تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءة في كتاب

قراءة في كتاب: تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطريّة

السعيد بوشلالقمدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي، تأليف الدكتور محمد جابر الأنصاري

في قرأتي لهذا الكتاب القيم لا أريد أن أقدمه بشكل نظري معقد لكون الموضوع الذي يُعالجه هذا الكتاب موضوع يمس حياة ونضال عدة أجيال عربية طامحة. فقد جاء هذا الكتاب في وقتِ اشتدت فيه الصراع الإيديولوجي والتمزق السياسي وجلد الذات. الكتاب جاء في سياق الإسهامات الأساسية في مجال الوعي العلمي العربي بالذات وفهم المشاكل الحقيقية التي تعرقل الوحدة والنهضة العربية الشاملة. إنه كتاب جدير بالمطالعة.

- في تقديم كتابه في ضرورة نقد الواقع. يقول المؤلف الباحث الدكتور محمد جابر الأنصاري أن هذا البحث (يهدف إلى لفت انتباه الوعي العربي إلى أن الأزمات السياسية المتلاحقة التي يُعانيها العرب ليست وليدة الحاضر الراهن وحده، وليست نتاج لحظاتها الآنية المنعزلة، وإنما هي أعراض لتراكم واقع موضوعي طويل الأمد، تداخلت فيه عوامل المكان والزمان والتكوين الجمعي، أي بكلمة أخرى: عوامل الجغرافيا والتاريخ والتركيبة المجتمعية العامة المتوارثة، والممتدة إلى عُمق الحاضر المُعاش في مختلف مظاهره وأعراضه التي يُعانيها عرب اليوم.) ص 07. ويُلح الكاتب على ضرورة (النظر في «الخصوصية» التاريخية المجتمعية لهذه الأمة. و«خصوصية» المعوقات والأعباء والموروثات المجتمعية. إنها «خصوصية» موقعها وموضعها في المكان، و«خصوصية» تجربتها في الزمان، و«خصوصية» تكوينها المجتمعي وتركيبتها العامة..) ص 09.

- في القسم الأول مقدمة تحليلية مسهبة في «تكوين العرب السياسي». يتناول فيه الباحث تاريخ العرب منذ ظهور الإسلام حيث يصل إلى نتيجة مؤلمة مفادها أن العرب نجحوا حضارياً ولكنهم فشلوا سياسياً. يقول الكاتب: (إن المتأمل في خط التاريخ السياسي العربي منذ القدم، وعبر العصور، يكتشف أن ما يراه اليوم ليس ظاهرة نادرة مُنقطعة بذاتها طوقت عنق الأمة - هكذا - من الفضاء.. وأن المشهد الحالي يُشبه مشاهد عديدة سابقة متماثلة يربط بينها منطق متماثل، لعل أقرب وصف له بأنه منطق الأزمة حيث كانت الحالة السياسية للعرب تُدار غالباً بمنطق إدارة الأزمة أكثر مما تُدار بمنطق الحالة الطبيعية.) ص 17. ويُضيف أن (النتيجة التي تفرض نفسها على الباحث هنا هي أن تاريخ العرب والإسلام كان عبارة عن تسابق تراجيدي خطير في بناء حضاري وصراع انتحاري.. بين بناء حضاري في الدين والعلم والعمران والفكر، والثقافة والفنون، وصراع انتحاري في السياسة والسلطة والدولة.) ص 23. وحيث أن العلاقة بين المثقفين وولاة الأمور تردت إلى حد أن حجة الإسلام أبو حامد الغزالي أوصى بعدم مخالطة الحكام أو رؤيتهم «لأن رؤيتهم ومجالستهم ومخالطتهم آفة عظيمة». وذهب الشيخ ابن تيمية إلى «أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة». كما وجد الشيخ محمد عبده في أوربا إسلاماً بلا مسلمين، بعد أن وجد في الشرق مسلمين بلا إسلام. (ومن هنا نشأ توتر دائم في تاريخ العرب والإسلام بين انتماء عقيدي وثقافي وحضاري شامل وبين انتماء سياسي واقعي متجزئ، وهو توتر مازال قائماً إلى اليوم بين الانتماء الديني أو القومي الواسع وبين الانتماء القُطري المتحدد.) ص 24. (والواقع أن المجال الرحب الذي تركه الإسلام مفتوحاً لاجتهادات المسلمين في السياسة لم تتم الاستفادة منه كما ينبغي عن طريق إغنائه وملئه بالنظر الفكري السياسي لمفاهيم الدولة والسلطة وتنظيماتها وإدارتها وإيضاح كيفية تقنين الآليات والإجراءات التنظيمية الواجب اتّباعها في حالة انتقال السلطة أو التنازع عليها أو التحاور مع المعارضة ومشاركتها.) ص 24. (إن الواقع ظل على انفصام خطير... وانحصر معيار القبول الإسلامي بأي حكم واقعياً في أمرين: القدرة على منع الفتنة من الانتشار، وتطبيق الشريعة الإسلامية. والمفارقة هنا هي أن تطبيق الشريعة شمل كل المجالات ما عدا المجال السياسي حيث كانت السلطة تُطبق الشريعة على الجميع إلاّ في ما يخصها. وصارت القاعدة المتّبعة لدى الفقهاء في العصور المتأخرة: «لا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا علينا، وندعو لهم...».!؟) ص 25. (ومن هنا كان الخيار في واقع الحياة السياسية بين القبول بالاستبداد أو التعرض للفتنة، لا بين الاستبداد أو الحرية، ومن هنا جاءت المقولة القاسية: «سلطان غشوم ولا فتنة تدوم».) ص 27.

2208 محمد جابر الانصاريويضيف الباحث محمد جابر الأنصاري (إن الصورة العملية تكشف عن أزمة سياسية عامة تطال المجموع العربي ومختلف أطرافه رسمية وشعبية. ما يجب أن يُقال بوضوح وصراحة: إن السلطة في أزمة، وإن المعارضة في أزمة، وإن الدولة في أزمة، وكذلك الثورة في أزمة، وإن الحكومات في أزمة، وكذلك الحركات الشعبية والأحزاب في أزمة، سواء من حيث الوعي السياسي أو الأداء السياسي.) ص 32.

ومن ثَمّ تطرق الباحث إلى مناقشة مكونات الأزمة، وأسباب التأزم المزمن للحياة السياسية عند العرب، ماضياً وحاضراً، وأخطرها - العامل الجغرافي - عامل المكان، وفي هذا المجال يبرز تأثير القطيعة المكانية (إن هذه القطيعة المكانية تتمثل في دور الفراغات والفواصل والحواجز الصحراوية الشاسعة الممتدة بين معظم الأقطار العربية في تقطيع وتجزئة المنطقة العربية عمرانياً وسكانياً، وبالتالي مجتمعياً وسياسياً، في الماضي، وإلى الحاضر، وإذا دقّقنا النظر في خريطة التجزئة السياسية العربية على امتداد الوطن العربي كله سنجد الصحراء هي عامل التجزئة الأول والأكبر.. إن الفراغات الصحراوية الخالية من أي حياة قد منعت نشوء نسيج حياتي عضوي بدورة تفاعل واحدة ومتكاملة في المنطقة العربية لمجتمع موحّد ولدولة موحّدة ثابتة، متواصلة منذ القدم إلى اليوم. كما أن هذه القطيعة الصحراوية، بروح العزلة والتباعد المتأصلة فيها، كانت الخلفية الجغرافية الطبيعية التي نشأت وفرّخت فيها التعدديات العشائرية والمذهبية والإقليمية المحلية المتباعدة والمتنافرة التي غدت مع تراكمات التاريخ كيانات مختلفة قائمة بذاتها.) ص 38.

لقد استطاع العرب خلال قرون صدرالاسلام الثلاثة أن يُمسكوا إدارة البوادي والحواضر.إلا أن الموازين سرعان ما انقلبت في العصور اللاحقة. ووقعت الحواضر العربية كلها تحت هيمنة البوادي العربية أولاً، ثم البوادي الآسيوية، التركمانية والسلجوقية والمغولية والتركية في القرون اللاحقة. وهنا يقول الباحث محمد جابر الأنصاري أنه (في ما عدا القرون الثلاثة الأولى في صدر الإسلام، حيث استطاعت الحاضرة العربية - بتوازن دقيق - الإمساك بدفة القيادة والسلطة بالسيطرة القيادية الحضرية - في مكة والمدينة ثم دمشق وبغداد - على القوى القبلية البدوية الضاربة عن طريق التوجيه والنظام الديني الضابط قوى البادية، وعن طريق المكانة القبلية ذاتها التي كانت تتمتع بها تلك العناصر القيادية الحضرية المنتمية أساساً إلى قريش وأحلافها... ما عدا ذلك، فإن تاريخ العرب والإسلام كان تاريخ السيطرة السياسية للقوى البدوية، عربية أو أعجمية.) ص 49. ويربط المؤلف د. محمد جابر الأنصاري؛ الماضي بالحاضر في مجال بيان تأثير البداوة في الأوضاع العربية المعاصرة، إذ تأتي الشواهد الأخيرة في ارتداد الكثير من الحركات والأحزاب والأنظمة «التقدمية» أو «التحديثية» العربية، على السواء، إلى جذورها العشائرية والقبلية لتشير إلى مدى عمق المفعول القبلي في البنية المجتمعية العربية اليوم.

ويصل الباحث محمد جابر الأنصاري إلى أن (نتيجة العوامل الثلاثة التالية مجتمعة:1 - امتداد الفراغات والحواجز الصحراوية المجدبة والشّاسعة بين مراكز التحضر والعمران «عامل الانقطاع الصحراوي».

2 - تعاقب موجات التصحر والجفاف المناخي في تاريخ المنطقة «عامل التصحر الطبيعي».

3 - تتابع موجات الاجتياحات الرعوية «البدوية» على مراكز الحضارة والدولة «عامل التصحرالاجتماعي».

نتيجة هذه العوامل، لم تتمكن الحضارات والدول المتعددة في المنطقة، منذ تاريخ الشرق الأدنى القديم، من التواصل مكانياً وزمانياً في حضارة متصلة، غير منقطعة، واحدة، وفي دولة موحدة مترابطة الأجزاء دائمة وثابتة.) ص 69.

ويضيف أن (هذه الجدلية في طبيعة المنطقة ونسيجها العام بين الصحراء والعمران، بين البداوة والحضارة، أدت إلى خلق هاتين القطيعتين الخطيرتين في تاريخ المنطقة منذ بداية مسيرتها الحضارية وهما: - ظاهرة القطيعة في استمرارية التاريخ الحضاري. - وظاهرة القطيعة في استمرارية التاريخ السياسي.) ص 70.

كل ذلك أدى في رأي الباحث إلى هلامية الدولة في التاريخ والواقع العربي، حتى (إن مفهوم «الدولة» - بمعناها المؤسسي الكياني الشامل - هو من أكثر المفاهيم غموضاً واضطراباً وإلتباساً في الوعي العربي. ومن البداية نلاحظ أن المعنى اللغوي الأصلي لـ «دولة» في اللغة العربية - من دال، يدول - يدل على «السلطة» الغالبة المؤقتة «الدائلة» أو المعرّضة لأن «تدول» بعكس مفهوم الكيان الثابت المترسخ في المصطلح الغربي الاستاتيكي للدولة «state».) ص 82. (إن جذور حالة اللادولة في المنطقة العربية هي جذور مجتمعية عميقة تستند إلى تناقض البداوة الطليقة أولاً مع نظام الدولة وضبطها.) ص 84.

ويتسأل الباحث محمد جابر الأنصاري: ما العمل حيال هذه «الخصوصية المثقلة» بكل أعباء التاريخ ومعوقات التكوين الجغرافي والمجتمعي القاسي. وهل نملك الاستمرار في تجاهلها؟

ويعتبر هذه «محاولة فهم» لها، وإذا تحقق الفهم أمكن العمل السياسي أن يتأسس وينطلق على أرضية صلبة من الواقع.. ولعل ذلك أحوج ما يحتاج إليه العمل السياسي العربي.

- وفي القسم الثاني، فصام العرب بالدولة القطرية، والوعي الملتبس بالدولة القُطرية. يقول الباحث محمد جابر الأنصاري: (وامتداداً لهذا الوعي الملتبس، ظل الكثيرون من العرب ومفكريهم وحركاتهم في العصر الحديث ينظرون إلى واقعهم القُطري التعددي باعتباره مجرد انحراف قومي وتجزئة تآمرية استعمارية ستزول بمجرد إعلان الوحدة. وبدل أن يدرسوا الجذور التاريخية والعوامل الجغرافية والتكوينات المجتمعية لهذه التعددية القُطرية، والوحدة القومية في النهاية، فإنهم ظلوا مكتفين بشجبها وإدانتها وهجائها - مقابل كيل المديح للوحدة - بينما هم في واقع الأمر محكومون بذلك الواقع التعددي الانقسامي والصراعي دون القدرة على تخطيه وتجاوزه. وذلك ما سهّل الأمر على القوى المعادية لهم والعاملة ضد وحدتهم بطبيعة الحال على إنفاذ مخططاتها دون أن تواجه بمخططات عربية مضادة في مستواها. وما زال العرب - شعوباً وحركاتٍ وأنظمة - يدفعون ثمن هذه النظرة المظلِّلة للنفس، وهذا الوعي الملتبس.) ص 90.

ولفهم وتفسير الإشكالية السياسية واشكالية التجزئة والوحدة في الواقع التاريخي والمعاصر للعرب والمسلمين، (لابد أن يُبدأ بإدراك واستيعاب المغزى الحقيقي للطابع الثلاثي المركّب والمزدوج لأبعاد الانتماء والولاء التي توزعت في ما بينها - وبشكل تجاذبي متوتر - شخصية ومشاعر الفرد المسلم والمجتمع المسلم في ممارسة واقع هويته الجماعية، وفي تحديد مرجعياته، أي في مدى انجذابه لهذه المرجعية أو تلك من مرجعيات هويته الجماعية وكيفية معايشته لها.) ص 91. فـ (في المجتمعين العربي والإسلامي نجد الفرد المسلم والمجتمع المسلم تتوزعهما وتتنازعهما ثلاثة أبعاد متباينة للولاء والهوية والانتماء: البعد الأول، بعد عقائدي ثقافي حضاري؛ والبعد الثاني، بعد مجتمعي معيشي عصبوي؛ والبعد الثالث، بعد سياسي سلطوي، تسلطي)ص 92.

ويختم الباحث محمد جابر الأنصاري هذا القسم الثاني بالقول (ان انقطاعية الدولة أو السلطة المركزية الموحدة في واقع التاريخ العربي - مشرقاً ومغرباً - نتيجة تعددية البنى المجتمعية الصغيرة، لهي حقيقة تفرض نفسها على مختلف الباحثين والمفكرين العرب وسواهم ولا بد من تفهُّم أسبابها ونتائجها، شروط موازاتها بالحقيقة الأخرى، أو نقيضها الجدلي، وهي حقيقة الوحدة الحضارية والثقافية والمعنوية العامة في الإطار العربي الإسلامي.) ص 126.

- وفي القسم الثالث، مرحلة الدولة القُطريَّة في سياق التاريخ العالمي، كمرحلة إقطاعيَّة مُؤجّلة في عصر الرأسماليَّة العالميَّة والسِّيادة الدوليَّة. هنا يبلغ الباحث الذروة في اكتشاف الدور التاريخي لما اعتدنا على تسميته بالتفكك القومي والإقليمي، حيث يحاول أن يثبت أن (المجتمع العربي الإسلامي لم يعرف النظام الإقطاعي - إلا في التسمية الشائعة وبعض المظاهر والتشابهات الشكلية - كما عرفته أوربا واليابان قبل وأثناء تحولهما المتدرج إلى مجتمعات قومية.) ص 129. وأن (مرور المجتمعات المجزأة بمرحلة اقطاعية، يعتبر شرطاً أساسياً من شروط قيام الدولة القومية الموحدة..) ص 129. ومن ثم يذهب إلى أن (ظاهرة الدولة القُطرية العربية، تمثل في واقع الأمر من حيث الوظيفة والدور التاريخي ما يوازي مرحلة اقطاعية متأخرة ومؤجلة كان لا بد منها في سياق تطور المجتمعات العربية لتنقلها تاريخياً من التجزئة الطبيعية، الجغرافية والاقتصادية القائمة بينها، إلى وحدة المجتمع القومي التي يتطلبها منطق التشكيلات الاقتصادية - السياسية في العصر الحديث.) ص 130. 131. ويضيف أنه (إذا كانت الكيانات القُطرية تبدو الآن ظاهرة تجزئة، فإنها جدلياً، كالكيانات الاقطاعية، يمكن أن تتجاوز ذاتها إلى كيان أكبر منها، كما إلتأمت الإقطاعات عندما اكتمل تناميها وتواصلها في دولة قومية واحدة، وكان تعددها المتنامي، بل وصراعها المتزايد، يمثل جدلياً في الوقت ذاته طريق وحدتها في نهاية المطاف.) ص 131. ويفترض الباحث (أن ظاهرة ومرحلة الدّولة القُطريّة في مجتمعات الوطن العربي، واستمرارها كل هذا الوقت، هي بمثابة ظاهرة ومرحلة إقطاعية مُتأخرة ومُؤجّلة تاريخياً جاءت لتعوض عن افتقاد هذه المُجتمعات للتنمية الإقطاعيّة التاريخية بتنمية قُطرية تتناسب مع ظروف العصر الحديث، عصر الرأسمالية العالمية والسيادات الدولية المطلقة بانتظار تحولها - جدلياً – إلى حركة وحدة قومية حسب منطق هذا العصر ذاته ومتطلباته أيضأ.) 153 - 154.

- أخيراً في القسم الرابع: استخلاصات نظرية وفكرية، سباق الأولويات. يتسأل الباحث في الفصل الثامن، هل يُمْكِن بِنَاء ديمقراطية رَاسِخَة قَبْل تَرسيخ دولة مُكْتَمِلة النُّمو؟

يستنتج الباحث أنه إذا (استحالة تحقيق الوحدة أثناء الحكم العثماني والسيطرة الاستعمارية، واستحالة الانتقال مباشرة من الاستعمار إلى الوحدة، واستحالة الوحدة بين دول حديثة الاستقلال، فإنه لا يبقى من امكانية فعلية للوحدة غير قيام الدولة القُطْرِيّة ونموها والتدرج بها ومعها نحو الوحدة). ص 179.

وينحى الباحث محمد جابر الأنصاري إلى الجزم (بأن ما يوحد العرب من روابط الدين واللغة والثقافة والحضارة والشعور لهي مقومات حقيقية قائمة في حياتهم، ولكن يجب عدم تحميلها أكثر مما تحتمل. فهذه الروابط المعنوية على أهميتها في توحيد الأمة لا تكفي - وحدها - لإقامة البنيان السياسي المؤسساتي للدولة الواحدة في العصر الحديث، كما لم تضمن استمرار وحدتهم السياسية في عصور التاريخ. إن هذا البنيان يحتاج أيضاً إلى قاعدة مجتمعية موحّدة «عضوياً» بمفهوم المجتمع الحضري والمدني القائم على وحدة التفاعل الحياتي والمعيشي. لا بد من «روابط مادية» و«آليات» متصلة الحلقات لبناء الدولة، وإلاّ فإنّ الروابط المعنوية ستُجهَض وتنضب مع توالي الاخفاقات وانهيار الآمال المعلقة عليها. وإذا كان «الحب العذري» وحده لا يكفي لتأسيس بيت وإنشاء عائلة وإنجاب ذرية وتربيتها، بل لابد من مقومات واقعية وعملية لتجسيد ذلك الحب على أرضية الواقع، فإن الروابط المعنوية بين العرب ستبقى كالحب العذري المعلَّق في الفضاء...فإمّا أن ينزل إلى أرض الواقع بمستلزماته المادية، وإمّا أن يظل نجماً بعيداً إلى أن يخبو.) ص 183.

وإجابةً على التساؤل الإشكالي الذي طرحه في الفصل الثامن: هل يُمْكِن بِنَاء ديمقراطية رَاسِخَة قَبْل تَرسيخ دولة مُكْتَمِلة النُّمو؟ يستخلص الكاتب أن (الوضع السياسي العربي يتنازعه اعتباران متعارضان ومتناقضان: اعتبار موضوعي وآخر ذاتي. الاعتبار الموضوعي يتعلق بضرورة بناء الدولة وترسيخها في هذه المرحلة باعتبار ذلك من أولويات التطور التاريخي الذي ما يزال العرب - من حيث عملية بناء الدولة - في أول مراحله. أما الاعتبار الثاني فهو المتعلق بالرغبة في تحسين الأوضاع السياسية وتغييرها نحو الأفضل وتحقيق درجة معقولة من الحرية والممارسة الديمقراطية، إسوةً بالدول المتطورة والمتقدمة. والإشكالية أن كيان الدولة العربية - من حيث وجودها كدولة - ما يزال لا يحتمل التعددية الديمقراطية لأن التعدديات العصائبية المترسِّبة لم تصهر بعد في بوتقة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث. وهذا النوع من التعددية سُرعان ما يُغطي التعددية الديمقراطية ويحلّ محلّها بشكل يتجاوزها إلى ما يشبه الفوضى أو الحرب الأهلية. فكيف يُمكن ممارسة الحرية والديمقراطية دون كيان وسياج دولة يوفر لها البوتقة اللازمة والحامية؟) ص 190.

وفي الأخير يختم د. محمد جابر الأنصاري كتابه بالتنبيه إلى أنه (ما لم يتحقق هذا الوعي التاريخي العلمي في صميم الفكر السياسي العربي، فإنّ الإيديولوجيات والشعارات ستظل تطفو وتنحلّ بمعزلٍ عن الواقع المجتمعي- السياسي، ولن تترك إلاّ المزيد من الإحباط.) ص 191.

- أفكار واقتباسات:

- (على ما عُرِف عن العرب في تاريخهم من صفح وتسامح حضاري وديني واجتماعي مع الآخرين والأبعدين، فإن العنف الدّموي كان ديدنهم في سياسة الدّولة حتى بين أقرب المقربين.) ص 22.

- (ألف سنة، هي عمر التّركيبة المجتمعية السِّياسية التي ورثناها وتجاهلناها وأغفلناها لكنها مازالت تفعل فعلها في تكويننا السِّياسي حتى الآن.) ص 23.

- (إن الأخطر من الإيهام العلمي هي الأوهام السياسية المترتبة عليه.) ص 132.

- بطاقة فنية للكتاب:

الكتاب صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية بيروت لبنان. الطبعة الثانية: 1995. عدد الصفحات: 216.

الكتاب يتألف من تقديم: في ضرورة «نقد» الواقع.

وأربعة أقسام موزعة على ثمانية فصول، هي:

القسم الأول: تكوين العرب السياسي: الخصوصية المثقلة

الفصل الأول: أعراض الأزمة: امتداد الماضي في الحاضر

الفصل الثاني: مكونات لأزمة: دور العوامل الموضوعية في السياسة

الفصل الثالث: مشروع مخطط أوّلي لإعادة كتابة التاريخ العربي

القسم الثاني: فصام العرب بالدولة القطرية

الفصل الرابع: الوعي الملتبس بالدولة القطرية: جذوره في الفصام السياسي بين الواقع والمثال في التاريخ العربي - الإسلامي

الفصل الخامس: بمنظور الواقع الفعلي للتاريخ والمجتمع: الدولة القطرية: تجزئة.. أم.. توحيد؟

القسم الثالث: مرحلة الدولة القطرية في سياق التاريخ العالمي

الفصل السادس: تصحيح لابد منه: نحو نقض نهائي لمقولة «الإقطاع» في التاريخ الإسلامي

الفصل السابع: الدولة القطرية مرحلة اقطاعية مؤجلة في عصر الرأسمالية العالمية والسيادة الدولية

القسم الرابع: استخلاصات نظرية وفكرية: سباق الأولويات

الفصل الثامن: هل يمكن بناء ديمقراطية راسخة قبل ترسيخ دولة مكتملة النمو؟

 

- السعيد بوشلالق

 

 

في المثقف اليوم