قراءة في كتاب

صموئيل نوح کریمر: المغامرة الفكرية للانسان القديم..

محمد حسين النجممقال حول التفكير النظري في الشرق الأدنى القديم

عرض: صموئيل نوح کریمر

ترجمة: د. محمد حسين النجم

الجامعة المستنصرية


 في عام 1946 أصدر هنري فرانكفورت وعدد من الباحثين كتابا بالعنوان اعلاه تضمن دراسة لثلاث حقب حضارية في التاريخ القديم الحضارة العراقية، والمصرية، والعبريين.

بعد سنتين أي عام 1948 نشر المرحوم صموئیل نوح كریمر استاذ المسماريات المعروف، عرضا للكتاب في مجلة المسماريات الأمريكية حاول فيه الدفاع عن الفكر العراقي القديم الذي سعى مؤلفو الكتاب أن ينظروا اليه من زاوية الفكر البدائي.

اعاد المؤلفون نشر كتابهم بعنوان جديد هو (قبل الفلسفة) بعد حذف الجزء المتعلق بالعبريين، وقد قام المرحوم جبرا ابراهيم جبرا بترجمة النشرة الأخيرة للكتاب مطلع الستينات، والذي حظي باهتمام كبير انعكس على الكثير من الدراسات المتعلقة بالعراق ومصرالقديمتين.

وعلى الرغم من أهمية الافكار التي يحتويها العرض الا أنه بقي حبيس لغته دون أن يحاول احد ترجمته في حدود علمي وهو ما حفزني على القيام بذلك لعله يكون به بعض الأنصاف لحضارتنا وللباحث الكبير. أن القسم الاخير من العرض يتناول مجالات لغوية ترتبط ببعض معاني الكلمات السومرية التي لازالت موضع خلاف وهي تهم الباحث المتخصص وقد وجدنا أن لا حاجة لإشغال القارئ بها، كذلك تركنا ترجمة الهوامش وهي ذات أهمية فائقة للباحثين المتخصصين.

المترجم

.....................

العرض:

كما يشير العنوان الرئيسي، فهذا الكتاب يمثل محاولة لوصف وتحليل وتقييم بعض الملامح الأكثر أهمية في الفكر النظري للشرق الأدنى القديم. الاصول المفيدة لغرضنا تتكون بشكل تام، تقريبا، من المتبقيات الأدبية لثلاثة شعوب في الشرق الأدنى: المصريين، العراقيين القدماء (السومريين والاكديين)،، واليهود. وبناء عليه فالكتاب ينقسم على ثلاثة أقسام كبيرة سميت: (مصر، العراق القديم واليهود). الفكر النظري للمصريين القدماء يشمل على وجه التقريب: ما وراء الطبيعة، السياسة، والاخلاق، وقد وصفها وحللها جون ولسون تحت عنوان (طبيعة الكون)، (وظيفة الدولة و(قيم الحياة)، وما يخص العراقيين القدماء عالجه ثوركيلد جاكوبسون تحت عنوان (الكون كدولة)، (وظيفة الدولة) و(الحياة الفاضلة)، اما القسم الخاص باليهود فنوقش من قبل ولیم اروين بفصول عنوانها (الله)، (الانسان)، (الانسان في العالم) و(الوطن، المجتمع، والسياسة). يسبق هذه الأقسام الثلاثة فصل تمهيدي فكري لفرانكفورت وزوجته أسمياه (الأسطورة والواقع) حللا فيه السمات النفسية التي تميز فكر الشرق الأدنى القديم مع تأكيد خاص على مقتربه الافتراضي اللاعقلي ومنطقه الأسطوري الميثوبي، كما ختم الممهدان الكتاب بفصل عنوناه (انعتاق الفكر من الاسطورة) بدآه بنظرة مقارنة مختصرة للفكر النظري عند المصريين والعراقيين القدماء واليهود واختتموه بمخطط لأفكار الفلاسفة الإغريق الأول منذ طاليس حتى بارمنيدس، الذي، وفقا للكاتبين، حطم الموقع الأخير لسيطرة الأسطورة على الفكر.

كما يتضح مما سبق، فالكتاب يتكفل بتقديم تراكيب بعيدة الغور ومتعددة الجوانب لمفاهيم فكرية وروحية سادت خلال فترة طويلة وخصبة من تاريخ الحضارة، يستحق المؤلفون الثناء على شجاعتهم وتفاؤلهم وكذلك على انجازهم الهام.

لعل المتخصصون في الشرق الأدنى وحدهم يدركون مدى تعقيد وصعوبة البحث في عصور تتطلب جهدا مضنيا في التنقيب والربط وصياغة المفاهيم الفلسفية والروحية للقدماء من خلال متبقياتهم الأدبية المتعددة والممزقة وغير الواضحة تماما. والباحث المختص، فضلا عن غير المختص، يدين بعمق الى المؤلفين كلماتهم الواضحة وجهودهم المثيرة في موضوع غامض ومثير كالفكر النظري للإنسان القديم.

وإذ يقدم الكتاب، على العموم، مساهمة ثمينة وقيمة الى تاريخ التطور الروحي للإنسان، فانه لا ينبغي الاستنتاج بان جميع (او حتى اغلب) استنتاجاته وتعميماته يمكن اخذها بشكل موثوق ونهائي، ومن المفيد أن نلاحظ أن المؤلفين انفسهم لم يكونوا غافلين عن السمة الذاتية ووحيدة الجانب لبعض تفسيراتهم وفرضياتهم وقد حذروا القارئ مسبقا من مثل هذا الاعتقاد. ومن الطبيعي ان الصعوبة الأساسية تكمن بالوضع الحالي لمادتنا الأصلية، فعلى سبيل المثال، اذا أخذنا العراق القديم، ومادة العراق القديم وحدها هي ما يشعر المراجع بأهليته للحديث عنها، فإننا نجد منذ البدء أن النصوص المفيدة لغرضنا تمتد لفترة الفين من السنين، منذ الألف الثالث حتى الألف الأول قبل الميلاد، وخلال هذه الفترة الطويلة شهدت المنطقة فورانا حرفيا وسياسيا، بل اللغة ذاتها تغيرت من السومرية الى الاكدية. وإزاء ظروف كهذه فانه ليس من السهل استخلاص الفكر النموذجي للعراق القديم وكشف المفاهيم الفلسفية والدينية الكامنة فيه. بالإضافة الى ذلك هناك قضية النصوص الأدبية التي تتسم بالتفتت والغموض وعلى الخصوص التركيب الأدبي السومري – وهذه النصوص وفيرة جدا وهي على العموم اكثر اهمية بالنسبة للمشكلة من تلك المكتوبة باللغة الأكدية، والتي لا زالت لحد الان تخضع لعمليات الترجمة والتفسير من قبل اساتذة اختصاصيين وتحظى بقليل من النجاح. وعلى ضوء ما مر من صعوبات فان هناك فجوة لا بد من أخذها بالاعتبار فيما يخص اختلاف الراي حول الترجمة الحقيقية لبعض هذه النصوص، ضاربين صفحا عن التفسيرات العامة والواسعة عند تأطير الفكر في العراق القديم. والصفحات التالية تؤشر بعض هذا الاختلاف في الرأي.،

عندما نبدأ مع الفصل التمهيدي (الأسطورة والواقع) فمن الأهمية البالغة أن نلاحظ أنه يحوي عددا من الأفكار المتعلقة بالعناصر المميزة لعقلية انسان الشرق الأدنى والتي تحيط بمصداقيتها شكوك كبيرة، على الأقل فيما يتعلق بالعراق القديم. أن قناعة المؤلفين في هذا الفصل، ومن سوء الطالع هي القناعة التي تم اعتمادها كفكرة موحدة لأقسام الكتاب المتعددة،هي ان القدماء غير قادرين على التفكير التأملي وينقصهم التوجه الفعلي مما يجعل فكرهم بالضرورة مغلفا بالأوهام، فالكون يبدو لهم دائما كـ (أنت) يجربوه عاطفيا بعلاقة تفاعل متبادل والذي يجعلهم، كالإنسان البدائي، لا يعرفون عالما دون حياة، والفكر في الشرق الأدنى القديم، مثله مثل الفكر في المجتمعات البدائية المعاصرة، لا يعمل باستقلالية بل ان الانسان بأجمعه يواجه الـ (انت) حيا في الطبيعة، وكل تجربة مع (الانت) ينبغي ان تدرك كفعل فقط، والذي يجعلها بالضرورة تأخذ شكل قصة، وبناء عليه فان القدماء لا يمكنهم التحدث الا (بأساطير) وعليه فهم غير قادرين على تقديم تحليلات أو استنتاجات عقلية، ولأجل التدليل على عدم قدرة العراقي القديم على التفكير بالأحداث الطبيعية دون اطار اسطوري اعطا المؤلفان الأمثلة التالية: سوف نشرح، مثلا، التغيرات الجوية المحددة التي تزيل الجدب وتسبب سقوط المطر: البابليون لاحظوا ذات الحقائق الا انهم تمثلوها بتوسط للطير العملاق (امدوغد) الذي يأتي لإنقاذهم حيث يغطي السماء بغيوم اجنحته السوداء، ثم يلتهم ثور السماء الذي يبيد المحاصيل بأنفاسه الحارقة، أن هذا التحليل النفسي لعقلية انسان الشرق الادنى القديم هو غير ذي أساس في حقيقته، على الأقل في حدود ما يتعلق بالعراق القديم. ففيما يخص السومريين لدينا دليل جيد يرينا بأنهم كانوا يملكون طائفة من المفكرين لديهم القدرة على ملاحظة الطبيعة بعقل تأملي وتمييزي، اذ كانوا يدركون

تماما بان الطبيعة ميتة مثلما هي حية، وقد اعتمدوا هذا التمييز بشكل فعلي على مستوى الكلمة والفكر، ونجحوا من خلال المجال الضيق لمعطياتهم المحددة والبسيطة في انشاء نظام ميتافيزيقي ولاهوتي انتشر الى حد بعيد أو قليل في أجزاء كبيرة من الشرق الأدنى ولعل هذا يعود الى حد ما الى مقتربهم العقلي بالارتباط مع المنطق الذي يحتويه، واخيرا، لو اخذنا المثال المعتمد من قبل المؤلفين، فمن المحتمل تماما انه حتى لو ان نسبة من العراقيين،، لكي لا نتحدث عن اكثر اخوانهم تأملا، قالوا بان ما يجلب المطر المزيل للجدب هو الطير (امدوغد) الذي يلتهم ثور السماء، فإنه لا يختلف كثيرا عن الإنسان متوسط الثقافة اليوم الذي يرى بان الغيوم هي التي تجلب المطر الغزير.

ان الذي قاد المؤلفين الى تصور خاطئ للسمات الأساسية للفكر النظري في الشرق الأدنى القديم هو الطبيعة الاسطورية الكامنة في مادتهم الأصلية، ذلك لأنه من الصحيح تماما، ونقيد أنفسنا بالعراق القديم ايضا، اننا قلما نجد فكرا نظريا متميزا حول الطبيعة والكون في المادة الأدبية المتبقية اذ أن الجزء الأكبر فيها يتكون من اساطير وقصص ملحمية وتراتيل ومراثي، وهي انواع ادبية مفيدة في المقترب والتكنيك الأسطوري (الميثوبي)، الا ان هذه الحقيقة لا تبرر الاستنتاج بان المفكرين العراقيين القدماء كانوا غير قادرين على التفكير العقلي والتمييزي في ما يتعلق بالطبيعة والكون، أو أنهم فشلوا في تطوير أنظمة ميتافيزيقية ولاهوتية. الحق أن ما نملكه من اصول أدبية، على الرغم من سمتها الأسطورية، تفترض مسبقا وجود مثل هذه الأنظمة وتعكسها في كل حين. أن الأمر الوحيد المبرر والذي يمكن استنتاجه من السمة وحيدة الجانب للمادة الأدبية لعراقيينا هي ان المعلمين واصحاب القلم العراقيين الأوائل فشلوا في تطوير نوع ادبي مكتوب يخدم كوسيلة مناسبة في التعبير عن ميتافيزيقاهم ولاهوتهم، وكذلك ايضا، لكي نتخذ موقفا مماثلا، فشل المعلمون العراقيون في تطوير نوع ادبي تاريخي مناسب - على الرغم من حقيقة ان هناك بعض الأدلة ترينا أن بعضا منهم، على الاقل في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، لديه معرفة واقعية الى حد ما حول بعض الأحداث السياسية المهمة في زمانهم أو، حتى الى مدى معين، حول تلك التي مرت في الأزمات المبكرة.

لو أخذنا الان عددا من المفاهيم الكونية الأكثر أهمية عند السومريين كما تبين في ادبهم الأسطوري (الميثوبي) الذي رتبناه، فإنه سوف يبدو واضحا بشكل جلى ان هذه المفاهيم لا تنبع الامن تفكير عقلي مميز لطبيعة الكون والذي تعرضه متبقياتهم الكونية كموجودات طبيعية ميتة وليس (انت) حيا. هكذا نجد أن المفكرين السومريين افترضوا بانه قبل أن يوجد الكون لم يكن ثمة الا الماء، لذا افترضوا وجود البحر البدئي، ومن هذا البحر البدئي وبطريقة ما جاء الكون الى الوجود متكونا من السماء. المتعالية على الأرض والمتعلقة بها، ومن ثم انفصلت السماء عن الأرض بواسطة الهواء. والان كيف امكن للمفكرين السومريين القدامى الاستنتاج بأنه في البدء كان البحر وان الكون جاء الى الوجود من خلاله، إن لم يكونوا أدركوا، بمستوى فكري وعقلي، بان الكون محاط بالماء من جميع جوانبه، حيث الماء فوق السماء وتحت الأرض مثلما هو حولها ؟ وبالمثل لماذا اختاروا الهواء كمجال يفصل السماء عن الأرض، إن لم يكن هناك، مرة أخرى، ادراك بمستوى عقلي بان الهواء يقع بشكل حقيقي بين السماء والأرض، وهو فوق ذلك، لا يشبه هذين الجسمين الصلبين اذ يتكون من جوهر قادر على التمدد وهو ما مكنه من فصل سطحين ملامسين. وبالمثل كذلك لو عدنا الى المفاهيم اللاهوتية الأساسية للسومريين، المفاهيم التي يمكن القول أنها شكلت العقيدة والإيمان، واليقين والمذهب لأجزاء كبيرة في الشرق الأدنى القديم، نجد أن هذه، أيضا، تأصلت وتطورت على اساس عقلي، وانها بنيت بشكل منطقي وعقلي على قياس الانسان ومؤسساته. فمنذ اقدم ما نملك من تسجيلات مكتوبة وحتى نهاية الحضارة العراقية، نجد ان المفهوم الميتافيزيقي الأساس للاهوتيين، وهو المفهوم الذي كان مركزيا وبديهيا لجميع افكارهم الدينية، هو افتراض وجود مجلس (بانثيون) مكون من مجموعة من الموجودات الحية، تشبه الانسان شكلا، الا انها فوق بشرية وخالدة، وهي على الرغم من أنها لا مرئية من قبل البشر الا انها تقود وتسيطر على مجالات الكون وفقا لخطط محكمة الوضع، وقوانين مشرعة بدقة. لتكن مجالي الكون العظيمين، السماء والأرض، البحر والهواء، لتكن اجساما كوكبية عظيمة كالشمس، القمر، والكواكب السيارة، لتكن قوى جوية كالريح، العاصفة، الزوبعة، او، أخيرا، لو اخذنا الأرض، لتكن ظواهر طبيعية مثل النهر، الجبل، السهل، او ظواهر ثقافية كالمدينة والدولة، العدالة، الخندق، الحقل، والحديقة، او حتى أدوات مثل الفأس والمحراث والماكنة، كل واحد من هذه يقع تحت سطوة واحد او اخر من الموجودات المشخصة وفوق البشرية، الذي يمارس نشاطاته وفقا لقواعد وأنظمة ثابتة.

و الآن، كيف امكن للمفكر السومري أن يشكل هذه الصورة لمجلس مشخص وفوق انساني للسيطرة على الكون وموجوداته وظواهره المختلفة ؟ من الاكيد انه ليس بملاحظة أي تشابه طبيعي بين الموجودات الأخيرة والموجودات البشرية، وكافتراض مسبق، فإنه لا يمكن لأحد ان يناقش بان العراقيين القدامى، عند مشاهدتهم للسماء، وجدوها تشبه انسانا ملتحيا او عند مشاهدتهم الأرض وجدوها امرأة ضخمة بأثداء منتفخة، وليس هناك من مبرر للاعتقاد بان المفكرين السومريين تصوروا موجودات مثل السماء، الارض، الشمس، القمر، النهر، الفأس... الخ، كشيء، حي ذي إرادة ذاتية. كل الدلائل المتحصلة تشير بوضوح الى انها ليست السماء، هي ما كان يعتقد بانه (حي) ولكن الموجود شبيه الانسان المسؤول عن السماء، ولم تكن الأرض ما كان يعتقد بانها (حي) ولكن الموجود شبيه الإنسان المسؤول عن الأرض، وليس نهري دجلة والفرات هما الـ (حي) بل الموجود شبيه الانسان المسؤول عن هذين النهرين... الخ الخ. وإذ انه من الواضح ان اللاهوتيين العراقيين لم يكن بإمكانهم رؤية هذه الموجودات شبه الإنسانية بأبصارهم، لذا ينبغي الاستنتاج بانهم وبطريقة ما استدلوا على وجودهم، بكلمات أخرى، أن عقل اللاهوتي العراقي أخبره بان هذه الموجودات موجودة حتى وان لم يمكنه رؤيتها، وان الأساس لمثل هذا الاستنتاج ليس صعبا على التصور، المفكر القديم ارتقى بشكل طبيعي ومنطقي تماما من المعلوم الى المجهول، اتخذ دليله من المجتمع الإنساني الذي يعرفه، لاحظ أن جميع المناطق والمدن، جميع القصور والمعابد، جميع الحقول والحدائق وباختصار جميع المؤسسات التي يمكن تصورها وجميع المنشئات موجهة ومرعية ومقادة من قبل كائنات انسانية: ومن دونهم فان الأراضي والمدن تؤول الى بوار، وتتهدم المعابد والقصور، وتتحول الحقول والحدائق الى صحارى ويباب. وبناء عليه فان الكون وجميع الظواهر المتعددة ينبغي، من باب اولى، ان ترعى وتوجه وتقاد ويسيطر عليها من قبل كائنات حية شبه انسانية، وبما أن الكون موجود اكبر حجما من جميع الموجودات الانسانية، وتنظيمه يفوقها تعقيدا، فأن هذه الموجودات الحية يجب أن تكون أكبر وأقوى من البشر العاديين. وفوق ذلك أن تكون خالدة، والا فان الكون سوف يؤول إلى الفوضى عند وفاتها، وتكون نهاية العالم، وهي بدائل، ولأسباب واضحة، لم تجد حفاوة عند الميتافيزيقيين السومريين. ان كل واحد من هذه الكائنات غير المنظورة، والمشخصة، وفي الوقت نفسه فوق البشرية والخالدة، خصص لها السومريون كلمة (دنجر) التي تحولت عند الاكديين الى (الو) وترجمناها الى كلمة (الله)، فوق ذلك، وحيث أن مبدأ وجود مجلس الهة تطور مما يمكن أن نصطلح عليه اقتراب الحس العام الى سؤال (كيف يسير الكون ؟) فإن التطورات المتعلقة بتنظيمه تطورت ايضا. ففي المقام الأول يبدو من المعقول للاهوتيين السومريين الافتراض بان الكائنات المكونة لمجلس الالهة ليست على قدم المساواة في الأهمية، أو على مستوى واحد. فالإله المسؤول عن المنجل والمحراث من الصعوبة ان نتوقع مقارنته مع الكائن المسؤول عن الشمس، ولا يمكن للكائن المسؤول عن العدالة والخندق ان نتوقع مساواته للإله المسؤول عن الأرض ككل، ولذلك، ايضا، فانه يبدو من المعقول الافتراض، بالمقايسة مع التنظيم السياسي للدولة البشرية، بان على رأس مجلس الآلهة كائنا يعد من قبل الجميع ملكهم وقائدهم. ولهذا نجد مجلس الالهة السومرية يفهم من حيث الوظيفة كجمعية على رأسها ملك، واكثر المجاميع اهمية في هذه الجمعية هي الآلهة السبعة المحددة للمصائر، والآلهة الخمسون المعروفة ب (الآلهة العظمى)،الا ان التقسيم الأكثر أهمية الذي اقامه اللاهوتيون السومريون في مجلس الهتهم هو بين الكائنات الخالقة والالهة غير الخالقة، وهو التصور الذي توصلوا اليه بعقلانية تامة كنتيجة لمفاهيمهم الكونية، ذلك لأنه، وفقا لهذه المفاهيم، فالمكونات الأساسية للكون هي السماء والأرض، البحر، والجو، وكل موجود كوني اخر او ظاهرة، يمكنها أن توجد فقط من خلال واحد أو آخر من هذه المجالات. هنا يكون من المعقول الاستنتاج بان الكائنات المسيطرة على السماء والأرض، البحر والهواء، هي الآلهة الخالقة، وان واحدا أو آخر من هذه الآلهة الأربعة هو الذي خلق جميع الكائنات الاخرى وفقا لخطط نظمت معها. وبالنتيجة فان اله السماء انو، واله الهواء انليل، واله الماء انكي، والهة الارض ننخرساك (اعتمادا على استنتاج بانها تمثل الالهة التي عرفت باسم کی) عوملوا كآلهة قائدة اربعة لمجلس الآلهة السومري والتي دائما ما تجمع معا كرباعي من الآلهة ذات طبقة واحدة. اخيرا، اللاهوتي السومري، مستمدا دليله من العالم البشري حوله، قدم،دون شك، استنتاجا ميتافيزيقيا مهما في الاجابة على مشكلة مثل: ما الذي يجعل الكائنات الكونية والمظاهر، التي خلقت ذات مرة، تعمل باستمرار وتناسق، دون تصادم وارتباك ؟ هذا المفهوم هو ما دلل عليه السومريون بكلمة (مي) والتي لازال مرادفها يشوبه الشك الا ان الحكم الذي نتوصل اليه من خلال عدد متنوع من النصوص، هو، انها كما يبدو، تشير الى عدد من القواعد والتنظيمات المخصصة لكل موجود او ظاهرة كونية لغرض محدد في حفظها وميسرة إلى الأبد وفقا لخطط موضوعة من قبل الكائنات الخالقة.

 الفقرات السالفة، كما آمل، وضحت بشكل تام السمة العقلية الكامنة في الفكر النظري السومري المبكر، اذ ينبغي أن يكون قد وصل الى اجاباته للمشكلات الكونية، الميتافيزيقية المختلفة التي واجهته، ليس استيحاء لعلاقة مشاركة مع الطبيعة بل بتفكير عقلي أوصله إلى قناعات فكرية. ان وجود مجلس الهة لا مرئية ومشخصة وفوق بشرية، منظم كسلطة كهنوتية يرأسها اربع الهة يحكمون مجالات الكون الأربعة ووضعوا الخطط لخلق جميع الكائنات والظواهر الكونية الأخرى من خلالها، ووضعوا القواعد المتعلقة بوظيفة الديمومة والانسجام، كل هذه قبلت كبديهيات من قبل الفلاسفة السومريين الذين اقترضوها استنتاجات منطقية مبنية على تجربتهم مع العالم البشري المتمدن حولهم. والحق انه ليس من غير المنطقي الافتراض بدقة بانها لم تكن محدودة الاتساع، لأنها تحمل قناعة فكرية عالية حيث أن المفاهيم اللاهوتية الكامنة في هذا الافتراض صارت النظرة الأساسية العامة لإيمان ومعتقد العراقيين الأول. واذ اننا لا نملك أي سبيل لمعرفة التطورات الكونية واللاهوتية الأساسية التي سبقت هذه في العراق القديم، أو مدى التشابه بينهما، لذا يمكن الافتراض بثقة بان هذه المفاهيم المبكرة، مهما كانت سمتها، غطت سحابة مرحلة الفكر التكويني عندهم. وبناء على ما مر فإن التفوق العقلي للتعاليم التي طورها وعرضها المفكرون السومريون كان واضحا تماما، لذا كان محتما أن يتم قبولها بصدق من قبل طبقة منظمة، وفي الأخص اذا لم يكن من غير المحتمل الاعتقاد بأن هؤلاء المفكرين السومريين كانوا في الوقت نفسه كهنة أو قضاه ذوي تأثير كبير، تماما كما هو الحال على سبيل المثال، في قبول التعاليم التوحيدية التي طورها وعرضها المفكرون العبريون بعدهم بأمد بعيد والتي تدين الى حد غير قليل الى تفوقهم الفكري على تصورات الشرك التي كانت سائدة والتي فقدت بريقها على مر الزمن..

ان مسئولية المفكرين السومريين عن المفاهيم الميتافيزيقية واللاهوتية الاساسية التي سادت العراق القديم خلال الألف الثالث قبل الميلاد والتي طوروها وصاغوها بعد نقاش وجدل عظيم فيما بينهم، تبدو ليست محل شك الان، وفوق هذا فان قناعتهم بامتلاكهم لحقائق كونية أساسية على مستوى عال من الأهمية تخص سلوكهم وسلوك الموجودات التابعة لهم دفعتهم لان يعرضوها بحماس واندفاع بشكل شفاهي، لكي يتم اعتمادها لاحقا، كعقيدة رسمية وكونية للمدينة، وعليه، لا بد انهم قاموا بالانتفاع والصياغة لبعض الحجيج والبراهين التي تخدم غرضهم، الا أن هناك القليل من الأمل، كما يمكن القول، بان نكتشف نصوص هذه المحاججات والنقاشات، ما دام المعلمون السومريون والكتبة قد فشلوا في تطوير نوع ادبي مکتوب يخدمهم كوسيلة للتعبير والمحادثة. أن كل ما يمكننا ان نامل هو التنقيب وتجميع

بعض الاستنتاجات - التي لا تؤيدها الأدلة والحجج - من نصوص سومرية لازمان متأخرة كثيرا، وبالأخص من اساطيرهم، وهو النوع الأدبي الشائع عند المعلمين السومريين المشتغلين في المدارس السومرية (ایدوبا)، ولكننا اذ نفعل ذلك، لابد ان نتذكر ان كتاب الأساطير العراقيين القدامى ليسوا في الأصل فلاسفة او لاهوتيون لينصب اهتمامهم على الفكر النظري، بل انهم معلمون وشعراء جل اهتمامهم التمجيد والثناء على الالهة وعقائدهم، وعليه فان كتاب الأساطير هؤلاء لم يهتموا في اكتشاف حقائق کونية او لاهوتية حديثة، بل امنوا بالتصورات والممارسات اللاهوتية الشائعة دون تفكير بأصلها وتطورها. ان هدفهم كان انشاء قصائد قصصية حاولوا فيها شرح اصل ووجود واحد او آخر من هذه التصورات والممارسات بأسلوب يظهر رائعا ومؤثرا وممتعا. ولهذا فهم لا يتعلقون ببراهين وحجج تمت الى العقل، أن اهتمامهم الأول سرد قصة، أو وصف حدث يدغدغ العواطف. انهم، لهذا، لا يلجؤون إلى المنطق والعقل كأداة أدبية بل إلى الخيال والوهم، وبالنتيجة، ففي سردهم لقصة أو وصفهم لحدث مخصوص، تجد الشعراء لا يتوانون من اختلاق بواعث ووقائع منسوخة عن الفعل الانساني والتي لا يمكن ان يكون لها أي أساس في الفكر النظري العقلاني، كما انهم لا يتوانون ايضا عن تبني ملامح اسطورية او مستقاة من الأدب الشعبي في ما لا يجدون ما يخدمهم في البحث والاستنتاج الكوني العقلي.

أن الافتراض بان الاساطير العراقية القديمة تمثل الفكر النظري للفلاسفة واللاهوتيين الأوائل

الذين طوروا الخطوط الأساسية للاهوت والكونيات السومرية، هو افتراض مضلل مثله مثل الافتراض بان الاساطير والخرافات المضمنة في الفصول الهجائية من التلمود والمدراشية تمثل المفكرين العبريين الأوائل الذين طوروا وعلموا المفاهيم التوحيدية.

نعود الان الى اكثر فصول جاكوبسون اهمية حول الفكر النظري في العراق القديم المعنون (الكون كدولة). لا يمكن للمرء الا الاعجاب والاطراء للعناية والدقة الفكرية التي كتب بها، منطقية في التنظيم، اخلاص للتفاصيل الدقيقة، ووضوح عباراته واستخلاصاته. ومن المؤكد أن جميع المتابعين لاسهامات جاكويسون في العقد الماضي، وبالأخص تلك المتعلقة بالعقل السومري، تعلموا أن يدركوا ويقدروا أهميتها ومغزاها. وهذه واضحة على الخصوص في عمله هذا الذي أنفق سحابة وقته وفكره للمادة الأدبية السومرية، وأن دراساته السديدة سوف تأخذ مكانها بين اكثر الدراسات أصالة وانارة في هذا الحقل، وعلى الرغم من كل هذا فمما يؤسف له اني وجدت نفسي على غير وفاق مع اغلب تعميماته واستنتاجاته حول الفكر النظري العراقي والتي طرحها في هذا الفصل، لأنها تقوم أساسا على وهمين كبيرين:

 الأول - انه ينسب إلى المفكرين السومريين الأوائل موقفا نفسيا تجاه ظواهر الطبيعة لا يملكونه. والثاني - فشله في ادراك السمة الحقيقية لغرض وتقنية كتاب الأساطير الذين قرأ في أعمالهم افكارا كونية ذات سمة عقلية ومنطقية لم يقصدوها.

 في سبيل ايراد الحجة بوضوح أكبر دعنا نحلل الفصل، قسما بعد قسم، مع حذف اوله حول تأثير البيئة في مصر والعراق القديم، والذي هو في الأصل تمهيد وخلاصة للفصل..

في القسم الثاني المعنون (تاریخ فكرة العراقيين القدماء عن العالم) نجد عبارة استهلالية هي انه مع حلول الفترة الشبيهة بالكتابية بدا وكأن الحضارة العراقية القديمة قد تبلورت بين عشية وضحاها وهكذا ينبع فجأة وبشكل تام النمط الاساس والاطار الذي كان على العراقيين ان يعيشوا خلاله، ليصوغو اسئلتهم العميقة، يقيموا انفسهم ويقيموا الكون.

ان هذه الفرضية حول تبلور الحضارة العراقية القديمة بين عشية وضحاها، تبدو غير مبررة ولا واضحة بشكل تام، اذا ما اخذنا باعتبارنا ان جميع العبارات المتعلقة بالعراق في مراحل قبل التاريخ، وبضمنها تلك العبارة التي مرت للتو، لا يمكن ان تكون بطبيعة الحال اكثر من استنتاجات افتراضية ونظريات.

ان الفرضية التي تبدو متفقة كثيرا مع الأدلة التي نملكها، والتي تمنحنا مقتربا استنتاجيا كبيرا الى المشاكل المطروحة، ان هذه الحضارة، اذا ما حكمنا وفقا للشواهد اللغوية، التي لعب السومريون دورا مهيمنا فيها، بدأت تحتل موقعها خلال الفترة الشبيهة بالكتابية نتيجة لعصر طويل من التلاقح الثقافي بين ثلاث مجاميع عرقية. فقبل ظهور السومريين على المسرح بزمن طويل، بدأت الحياة في جنوب العراق القديم بثقافة قرى فلاحية، حملتها مجموعة عرقية لازالت هويتها موضع شك، ومن المحتمل انها ليست سامية ولا سومرية في اصلها. بعد فترة الاجتياح السامي للعراق من الغرب، تطورت ثقافة القرى الزراعية على مدى قرون الى حضارة مدنية عالية والتي وصلت، على المستوى السياسي مع مرور الوقت الى درجات امبراطورية. النفود السياسي المسيطر للامبراطورية العراقية السامية جاء الى نهايته على يد جموع سومرية بدائية بعد صراع عسكري طويل انتهى باقتحام جنوب العراق من قبل الفاتحين السومريين. وكنتيجة لهذا الاقتحام والفتح عانى جنوب العراق فترة من الركود والتخلف بلغ ذروته نسبيا في الفترة البربرية بواكير عصر البطولة.انها الفترة التي تلت عصر البطولة السومري والتي شهدت اندماجا ثقافيا مثمرا بشكل كبير بين الفاتحين السومريين البرابرة والمواطنين الأصليين الذين كانوا أساسا على مستوي عالي من المدنية، وهي الفترة التي من المحتمل أنها شهدت اختراع نظام الكتابة السومرية، وقدمت مجموعة من السدنة والمفكرين في المعابد والقصور، والتي تحت قيادتهم المثمرة بدأت الحضارة العراقية التاريخية المتأخرة موسومة بسمتها السومرية الغالبة.

نعود الى القسم التالي من الفصل (موقف العراقيين القدامى تجاه ظاهرة الطبيعة) أن ما ينبغي ملاحظته أن الاستنتاج الأساسي لهذا الفصل لا يقوم على اساس وغير موثوق إلى حد بعيد، فقد تم الوصول اليه من خلال اسناد نظرات وتصورات تحمل سمة اسطورية الى الفكر النظري. ولهذا نجد هناك عبارات مثل: ان أي ظاهرة يراها العراقي القديم في العالم حوله تملك حياة، تملك شخصيتها وارادتها، وذاتها المميزة، او: ان العراقي القديم يتحدث، بشكل يقيني، الى الصخور والنجوم، الرياح والمياه، كأعضاء في جمعيات قانونية. والان، فأنه ليس هناك دليل جلي على أن مثل هذه النظرات قد اعتمدت من قبل المفكرين السومريين الأوائل الذين آمنوا بوجود مجلس آلهة لا مرئي ومشخص للسيطرة على الكون وظواهره المختلفة. هؤلاء الرجال لم يخلطوا بين الحي واللاحي، انهم بالتأكيد نظروا إلى الهواء والماء، الغابة والشجرة، المعدن والصخر کأشیاء دون حياة ودون شخصية ودون ارادة. وبالمثل، فان المجالات الأربعة التي تشكل الكون السومري، السماء والأرض، البحر والجو، لم تفهم من قبل الميتافيزيقيين السومريين باعتبارها ذات حياة، هناك كائنات حية فيها، مثل الالهة، البشر، الحيوانات ولكن المجالات الطبيعية ذاتها لم تفهم بانها ذات حياة، وارادة، وشخصية. ان الذي لا شك فيه أن الكون، للمدى الذي كانوا يرونه، كان عديم الحياة بشكل كبير، ودون إرادة وعقل لذا فان هؤلاء المفكرين الأوائل وجدوا أنفسهم يواجهون مشكلتهم الأساسية وهي كيف يمكن للموجودات الميتة، والفاقدة للعقل التي يتضمنها الكون ان تعمل بثبات وانسجام، يوما بعد يوم، سنة بعد سنة، جيلا بعد جيل، ومن المؤكد أنهم استنتجوا بانها لا بد أن تكون مراقبة ومقادة من قبل مخلوقات حية قوية مليئة بالحكمة والفهم العميق، باختصار أن الفكرة المحددة لمجلس الالهة ذل،ك الذي وصف في الصفحات السابقة، لا يمكن ان يأتي الى المفكرين العراقيين لو لم يميزوا بين الحي والميت.

في الأقسام التالية من الفصل، المكرس لمناقشة بناء الدولة الكونية ولقادتها، وجدنا لسوء الحظ تكرارا لذات التعميمات غير القائمة على اساس والمتعلقة بالشخصية الحية لجميع الموجودات والظواهر الكونية، ولكن، بالاضافة الى ذلك، فهذه الصفحات تظهر قدرا من سوء الفهم بخصوص الكائنات السومرية القائدة، والقائمة بشكل كبير على تحليلات نفسية، كما اعتقد، غير واقعية، وغير متزنة وذات سمة ذاتية صرفة. وهكذا، بعد تفكير عميق حول كيفية تأثير السماء على الانسان حين يكون في حالة ذهنية فائقة الحساسية، يأتي الاستنتاج بأن العراقيين القدامى جعلوا " إنو" يمثل السطوة والسيادة المطلقة بينما انليل، على الجانب الاخر، فسر کاله العاصفة، ولذا قيل بانه يمثل القوة. وهكذا يستمر البرهان، فبينما " انو" يسير الكون بالسلطة وحدها، السلطة التي قبلت بحرية وطواعية، فان انلیل هو الذي يحتل المسرح حين تدخل القوة إلى الصورة. بكلمات أخرى، يمكننا الافتراض، كما يظهر، بان مجلس الالهة السومري كان مقادا من قبل كائنين متعاليين، وفي الوقت نفسه يتمم احدهما الاخر، من قبل انو الذي يختبر سطوته دون قوة، ومن قبل انليل حين تكون الحاجة الى القوة.

والان فان نظرية تقسيم السلطة بين انو وانليل يصعب صمودها امام الدليل. في المقام الأول، كما سوف ندلل، انليل ليس اله العاصفة على كل حال، من هنا فان وظيفته في الكون، كما ينبغي ان يفهم ابتداء، لا تتحدد بمصطلحات العنف والقوة، أكثر من ذلك، اذا ما ارجعنا البصر الى الفترة التاريخية المبكرة، اواسط الألف الثالث فيل الميلاد تقريبا، نجد بشكل عام ان انليل لوحده كان معروفا قائدا متسلطا في الكون، متسلطا، أي وجهة نظر السطوة مثلما هو القوة، ومن المؤكد،وربما هذا هو ما اثر على استنتاجات جاكوبسون، اننا نجد، في أحيان كثيرة في النصوص السومرية، ازدواج الالهين انو وانليل في الأمر، الا ان هذا ربما يعود إلى حقيقة أنه في وقت ما، في الأيام قبل التاريخية كان انو لوحده المعروف بصفته القائد المتسلط في الكون، وانه ربما نتيجة بعض الأحداث المهمة والتي لا زالت غير معروفة، فان هذه السيادة تحولت إلى انليل، تماما مثلما حدث في يوم متأخر حين تحولت من انليل الى مردوخ. على كل حال، فأيا كان الذي يفهم كاله متسلط في فترته، فانه يفهم بسطوته بالقوة والسيادة معا. وعودا الى الاله انليل، فمن سوء الحظ ان جاكوبسون استمر في اخطاءه في تفسير اسمه وشخصيته التي مالت الى السيادة على الادب المسماري، والواقع أن انليل فهم في الأزمان التاريخية ليس فقط كاله متسلط على مجلس الالهة، بل باعتباره اشد الآلهة المنعمين والذي كان مسؤولا عن تخطيط وخلق عدد كبير من العناصر المفيدة في الكون. أن ما ضلل بعض الباحثين في افتراضهم انه كان بشكل اساسي إله العنف والدمار هو في المقام الأول، خطأ ترجمة كلمةأ" ليل " إلى (عاصفة) والواقع انه يمكن إصلاحها الى (ريح) (هواء) (روح) وهكذا لها إلى حد معين ذات المدى الدلالي للكلمة العبرية " كاخ "، ثانيا، نتيجة لما حدث أن من بين التراكيب السومرية المنشورة، نجد هناك نسبة عالية بشكل غير طبيعي من المراثي، وخصوصا من نوع (انيم) فان الباحثين مالوا الى ان انليل كان بطبيعته عنيف ومدمر، وان كلمته تعني دائما الشر.ان ما يبدو انهم فشلوا في ادراكه هو انه في (المراثي) وحدها نجد أنليل يظهر بهذه الصورة ولأسباب واضحة، ولان الدمار المسبب للمراثي ناتج عن قرار، ولان انليل كان هو المتسلط الذي يملك الكلمة في هذا القرار، لذا كان هو صاحب الدور المؤلم بجلب الدمار المحتوم. واذا ما اخذنا، من جانب اخر، التراتيل والاساطير، نجد بان انليل يمجد باعتباره الها ودودا وحانيا والذي يرعى الأمن والسعادة في سومر على الخصوص، والذي يسبب الدمار لأعدائها..

وبالمثل، ما يخص الأقسام المكرسة لننخرساك وانكي، فهذه ايضا تحوي عددا من الأفكار الكبيرة والتحليلات الذاتية الواسعة، والنتائج المتعلقة بعقلية العراقي القديم والتي، وفقا لقول المؤلف، حصلت على فهمها للارض بتجربة مباشرة لها باعتبارها ذات ارادة واتجاه داخلي. فوق ذلك، في حالة انكي، هناك عدد من المشاكل تعترض محاولة الكشف عن أصل الاله واسمه واللذان يبدوان مجهولان معا. اولا خلافا لـ (ان) و(لناثي) فان اسم (انكي) ترکیب مضاف، وربما يكون لقبا اضيف إلى الاسم الحقيقي للإله، مثله مثل لقب (اينانا) ألذي أضيف إلى الاسم السامي عشتار، واللقب ننخرساك ربما أضيف إلى الاسم القديم الاصل (کی). ثانيا، لماذا يعطى الإله الذي عد اصلا اله الماء اسم (انكي) والذي، على الاقل سطحيا، لايعني سوى سيد الأرض وليس سيد الماء ؟ هذا الاسم سيد الأرض يبدو انه يشير الى حد ما الى ارتباط بسلطة انليل الذي حمل الأرض بعد فصلها عن السماء.

و اخيرا، هناك الحقيقة التي هي، خلافا لـ (انو) و(انليل)، فان (انكي) على الاقل عند نهاية الألف الثالث، كان يملك اسما ساميا هو (آيا). ان ما تضيفه هذه الحقائق، قطعا، سهل على الفهم، ربما يؤشر احتمالية ان اله الماء (ایا۔ انکی) كان في الأصل الها ساميا، وفي فترة مبكرة جدا تم تكييفه وادخاله إلى مجلس الآلهة السومري تحت اسم (انکی) نتيجة للأهمية السياسية المتنامية لأتباعه.

 

في المثقف اليوم