قراءة في كتاب

كاظم الموسوي: قراءة في كتاب: هذا هو العراق

كاظم الموسويطبع هذا الكتاب ببيروت في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1953. وهذا هو عنوانه الرئيسي؛ هذا هو العراق، وعنوانه الفرعي تحته؛ آراء في السياسة والمعارضة والاحزاب وحقائق عن المجتمع العراقي والشبان مع الفتيان. والنسخة التي اقرأ فيها مصورة منه ومن محتويات مكتبة الجامعة الامريكية ببيروت. (كما هو في الختم عليها) وعلى غلافها الاول رسوم لوجوه بشرية لمختلف الاعمار والاجناس، وقافلة وجامع وعنوان الكتاب، واسم المؤلف/ بقلم عبد الكريم ابو التمن. وهذا يعني ان الكتاب صدر قبل ما يقارب سبعة عقود من الزمن، وقد مر زمان عليه، فلماذا العودة والقراءة فيه؟!. لعل الجواب في السطور التالية. فرغم ان الحصول عليه صدفة ولا اعرف الكاتب وهل له مؤلفات اخرى، ام يكفيه ما اختار واصدر في زمانه وما بقي منه، وكأنه يقرأ ببصيرة ثاقبة، وحس وطني وقومي حريص يفتقد او يعز مثاله، سواء في زمنه او في ما بعده من عقود.

قدم له ثلاث شخصيات عراقية، ثقافية بارزة، روفائيل بطي وعبد الرزاق الحسني وصبيحة الشيخ داود. اختلفت اراء المقدمين في الكتاب، بين تقريض وابداء راي في محتوياته، واشادة ايجابية بطرح المؤلف وتوجهاته ومواقفه في الشؤون التي تناولها وعرض لها.

 فقد كتب روفائيل بطي تقديما نقديا، وطرحا يوازي ما احتواه الكتاب من اراء. "هذا كتاب ان دل على شيء فهو يدل بوضوح على دبيب الوعي في الشعب ، فقد كتبه شاب مارس التفكير، وزاول الارتياء، فابداها خواطر جرى بها قلمه، وحاول فيها ان يلفت نظر بني قومه الى حالتهم الحاضرة، وما يجب ان يكونوا عليه في مستقبل ايامهم، ليحافظوا على كيانهم، ويصمدوا في هذا الكفاح ويصونوا انفسهم من الفناء". واشار الى ان الكاتب شخص الغرب عدوا مباشرا، وان العدو "درس حقيقة وضعنا، وسبر مجتمعنا، وراقب اطوارنا، وعرف كنه الشخوص فينا، فحاربنا بسلاح ضعفنا، فكتبنا له الظفر بايدينا".  ووضح بان "احكام المؤلف مطلقة عامة، تقوم على الشعور اكثر مما تتضمن التعمق والتحليل، واخلاصه بادي القسمات بين السطور، واعظم ما يؤلمه هذا الفارق المحسوس بين القول والعمل في مجالي السياسة العراقية وتهرب المسؤولين من مجابهة الواقع والتصريح به". واختلف روفائيل بطي مع المؤلف في بعض ارائه، كاتبا انه يرجع مثلا علة ما نحن فيه الى نقص الثقافة، بينما شعوب اخرى اقل ثقافة منا، تحسنت حالها السياسية تحسنا لا يقبل القياس بما نحن عليه. فعلتنا اذن في الاخلاق السياسية اكثر مما في نقص التعليم، وهذه الاخلاق تتجلى في سلوك الذين تصدوا للزعامة وتصرفاتهم، فكانوا قدوة سيئة للجيل الجديد، واضاعوا الثقة بالمشتغلين بالشؤون العامة والسياسة على الاخص. واضاف ان ما يقال عن العراق يصح اطلاقه على العرب عامة وبخاصة الدول العربية التي ضمتها اخيرا جامعة الدول العربية. "فان وهن الاخلاق السياسية جعل من هذه المؤسسة الاقليمية ذات الاسم الرنان عنوان فشل للتفكير السياسي العربي". وناقش الكاتب مؤلف الكتاب في مسائل عديدة، مثل رايه في عدم نضج الراي العام، او الامراض السياسية التي دفعت الى تدهور الوضع. وفيها اشارات صريحة اشبه بتنبؤات واستشرافات ثبتت صحتها ، ليس في وقتها وحسب وانما في استمرارها حتى ايامنا الحاضرة.

كشف انه لم يعرف المؤلف قبل قراءة كتابه، "فاحببت فيه نزعته في تطلب الاصلاح ، وهمته في محاولة الجد في زمن هازل في حياتنا. وكتابه يمثله نفسه، وهو والكتاب يمثلان ما نحن فيه من وعي وتطلع الى حياة افضل".  خاتما تقديمه بما يعوز المجتمع من قوى بدونها لا نجاح له، هي برايه: الخلق الاجتماعي، والتفكير العلمي، والجراة المطلقة. ودعوته الى قراءة الكتاب والتفكير بجد في حقيقة بلادنا وشعبنا وافرادنا لنستكمل وعينا، وبه تنفتح امامنا صفحة جديدة من الحياة.

وما نشر بتوقيع عبد الرزاق الحسني، فهو، كما يبدو، مختصر مقدمة كتابه عن تاريخ العراق السياسي الحديث، الذي طبع بستة اجزاء وجمع بثلاثة مجلدات، وهو تعريف عن العراق، بما يحويه من كنوز تاريخية وتضاريس جغرافية ومكونات سكان، بمعلومات مكثفة عن كل موضوع منها، تاريخيا وجغرافيا وسياسيا واجتماعيا. الى ان قدم الكتاب بخاتمة تقديمه. " وقد قرات معظم هذه الاراء فوجدتها على جانب من السداد، وهو مجهود يحمد عليه، واقدام يذكر له بالاجلال والامتنان. والمؤلف هو سليل اسرة كريمة جاهدت كثيرا لاسعاد هذه البلاد وانتشال ابنائها من وهدة الامية والجهل، وانا من المعجبين كثيرا بآرائه الحرة ونقداته الصريحة".

اثنت الناشطة النسوية والمحامية البارزة صبيحة الشيخ داود على الكتاب وكاتبه. "والواقع ان منحى الكتاب يتصف بالجدة والطرافة وبالرغبة والاندفاع في تشخيص الادواء التي يعانيها مجتمع تشيع فيه مختلف التيارات وتبرز بين افراده مختلف الاتجاهات، ولا مشاحة في ان اغلب الآراء التي انطوت عليها فصول الكتاب استهدفت حلولا عملية لمعظم مشكلاتنا، سياسية كانت او اجتماعية".

ثم قدم المؤلف ايضا فاختصر ما كتبه بهموم وصور واقعية، "اسلوب هذا الكتاب قائم على اساس من الصراحة والايجاز، ويصور بعض نواح من حياة العراق خاصة والعرب عامة على حقيقتها من غير نقوش ولا " رتوش"!".

وبعد تقديمه قسم الكتاب الى عناوين بخط بارز، تعوّض عن تقسيمه الى ابواب وفصول. تضمن كل عنوان عددا من الاراء واللقطات والشذرات التي تدور في فلك العنوان، مع تطعيمها بمختارات معبرة مختصرة ومستلة من نصوص كتاب ومؤلفين مشهورين، ورسوم مستمدة من مضامينها.

فكان العنوان الاول, نحن العرب، والثاني, السياسة في العراق، والثالث, المعارضة والاحزاب في العراق، والرابع، الصحافة في العراق، والخامس، الشباب في العراق، والسادس، آراء في الحياة، والسابع، شخصيات من العراق، والثامن، الاخير،  قضايا عربية. وتحت كل عنوان عدد من الاراء والخواطر واللقطات التي تصب في اطاره وتعبر بلغة السهل الممتنع عن موقف او وجهة نظر نقدية او فكرة جديدة في مسار الموضوعات المختارة. ورغم قدمها زمنيا ونشرها في حينها الا انها تلامس عناوينها وموضوعاتها ما هو معاصر ومعاش في ازمان تالية وحتى ايامنا هذه زمنيا ودلالات ترقب واستشراف ورؤى قريبة لما يحدث الآن.

بدأ المؤلف كتابه عن حقوق العرب واهمية الراي العام في رقابة السلطات ووعي الشعب لدوره في الحياة العامة، والرد على تساؤل الغرب عن ان العرب عالة عليه، وضرورة ادراك واقع كنوز القدرات والطاقات العربية في بناء الوطن وسعادة الشعب. وتغنى بالوطن العربي بالم ما يلاقيه مواطنه من جفاء واهمال، مقارنا بما يحصل عليه المواطن في الغرب. "اما الوطن العربي فلا زال بعيدا عن امتلاك قلوب مواطنيه، ولا زال عاجزا عن غرس شعور الرضا والطمأنينة في نفوس ابنائه. ذلك لان المواطن العربي لا زال يلتفت الى وطنه فلا يجد فيه ذلك الاب الشفوق الذي يرفرف بجناح العطف والحنان عليه. والمواطن العربي لا زال يرنو الى وطنه فلا يرى فيه مجالا للعمل يعتاش منه بكرامة واطمئنان. والمواطن العربي لا زال ينظر الى وطنه فلا يأنس منه ملاذا يلجأ اليه اذا حلت به محنة او اصابته ملمة في هذه الحياة" (ص16).

صنّف المؤلف الساسة في العراق الى اربعة اصناف، كما كرر ذلك مع المعارضة، بعد ان دعاهم الى الاعتراف بالامر الواقع وعدم السكوت او الاستكانة وتضييع  الفرص. فكتب هناك اربع فئات من الساسة في العراق، رجال حافظوا على مبادئهم، سواء كانوا في الحكم او خارجه وترسموا في طريق حياتهم السياسية مبادئ ثابتة مستمدة من المصالح الوطنية.."انما المؤسف ان تاريخ العراق لم يسجل من افذاذ هؤلاء الرجال الا اقل القليل"( ص22). ورجال انفردوا بامتياز خاص واصبحوا لا يعترفون الا بسياستهم وسلطتهم... ورجال يعيشون على هامش الحياة السياسية وينتقلون من جانب الى اخر كلما لاح لهم منصب مغر!، والصنف الرابع هم الساسة الفاشلون وهم يملأون البلد في كل مكان! (هكذا ص22).

وواصل تعريف السياسيين في مقال اخر كاتبا امكانية تقسيمهم الى اربعة انواع ايضا، فمنهم، رجال تهمهم المصلحة العامة ويعرفون كيف يسعون الى تحقيق هذه المصلحة، ورجال تهمهم المصلحة العامة ولكنهم لا يعرفون كيف يسعون الى تحقيقها، ورجال تهمهم المصلحة الخاصة ولكنهم يحترمون الدستور والقوانين ويقيمون وزنا لاهمية الرأي العام. ورجال تهمهم المصلحة الخاصة وهم لا يحترمون الدستور ولا القوانين ولا يعيرون اهمية للراي العام!.

وعن الازمة الاقتصادية الخانقة راى انها تكمن في سببين رئيسين، " اولا لان البلاد لا زالت غير متملكة بعد لمنابع ثرواتها باعتبارها - او هكذا يشاء الاستعمار ان يقول- انها لم تتملك القدرة بعد على استثمار هذه الموارد بنفسها. وثانيا لان الحكومات المتعاقبة قد ارتكبت وما تزال ترتكب معصيتها الكبرى، ذلك انها لم تعترف بعد او لم تأبه بعد بهذا الفراغ الهائل من البطالة وكساد وقت الفرد العراقي الذي يمضي عليه هباء ويفنى على غير طائل" (ص24).

تحت عنوان الطائفية كتب عنها كظاهرة اجتماعية خطيرة لم ينج منها مجتمع وتنمو وتصبح خطيرة اذا اصطبغت بصبغة سياسية وراحت كل طائفة تنافس نظيراتها في القوة واسباب الحياة، وخلص الى ان الطائفية "سلاح من خيرة اسلحة العدو التي يتوسل بها التحطيم والانتقام من الخصوم" (ص29). واستمر في عرض ارائه عن الاوضاع العامة في العراق، عن الزعامة المفقودة، والروح الاقطاعية، وشيوع البطالة بين الشباب، والتطبيل والتزمير، والوعود والمزايدة في الوطنية، وعناوين اخرى.وتطرق الى غاية الاصلاح ورجاله، فاكد ان "بعض رجال الاصلاح بحاجة الى ان يصلحوا ما بانفسهم قبل ان يخوضوا غمار معركة الاصلاح, لقد كشفت معاملاتهم  مع ذوي العلاقة واهل القربى معهم انهم يحملون عقلية لا تختلف بجوهرها عن عقلية الاستعمار الذي يقولون انهم كرسوا حياتهم لكفاحه..."( ص39).

ماساة فلسطين، عنوان مقال للكاتب، (ص117)، سجل فيه رايه، "اكبر كارثة حلت بتاريخ العرب الحديث هي مأساة فلسطين. لقد ضلل زعماء العرب شعبهم بما ادلوه من تصريحات واستعدادات وظلوا يموهون عليه الحقائق حتى اختفت فلسطين من خارطة العرب او كادت. وراح اهل الغرب يتناقلون حقائق اوضاع العرب ويتندرون على تردي احوالهم في ديارهم ويعيبون عليهم انصرافهم عن التعاون والتآزر وتبادل الاخلاص (ص118). واعاد الكتابة عن قضية فلسطين في مقالات اخرى، تحت العنوان، قضايا عربية. تناول فيه وقائع حال العرب واساليب الهيمنة الاستعمارية المعيقة لنهضتهم وتطورهم ودعوة الحكام العرب الى تغليب العقل على العاطفة في اعمار الوطن واستثمار خيراته، واضاف عنوانا بارزا وضعه حلا مجربا لما تمر به الامة العربية من ازمات، هو: الاتحاد طريق العرب الوحيد للحياة. كتب فيه: ان الامة العربية تواجه اليوم ظروفا على أشد ما تكون حلكة، وتجابه صراعا على اخطر ما يكون شدة. وليس امام الشعب العربي مجال الاختيار في اية سبيل يسلك، اذ ليس هناك سبيل امامه يقوده الى الظفر سوى طريق الاتحاد. فباجتماع كلمة العرب وتكتلهم على صعيد واحد، وبتعزيز قواه واتحادها على نسق واحد، وبالابتعاد عن التنابذ، وجمع القلوب لتحقيق هدف واحد سوف يرغمون العالم ارغاما الى الانتباه اليهم ويدفعونه دفعا الى تقدير قيمتهم وخطورة اهميتهم في هذه الحياة. (ص ص146-147). وشخص في مقالاته الاخرى العدو المباشر للامة، وهو الاستعمار البريطاني وسياساته في المنطقة العربية، وزرعه للكيان الاسرائيلي فيها لاستمرار الهيمنة عليها وتفريق شعبها وبلدانها. ولخص رايه هذا واستشرافاته في مقاله الاخير في الكتاب، الذي وضع عنوانه هكذا: العرب وبريطانيا واسرائيل، داعيا الى الانتباه من مكر وغدر والتواء السياسة البريطانية، وتحريك الكيان، اداتها في تهديد الدول العربية من وقت لاخر كل دولة على حدة وانفراد. "وهل تهديد اسرائيل لسوريا يوما وللاردن ولبنان آخر إلا نموذجا لتحقيق تلك السياسة التي سيتبعونها على نطاق أوسع واخطر عندما يجد الجد عند العرب وتصبح مطالبهم في استرداد حريتهم وحقوقهم مطلب العمل والتحقيق"! (ص159).

كل ما سبق من نصوص كتبت ونشرت قبل سبعة عقود من الزمن، واخر سطر فيها، "فلكل اذن عربية وهبها الله حاسة السمع ان تسمع.. وان تعي ما تسمع.." فكيف اذا اضيف لحاملها هبات ان يقرأ ويرى ويعرف؟!.

 

كاظم الموسوي

 

في المثقف اليوم