: " للإنجليز كما لنا نحن المسلمين باقيات صالحات ثلاث لا تغفل السنتهم عن ترديدها صباح مساء وهي: Please,Thank you,Sorry أي: من فضلك، شكراً، آسف.." وهكذا أوجز بابو بحكمته وفي كلمات قصار ابعاد المثلث الذهبي للثقافة الانجليزية: ثقافة الاستئذان، والشكر والاعتذار عن الخطأ.. " (ينظر، حسن عابدين، المرجع ذاته، موقع سودانيل يوم 03 - 12 – 2014).  وفي السياق ذاته تزخر مذكرات الإنجليز عن السودان وأهله بمواقف إنسانية بالغة السمو والرفعة كتلك التي كتبتها لممرضة ماري رولي والتي عملت في مستشفى الابيض عام 1947 فكتبت في مذكراتها تقول: " ان السودانيين كشعب محبوبون وأفراحهم ومسراتهم وإحساسهم بالمرح مُعْدىٍ للآخرين...انهم يغمرونك في كل مكان بحسن الاستقبال والكرم الاصيل ولا يهمني اين كنتُ في السودان فلم اشعر اطلاقاً بقلق تجاه سلامتي الشخصية..."

ومثل هذا جاء في مذكرات إنجليزي أخر، هو روبن كاتفورد وقد عمل في كل من تالودي ومريدي خلال 1946- 1955 يقول في مذكراته: " ...لا شيء ابداً يغْسِل ما علق في قلوبنا من حب للسودان ولأهل السودان..."(حسن عابدين، المرجع ذاته).

غرضنا من إيراد هذه الشذرات من مدونة علاقة السودان وأهله بالاستعمار الإنجليزي، هو البحث عن تفسير معقول لما تميزت به علاقات التزاوج بين الطلبة السودانيين الموافدين للدراسة في الدول الأوروبية وزميلاتهم الاجنبيات من مختلف الديانات والتخصصات، كما تطالعنا حكاية زواج الطالب السوداني محمد ياجي من الطالبة الفرنسية فيفيان غوغيه وما كان لها من نتائج رائعة على عدد من الأصعدة الواسعة كما سوف نلاحظ ادناه.

الزوجان ياجي وفيفيان في سياقها الحضاري العام

  لقد كان الانسان البرجوازي الاوروبي في عام 1900م انسانا سعيداً، فحياته المادية سهلة، وثروته مستقرة، وضميره طيب، ولا يتسع وقته للملل والقلق. بيد إنه ما أن تصرمت بضع سنوات من القرن الجديد، حتى قلب التاريخ للأوروبيين ظهر المجن، وانقضت المرحلة التي كان التاريخ يبدو فيها نهرا جميلا يغري بالرجوع الى أصله، ويبهج من يرمق جريانه وهو واقف على الشاطئ قرير العين! إذ ما أن تقرع الأجراس وتدوى أصوات المدافع في آب 1914م منذرة ببداية أول حرب عالمية كبرى، حتى يبدأ عهد جديد في حياة الانسان الأوروبي، الذي كان يسبح في زمان مشرق متجانس، يمضي فيه التاريخ بهدوء وتقدم صوب المستقبل الجميل دون اهتزاز أو توقف. لكن ما ان تبدأ القنابل والمدافع تدك "المدن الأوروبية المفتوحة واحدة تلو الأخرى، حتى تميد الأرض والتاريخ، تحت اقدام الانسان الأوروبي، ليهب مذعورا غير مصدق ما يراه. وهذا ما توحي به المقالة المفزوعة في جريدة التايمز اللندنية، إذا جاء بعد ساعات من بدء الحرب عام1914م في افتتاحيتها "ليس هناك أمة متحضرة على وجه الكرة الأرضية ترضي بان تقصف المدن الأمنة المفتوحة بالقنابل من الجو" (ينظر، قاسم المحبشي، مشكلة الانسان في الفكر المعاصر، الوجودية نموذجا ص 95).

وما إن لبثت تخرس أصوات المدافع في عام1918م، حتى تهتز أوروبا من أعماقها على إثر قيام ثورة عام1917م في روسيا – التي اعلنت نفسها (ثورة اشتراكية ضد الامبريالية العالمية) ومنذ تلك اللحظة تنفلق وحدة العالم الرأسمالي الى شطرين متخاصمين – الرأسمالي والاشتراكي.

وإذا أعتقد قادة الثورة الاشتراكية الوليدة لينين وستالين واقرانهم من أحفاد ماركس أن ثورتهم جاءت تعبيرا عن ضرورة حتمية لقانون جدل التاريخ وهي الحل الامثل والضروري للقضاء على تناقضات المجتمع الرأسمالي المتفاقمة والتي بلغت ذروتها في المرحلة الامبريالية، وهذا هو ما تنبأ به ماركس، ولم يفعلوا سوى ترجمة النظرية الثورية الى الممارسة الثورية، وعليه أصبح ماركس مجسداً، بل اجبروه على التجسد ليغدو روح عالمهم الحتمي الدوجمائي الجديد.

وعلى الضفة الأخرى من الدون الهادئ، في المانيا الطموحة كان ذرية نتشه – قادة الحزب الاشتراكي القومي الالماني (النازي) قد استحضروه (نتشه) من قبره بعد انقضاء ثلاثة وثلاثين عاماً على وفاته لينصبوه معلماً للكذب والعنف وليجعلوا منه نافخ الروح العصبية في العرق الألماني الأعلى الذي لا يحتاج الا الى ارادة القوة كي يسود العالم، وليتحقق حينذاك حلم نتشه بعصر الانسان الأعلى السوبرمان.

هكذا بدأ عصر انهيار الحضارة الصناعية الحديثة عندما جرى تجسيد وتجميد القيم الروحية الإنسانية الشفافة لماركس ونيتشه وهيجل في وقائع مادية ومشاريع تنفيذية في عالم الممارسة السياسية التي امتهنت الانسان والتاريخ ممعنة فيهما قتلاً وتمزيقاً. ويتساءل دلسول: كيف قيض لقيم أخلاقية وجمالية وروحية سامية " أن تخرج من ذاتها وتخونها وتتمكن من خلق الوحش الأكثر قذارة في التاريخ يقصد النازية". إذ ما لبثت تتشكل ملامح الدول الشمولية الثلاث – روسيا الستالينية والمانيا الهتلرية وايطاليا الموسولينية – جنبا الى جنب مع الأزمات الاقتصادية والسياسية الخانقة في أوروبا العجوز أعوام (1929 – 1931م) تلك الأزمة التي بدلت موازين القوى الاجتماعية بحيث سنحت الفرصة للطبقات الوسطى أن تستعيد ضربتها في الحياة السياسية الأوروبية محمولة على حصان الديمقراطية الليبرالية التي تحولت في لحظة مباغتة إلى دكتاتوريات مستبدة ومتوحشة قادت الشعوب الأوروبية الى الجحيم وأذاقتها سوء العذاب! 

في خضم هذه الاحداث الصاخبة كانت أوروبا تغلي على نار هادئة ولم يمض كثيرا من الوقت حتى كانت العواصم التاريخية الكبرى باريس ولندن وبرلين وموسكو تترنح تحت القصف العنيف للقنابل الفتاكة، ويهب مارد العالم الجديد (أمريكا) ليدهش العالم الجريح بمفاجئة مروعة عندما يلقي قنابله الذرية على هورشيما وناجازاكي في اليابان عام1945م لتكن ضربة السيف الحاسمة والخاتمة للحرب التي استمرت ستة سنوات من (عام 1939 الى 1945م) وراح ضحيتها أكثر من خمسين مليون انسان. وبدى الأمر وكأن نبوة (موتسيكو) – التي كتبها في غرة القرن الثامن عشر – قد تحققت إذ كتب في "الرسائل الفارسية" يقول: " إنني ارتعد فرقا من أن الأمر سيؤدى اخيرا الى الكشف عن سر تقني تنجم عنه طريقة أسرع لإبادة الناس ومحو الشعوب والأمم جميعاً" لقد برهنت الحرب على ادانة المدنية العلمية الصناعية، وعلى إفلاس الأخلاق العقلانية، وانتكاس حضاري لقيم التقدم والعقل والعلم والمال والنظام والليبرالية والدول العلمانية.. الخ.

 بيد إن عمق هذه الكارثة يتجلى في تلك الجروح الغائرة والعذابات الدامية التي استقرت في النفوس اليائسة الممزقة التي فقدت الثقة في المسيح والكنيسة والتعميد والانسان والعالم المستقبل وكل شيء. كتب المفكر الانساني "رومان رولان" بلغة حزينة: "انتهى عام وبدأ آخر، والقلب دام والعيون تمور بالدموع.. ويضيف: إنني لم اشعر بعزلة معنوية وجو خانق أثقل من هذا. أن ايماني بالأفكار التي أناصرها لازال قويا، ولكنني فقدت كل إيمان بالبشر والدول"

هكذا مما تقدم يمكن أن نخلص لأغراض موضوعنا الى القول: أن عصر فيفيان أمينة تاجي هو عصر استبد به الذهول الناجم عن تلك الكوارث المتلاحقة. وهذا هو الراي الذي كتبه مؤلف كتاب سيرة حياتها، مكي البدري، إذ قال: " بعد انجلاء الحرب، كانت الحياة غير الحياة، فقد انهارت كثير من القيم التي تربّت تلك الطفلة عليها، وفقدت كثيرا من المبادئ التي كانت مُسلِّمات وحقائق بديهية، ومضت في رحلة من البحث، لم تكن في حداثة سنّها تدرك كنهها، ولكنها كانت تحس أنها تفتقد شيئا ما ولا بد من أن تجده. وواصلت في باريس دراستها التي بدأتها في لا روشيل، وكان شغفها بالقراءة والاطلاع هو زادها في تلك الرحلة"(مكي البدري، من باريس الى أم درمان، ص25)

في هذا السياق الحضاري العام يجب النظر الى الطالبة الفرنسية فيقيان غوغيه التي أكملت دراسة الفلسفة عام 1947م والتي لفت نظرها الإشارة "المقتضبة الى الفلاسفة المسلمين في كتاب الطريق الى الفلسفة الذي افرد صفحة ونصف فقط لعرض الفلاسفة والعلماء المسلمين" (ينظر، مكي البدري، من باريس الى أم درمان، ص 32).

في الواقع لقد استطاع الكاتب القبض على أهم الدوافع التي حفزت تلك الشابة الفرنسية النابهة للاتجاه شرقا والبحث عن الخلاص من جحيم الحضارة الغربية المادية المتوحشة. لاسيما بعد أن أعلن نتشه اكتشاف العدم في قلبه وقلوب أهل زمانه! هاهي فيفيان، تمر بذات التجربة الوجودية الروحية التي مر بها نتشه الألماني قبلها، تجربة فقدان الأيمان بالمسيح والخلاص المسيحي كما سوف نلاحظ لتونا. إذ نعتقد أن ثمة عوامل كثيرة أخرى فضلا عن الحرب وسجن والدها كانت قد أثرت في شخصية فيقيان وجعلتها تبحث عن الخلاص في الشرق الروحي. من ذلك، تجربة تعميدها في السنة الحادية عشرة، التي خيبت أملها وفقدان الايمان كما كتب بنفسها " لعل خيبة الأمل تلك كانت هي الأساس الذي وسم حياتها ووجّه دربها في الطريق الذي اختطته لها العناية الإلهية. وتفاقمت خيبة الأمل تلك بنشوب الحرب العالمية، وسفر الوالد ضمن سلاح البحرية، وشظف العيش الذي عانت منه الأسرة، التي اضطرت للانتقال من لا روشيل إلى باريس، حيث كانت الأخت الكبرى تدرس الموسيقى، واضطرت الوالدة للعمل" (مكي المرجع ذاته ص 29). فضلا عن الاهتمامات الفلسفية لوالدتها وحكايات والدها الساحرة عن الشرق بعد رحلاته المتكررة من شمال افريقيا (مكي 23). فهي انسان ينتمي الى جيل ثورة الشباب والنزعة الوجودية والتمرد والضياع والاغتراب وما بعد الكولونيالية وحضارة الموجة الثالثة وما بعد الحداثة وسقوط الحكايات الكبرى.. الخ. كما كان لاهتمامها بالدراسات الاستشراقية وقراءتها لكتاب " سيرة الرسول محمد بعنوان: محمد: نابليون السماء" للمستشرق الفرنسي جان باروا أثر عميق في تحولها الروحي إذ اعترفت انها شعرت كأنما خرجت (من الظلام الى النور) بعد قراءته (ينظر، مكي، المرجع ذاته، ص34).  

على كل حال لابد لنا من الإقرار ونحن نتتبع سيرة حياة فيفيان الجدير بالاهتمام بان الدافع الأهم والعامل الحاسم في تحديد مصيرها في أحر المطاف كان وجود وحضور وظهور الشاب الأسمر الخلوق محمد أحمد ياجي في حياتها. وقد سرد المؤلف العلاقة بينهما من أول نظرة الى أخر لحظة من حياتهم الحافلة بالمواقف والاحداث والإنجازات الإبداعية: علاقة حب واحترام مسيجة بالمودة والوفاء النادر. (ينظر، مكي البدري، المرجع ذاته، ص45).

أنني من واقع تخصصي في الفكر الغربي المعاصر بشقية السكسوني والفرنكفوني اعتقد بان هذا الكتاب الصغير الجرم العظيم المحتوى إنما يؤسس لنمط جديد من الرؤية والتأويل والفهم للعلاقة بين الشرق والغرب، نمط يبحث في الممكنات المشتركة للتلاقي بينهما على الضد من الرؤية الصدامية التي سادت الفكر الحديث بصيغة (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا) التي كتبها الشاعر الإنجليزي روديارد كبلينغ نهاية القرن التاسع عشر.

الزوجان ياجي؛ محمد أحمد ياجي المولود في أم درمان السودان من 1918- 1994م وفيفيان غوغيه المولودة في لا روشيل الفرنسية 1930-2011م، اثبتا بالتجربة والبرهان العملي الحي بطلان هذا عبارة الإنجليزي كبلينغ، وأكد تأكيدا حاسما امكان اللقاء بين الشرق والغرب، بل وجعله ذلك اللقاء خصيبا ومفيدا وخلاقا وزاخرا بأنبل المعاني والدلات الإنسانية الجديرة بالنماء والتنمية.

 ياجي وفيفيان: الشرق والغرب اللقاء والثمار

المثير للاهتمام أن ظاهرة زواج المبعوثين السودانيين للدراسة في الجامعات الغربية من زميلاتهم المتميزات علميا تعد ظاهرة ملفته وجديرة بالبحث والدراسة بما تحمله من دلالات بالغة الأهمية علي صعيد الدراسات الثقافية ما بعد الكولونيالية، إذ وجدتها ليست مقتصرة على ياجي وفيفيان كما كنت أعتقد واهما، بل تبين لي أن عدد واسع من المثقفين والعلماء والأدباء والأكاديميين والفنانين السودانيين والأطباء والمهندسين قد تزوجوا من اجنبيات وعاشوا معهن حتى أخر العمر، ومنهم  الروائي الطيب صالح الذي تزوج من الاسكتلندية جولي وانجب منها ثلاث فتيات هن (سارة وسميرة وزينب)  والعلامة عبدالله الطيب، الذي تشرفت بمعرفة زوجته الإنجليزية السيدة جريزلدا ويليم قبل أيام في الندوة المكرسة للعلامة عبدالله الطيب المصاحبة للمعرض الدولي السابع عشر للكتاب. والدكتور راشد دياب الذي تزوج من اسبانبة. والدكتور عبد الرحمن محمد سعيد الأكاديمي السوداني والذي عمل سفيراً للسودان في إيران متزوج من المانية كانت تسمى كريستينا ثم اسلمت على يده وسميت حميدة وانجبت له عدد من الاولاد والبنات. وكذا الدكتور بابكر عبد الله السيد وهو طبيب قلب مشهور متزوج من المانية اسمها إنيقا. والباش مهندس طيران سر الختم كمبال متزوج من طبيبة بولندية اسمها زجسلافا كونكوفسكا كمبال. وهناك حالات كثيرة مشابهة من الزيجات الناجحة لا يتسع المجال لذكرها هنا. ويرى الكاتب خالد موسى دفع الله أن (ألفنانة التشكيلية جريزالدا الطيب زوجة العلامة الراحل البروفيسور عبد الله الطيب في مقال لها بصحيفة الشرق الأوسط، قد زعمت من خلال معايشتها لتلك الفترة في بريطانيا، أن شخصية مصطفي سعيد هي مزيج بين ثلاثة شخصيات حقيقية عاشت بالقرب من الكاتب في لندن. وتقول جيرزالدا أن هذه الشخصيات هي: " د. سعد الدين فوزي وهو أول سوداني يتخصص في الاقتصاد بجامعة أكسفورد، حيث تزوج فتاة هولندية محترمة ومخلصة وليست شبيهة بالفتيات في الرواية، وحصل على درجة الدكتوراه في العام 1953، وعاد إلى السودان، حيث شغل منصبا أكاديميا رفيعا الى أن توفي بالسرطان عام 1959. ولكن قبل ذلك التاريخ في الخمسينات حصل عبد الله الطيب على درجة الدكتوراه من جامعة لندن في اللغة العربية وعيّن بعدها محاضرا في كلية الدراسات الأفريقية والشرقية بالجامعة نفسها، وقبلها بعامين تزوج من فتاة إنجليزية (هي الكاتبة نفسها)، ومرة أخرى ليست شبيهة بصور فتيات الرواية. إذا هنا مزج الطيب صالح الشخصيات الثلاثة: سعد الدين وحصوله على شهادة دكتوراه في الاقتصاد من أكسفورد والدكتور عبد الله الطيب وتعيينه محاضرا في جامعة لندن. أما الشخص الأكاديمي السوداني الثالث الذي اقتبس الطيب صالح جزءاً من شخصيته لتمثل الصفة الثالثة عند مصطفى سعيد -وهي الدون جوان، إلى حد ما- فهو الدكتور أحمد الطيب صديق الثلاثة ورفيقهم في الدراسة بالسودان وبريطانيا"). وبغض النظر عن حقيقة هذا الزعم والدحض فما يهمنا هنا هو الاشارة الى أن الطيب صالح وروايته موسم الهجرة الى الشمال قد افتتحا أفق جديدة للعلاقة بين الشرق والغرب، أفق أكثر رحابة وإنسانية وقيمة وفائدة وفي سياق ذلك الأفق الجديد يمكن رؤية وتعيين فيفيان أمينة ياجي بوصفة ثمرة يانعة للتلاقي قلبين وعقلين من الشرق والغرب، هما السوداني محمد أحمد ياجي والفرنسية فيفيان غوغيه، فكان أن أثمر هذا اللقاء الخصيب الجميل تلك الثمار اليانعة الرائعة التي نحتفي بها اليوم. والتي سيكون لها شأن عظيم على صعيد تخصيب وتنمية المعرفة الإنسانية ودفع حركة الاستغراب الجديدة.

وطالما وقد حاولنا أعلاه تأطير زواج ياجي وفيفيان في سياقه العام، فمن المهم استخلاص النتائج الملموسة المحسوسة من ذلك اللقاء كما تمخضت في الواقع العملي المباشر. إذ كان لهذا اللقاء الحميم بين رجل شرقي وسيدة غربية نتائج رائعة لم تكن بحساب أحد حتى هما ذاتهما، يمكن الإشارة الى أهمها:

أولا: المرأة في الغربة وطن! إذ كانت وستظل المرأة في كل زمان ومكان، هي الوجود الأكثر إنسية في الحضارة الشرية، أذ هي حواء من اسمها حاملة سر الحياة ونبضها، فحيثما توجد المرأة توجد الحياة الحانية، وبهذا المعنى نفهم رمزية وجود المرأة ودورها في أسطورة جلجامش، أول نص مكتوب في التاريخ البشري. وللمرأة لغة إنسانية عابرة للحضارات والأديان واللغات والثقافات، أنها لغة الحب والحنان والرفقة والعشرة والآنسة، الإنسانية الحميم. وربما اشتقت الصفة إنسانية من أسم (نساء) هن موطن وسكن الأنس والسلوى للكائن الذكر في كل زمان ومكان. ها هنا يمكن لنا البحث عن المفتاح السري في علاقة الشاب السوداني محمد ياجي القادم الى باريس لغرض الدراسات العليا مع الآنسة فيفيان غوغيه الفرنسية المهتمة في الدراسات الشرقية. فلولا انجذابهما لبعض لما أنجبا تلك التجربة الحياتية الفريدة الزاخرة بالثمار اليانعة. فكما وجد الشاب العربي الغريب في باريس قلب امرأة يحبه وروح نسوية تأنسه وحضن انثى ناضجة يضمه، وجدت فتاة فرنسا الباحثة عن الحقيقة والحب والأمان في هذا الشاب الشرقي الأسمر الفارع الطول الدمث الأخلاق، فارس أحلامها وحامل مشروعها الروحي والثقافي الكبير.

ثانيا: أثمر لقاءهما إنجاب طفلتين هما الدكتورة سكينة والمهندسة سلمى وتكوين اسرة سعيدة يضرب بها المثل في أم درمان." منذ أن وطئت قدما السيدة فيفيان أمينة، وقد اتخذت اسم أمينة اسما ثانيا لها بعد اعتناقها الإسلام، أرض السودان ودخلت في بيت أسرة زوجها بأمدرمان، وقعت في حب هذا البلد وتلك المدينة. وتقول عن تجربتها أنها خائفة من استقبال أهل زوجها لها لكونها غريبة أجنبية من بلد بعيد وثقافة مختلفة، ولكنها فوجئت، على العكس تماما، باستقبال فائق وحفاوة بالغة، ولم تبذل مجهودا في أن تصبح جزءا من الأسرة، بل الأسرة هي التي احتضتنها وجعلتها تحس أنها جزء لا يتجزأ منها"(مكي، المرجع ذاته، ص56)

ثالثا: نجاح عملي للزوج محمد أحمد ياجي الذي تدرج في عدد من المناصب الرفيعة في المجال الدبلوماسي، والسياسية حتى تقلد منصب وزير السلام، ولعل كل هذا النجاح لم يكون بمعزل عن الأثر الإيجابي للسيدة فيفيان أمينة التي كانت له خير شريكة في حياته. وبهذا المعنى نفهم فحوى المثل (وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة، والعكس صحيح، إذ مثل وجود محمد أحمد ياجي في حياة فبفيان حدث تاريخيا بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ بفضل زوجها اعتنفت الإسلام، واكتسبت الجنسية السودانية وتعلمت اللغة العربية، وكتبت وترجمة عدد واسع من الكتب والمقالات، فضلا عن التحاقها في الهيئة التدريسية في الجامعات السودانية" من خلال عمل زوجها في وزارة الخارجية، تنقّلت السيدة فيفيان أمينة ياجي في مختلف أرجاء العالم التي عمل فيها زوجها سفيرا للسودان، في جدة وبغداد وفي الكونغو ونيويورك وواشنطن، ولكنها كانت دوما تحن للعودة إلى السودان، ولا تحس بانها في وطنها إلا عندما ترجع إلى ترابه وتعيش في وسط أهله. وقد كتبت مقالات عن بعض رحلاتها، ووصفت تجربة الحج وزياراتها للأماكن المقدّسة في الجزيرة العربية التي تركت في نفسها أثرا عميقا مس شغاف روحها وكتبت عنها كتابا وثّقت فيه تجربتها" (مكي، ص 65).

رابعا: ما حققته السيدة فيفيان من نجاح اجتماعي وثقافي وعملي في السودان. إذ " عرفها طلاب اللغة الفرنسية في جامعات السودان المختلفة، فقد درس على يديها الكثيرون في جامعة الخرطوم وجامعة أمدرمان الإسلامية وجامعة النيلين، وغيرها، كما عرفها الناطقون بالفرنسية في السودان وخارجه بكتاباتها وترجماتها في مجالات الإسلام والتاريخ والسودان والمسرح، وبمشاركاتها في المؤتمرات وبرامجها في القسم الفرنسي بالإذاعة السودانية في هذه المجالات. ويتجاوز نشاطها الجم وحبها للسودان وأهله جميع هذه المجالات ليشمل كل من عرفتهم أو درّستهم أو زاملتهم لتغدق عليهم مودّتها وعلمها وعطائها بلا من ولا حدود ومن خلال مشاركتها في الحياة الاجتماعية، هذا فضلا عن فيضها العلمي والأكاديمي" (مكي البدري، ص13).

خامسا: ما إنجزته الراحلة فيفيان من أعمال فكرية في الأدب والأنثروبولوجيا الثقافية والدراسات الاستشراقية والترجمة والفقه واللغة والسيرة والتراث ومنها الاعمال الآتية:

كتاب، الدين المقدس: ذكريات من الحج. الخليفة عبد الله حياته وسياسته، رسالة دكتوراه. والأحاجي السودانية، وقصتان لتوفيق الحكيم. والأربعون حديث النوويية. وجوه من الإسلام. رجال من المهدية، الخليفة عبد الله والأنصار الأوائل، وسلاطين الظل، وأصحاب الرسول، الفارس الأسود. والفقه الإسلامي. وغير ذلك من الكتب والترجمات التي منها كتاب "التوحيد" لمحمد بن عبد الوهاب، وكتاب "الطراز النقوش ببشري قتل يوحنا ملك الحبوش" لإسماعيل عبد القادر الكردفاني، وكتاب تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته. لنعوم شقير وإيزيس، لتوفيق الحكيم، والشلوخ، ليوسف فضل، المقاومة الداخلية للحركة المهدية، محمد محجوب مالك، ونبتا حبيبتي لهاشم الصديق، وريش النعام لخالد المبارك، والمك نمر لإبراهيم العبادي. وغير ذلك الكثير من الأعمال التي أنجزتها الرحلة الحاجة نيفيان يرحمها الرحمن الرحيم.

سادسا: نجاح للدين الإسلامي الحنيف، تمثل في أقدام المسيحية الكاثوليكية فيفيان غوغيه الى التخلي عن ديانتها المسيحية الأصلية ودخولها الإسلام برغبة وحماسة ذاتية مثيرة للأعجاب والاحترام، وبذلك كسب الإسلام إضافة نوعية جديرة بالقيمة والأهمية، فضلا عن أن ذلك الاختبار وعملية التحول الروحي للسيدة فيفيان من المسيحية الى الإسلام، قد تمت بسلاسة ورحابة وسماحة وتفاهم ووعي تام. وقد لفت نظري موقف الراهبة المسيحية في الكنيسة الأنطونية التي قصدتها المحتارة فيفيان في أحد الأيام وروت لها أصابها من مشاعر الحيرة والقلق الوجداني في بداية اضطرام رغبتها في اعتناق دين الإسلام وما كان ينتابها من شكوك وخوف من اتخاذ هذا القرار البالغ الخطورة والحساسية في حياتها، إذ يعد قرارا مثل هذا من أخطر القرارات التي يمكن أن يتخذها الانسان في كل زمان ومكان كما نعلم. ذهبت فيفيان لتستشير الراهبة الأنطونية في هذا القرار والاختيار المتمثل بترك دينها التي ولدت عليه واعتناق دين آخر، لا تعرف عنه الكثير! فماذا قالت لها الراهبة الطيبة اليكم ما قالته بالحرف الواحد، قالت الراهبة: (ما أهمية الدرب مادام يقود الى قمة يوجد فيها الرب) ينظر، مكي البدري، المصدر ذاته، ص 40).

 الا تلاحظون معي أن تلك العبارة انما تمثل قمة التسامح الديني وتنطوي على معاني ودلالات إنسانية بالغة العمق والأهمية فيما تفتحه من أفاق ممكنة للحوار والتفاهم والتعايش بين الديانات والثقافات والحضارات في عالمنا المعاصر الذي بات في صيغته المعولمة شديد الضيق لاستيعاب الصراعات الدينية المقدسة كما كانت عبر التاريخ الماضي. وما أرق الدين وسماحته في قلب فيفيان وراهبتها! ورغم أن فيفيان أعلنت إسلامه على السنة المحمدة الشريفة، الا إنها حافظت على سماحتها الروحية تجاه المخالفين من الشيعة والمذاهب الأخرى، إذ تحول سنيتها وزوجها من زيارتهما للأضرحة و((المقدسات)) الشيعية في العراق (الكاظمية، وكربلاء، والنجف، والكوفة، وسامراء وغيرها) إذ كتبت عن تلك الزيارات بلغة محايدة وبعين أنثروبولوجية مثقفة.

وفي تعليقها على عاشوراء ومأساة كربلاء اعترفت فيفيان أنها شعرت أن "مأساة كربلاء باقية في ذهن كل فرد من أولئك الناس.. وكأنما الإمام الحسين لم يُقتل عام 680ميلادية بل بالأمس"(ينظر، مكي البدري، ص73)      

سابعا: لعل الخلاصة الجديرة بالقيمة والاعتبار من كتاب مكي البدري، عن سيرة حياة الزوجين ياجي وفيفيان، -أو هو بالأحرى سيرة حياة فيفيان وأعمالها وحدها، وكان حضور زوجها المرحوم محمد أحمد ياجي، في النص بحكم الضرورة الزوجية فقط- أقول ربما كانت خلاصة الخلاصة لهذا التجربة المدونة تكمن في طبيعتها النوعية المتفردة، في ظاهرة شبكة العلاقة الاستشراقية الاستغرابية المنتجة، إذ وقفنا عند زوجين من حضارتين مختلفتين،  فيفيان فرنسية صارت سودانية الجنسية تعلمت اللغة العربية لغة القرآن واعتنقت الدين الإسلامي، وفكرت وكتبت معتزة ومفتخرة بهويتها الافريقية العربية السودانية بحماسة وحب وحمية، واثرت بما كتبته وانجزته- طوال حياتها في مختلف مجالات الفكر والثقافة- المعرفة الإنسانية عامة والعربية والوطنية السودانية خاصة، ومحمد ياجي، سوداني عربي مسلم تعلم اللغة الفرنسية وتمكن من التفاهم مع زوجته الذي كون معها أسرة سعيدة بملامح عالمية. وكما هو معلوم أن امتلك لغة ثقافة من الثقافة يعني بالنسبة للفرد الإنساني امتلاك عقليين في جسد واحد. وهكذا كانت ثمار تلاقين الزوجان ياجي وفيفيان، نتائج عظيمة الشأن، وغير قابلة للنسيان، وستظل تنمو وتزدهر مع السنين والإيام. ويحق للراحلة فيفيان أن تفتخر بذاتها اليوم في حضرة الغياب ولسان حالها يقول: ها أنا معكم وفيكم وبينكم، ومن غير الممكن نسياني، وقد صرت رمزا ثقافيا كبيرا من رموز وطني السودان والرموز خالدة لا تموت! فإذا كان جسدي وضمير غائبان، فقد تكفلت ضمائر أخرى، فأنا في جميع الأفواه لغة عالمية، وأنا في مئات القلوب والأذهان أنتصب فضولاً قابلاً للنماء والاتساع، فأنا لست موجودة بعد في إي مكان، أني موجود أخيرا في كل مكان. ودمتم بخير وسلام

ملاحظات شكلية في الكتاب  

أولا: على أهميته واناقته- أقصد الكتاب موضوع القراءة-  وجودة دار النشر التي أصدرته، مدارك، وصاحبها الأديب المثقف الصديق العزيز، الياس فتح الرحمن، الذي تشرفت بمعرفته منذ ستة أشهر، اسمحوا لي أن اخبركم بأنني رصدت عدد من الأخطاء الطباعية المتكررة في مختلف صفحات الكتاب يمكنني الإشارة الى نماذج منها هنا، مثلا في صفحة 8 (كاونت) وهي (كانت) وفي صفحة 22 كتبت كلمة (تز وجت) متباعدة الأحرف! وفي صفحة 29 (عُنمدت) والمقصود (عُمدت) وفي صفحة 90 (الجزور) والمقصود (الجذور) وفي صفحة 131 (تارخيهية) والمقصود (تاريخية) أو (مهتهم) والمقصود (مهمتهم) وفي صفحة 137(مؤلنّف) والمقصود (مؤلف).  مثل تلك الأخطاء الطباعية رصدت قرابة 58 حالة في الكتاب، أتمنى تداركها مع خالص التقدير والاحترام. 

ثانيا: لاحظت أن بعض الجمل والفقرات الواردة في الكتاب تحتاج الى إعادة تدقيق وتعديل في الصياغة من قبيل الجملة التي كتبت هكذا (ويقال إن للبحر قوة جذب هائلة لا يستطيع من استنشق عبيره واعتاد لسانه على تذوقه.. الخ) صفحة 23. أعتقد أن هناك كلمة ناقصة هي (مقاومتها) وكذلك الجملة التي بدأت السطر (وشقيقتها جاكلين كان لها اهتمام كبير بالأدب والموسيقى والسفر حول العالم) وسط صفحة 27. كما أن عبارة (نزق الشباب) وردت الصفحة 39 لا اعتقد إنها تفسر حقيقة دوافع فيفيان ورغبتها الانضمام الى أحزاب اليسار حينذاك، والمسالة أعميق وأكبر من كونها مجرد نزق شباب! لاسيما ونحن نعلم أن ثورة الشباب الأوروبي عام 1968م كان لها نتائج حاسم على صعيد تطور أوروبا اللاحق، إذ يعدها البعض علامة فارقة في مسار الحضارة المعاصرة.  

 

ثالثا: اثناء قرأتي للكتاب لفت نظري، فقرة تقول: أن الباحثة الراحلة فيفيان ياجي، في تحضير اطروحتها للدكتوراه عن الخليفة عبد الله المهدي قد "استندت في عملها بصفه أساسية الى وثائق المحفوظات (الأرشيف) المتعلقة بالمهدي. وتقدر هذه الوثائق بنحو خمسمائة ألف وثيقة، خصص ثلاثون الفا منها للخليفة عبد الله" (ينظر، مكي البدري، المرجع ذاته، ص129-130).

كما هو واضح أن ثمة مبالغة في تقدير عدد المصادر المُطلع عليها في التحضير للدكتورة، إذ أن الرقم نصف مليون وثيقة عدد كبير جدا بالنسبة للمدة الزمنية المخصصة لمدة إنجاز أطروحة الدكتوراه، ومن واقع الخبرة العملية والتغذية الراجعة قلما يتمكن طالب الدراسات العليا الباحث الأكاديمي المجتهد من المرور والاطلاع على عشرة ألف وثيقة من المصادر والمراجع المتصلة بموضوع بحثه بشكل مباشر أو غير مباشر! فكيف بالأمر حينما يفوق العدد عن مئة ألف وثيقة؟!  هذا لا يعني باي حال من الأحوال أنني هنا اشكك بقدرات الباحثة الراحلة السيدة فيفيان ياجي، التي لا غبار عليها ونزاهتها ابدا! فربما كانت تعني ما تقوله لاسيما في ظل الإعلام الجديد والانترنت الساحر، بقدر كوني أود التأكد من صحة هذه المعلومة وقد ظننتها خطأ في كتابة الرقم، إذ ربما يقصد خمسين ألف وثيقة؟        

ختاما:

في ختام هذه الرحلة الشائقة في فيفيان ياجي وعوالمها الثقافية والفكرية الرائعة ماذا بوسعي قوله؟ أكرر شكري وامتناني العميق للأستاذ الدكتور حسن الحاج رئيس المكتبة، كما أحيي واشكر مؤلف الكتاب الدكتور مكي البدري، اشكرهما على منحي هذه الفرصة الطيبة التي جعلتني أطل على واحة ثقافية ومعرفية جديدة في حياتي، فلولاهما لكنت بقيت على جهلي بحكاية السيدة فيفيان ياجي وأرثها الفكري الزاخر بالإبداع والعطاء، فضلا عما فتحته لي قراءة هذا الكتاب من نوافذ موازية للأطلال على المدونة الثقافية الفكرية السودانية الجديرة بالأهمية والقيمة والاعتبار، بما تمتلكه من كنوز حضارية وثقافية معرفية بالغة القيمة والحيوية في علمنا الراهن. عالم العولمة الشديد التداخل والتواصل، الذي نشعر اليوم وأكثر ما أي وقت مضى باننا كنا نجهله، ولا خير لنا من بذل المزيد من الجهد لكي نتعرف على عالمنا وأهله وثقافاته.

وكما هو معلوم أن الآخر مرآة الذات! وقبل إطلاق أي حكم نافذ على مجتمع آخر لا بد أن يبلور الباحث موقفا واضحا قدر الإمكان تجاه مجتمعه نفسه. وسرعان ما سيكتشف أن الطريق الوحيد لتحقيق كشف المحجوب عن الذات إنما يتم بالدراسة (المقارنة) لذاته في أثناء انهماكها برصد الآخرين، وبأن يعي أنماط التشوهات التي ينطوي عليها هذا الموقف بالضرورة، فرصد الآخرين وتأويلهم هو الوسيلة الناجعة إلى رصد الذات.

وهذا هو بالضبط الشعور الذي شعرته به أنا الآن وهنا في لحظة انهماكي بقراءة كتاب الدكتور مكي؛ إنه موقف وعي الذات في لحظة اصطدامها بذات أخرى، ونقصد بالذات هنا المستويات المتعددة من الهوية الشرقية الآسيوية الافريقية العربية الإسلامية لتاريخية والحضارية الجهوية والإنسانية، إذ اشعر الآن بعد قراتي لكتاب حياة الراحلة فيفيان ياجي بأنني لست كما كنت قبل قراءتها، صرت انساناً أكثر مما كنته. وكل ما أتمناه الآن هو أنني قد تمكنت من قراءة الكتاب وفهمت ما تيسر من فحواها، واستطعت أن انقل اليكم أيتها الآنسات والسيدات والسادة، الحضور الكريم، لمحة واضحة عما قرأته في هذا الكتاب الجميل!  وألا يكون جهدي قد ذهب سدى! ودمتم بخير وسعادة. وللسيدة الراحلة التي جمعت هنا المرحومة فيفيان ياجي ألف رحمة ونور تغشاها في مثواها في ملكوت الرحمن الرحيم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

ا. د. قاسم المحبشي، أكاديمي من جامعة عدن.

 

في المثقف اليوم