قراءة في كتاب

حاتم حميد محسن: اوربا الحديثة والتنوير.. قراءة في كتاب جديد

3337 اوربا الحديثة والتنويرهل الليبرالية تتعرض للهجوم في اوربا. في مقابلة له مع صحيفة الفاينانشل تايمز في حزيران 2019، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بوضوح ان "الفكرة الليبرالية" قد استنزفت أهدافها. دليله على ذلك هو ان الجمهور الاوربي رفض علنا المواقف السياسية "الليبرالية" في مسائل الهجرة وفتح الحدود والتعددية الثقافية. في كتاب اوربا الحديثة والتنوير (2021)، يستكشف العالم الاجتماعي رومي حسن، المحاضر في جامعة ساسكس والعضو في معهد civitas البريطاني لدراسة المجتمع المدني، ما اذا كان فتح الحدود والتعددية الثقافية ينسجم حقا مع الديمقراطية الليبرالية وقيم التنوير المؤطرة لها. هو يجمع الكثير من الأدلة للاقتراح بأن بوتن كان يهاجم رجل القش الليبرالي وليس الديمقراطية الليبرالية الحقيقية. ولكن اذا كان المؤلف صائبا، عندئذ فان اللعبة السياسية بالكامل تكون قد اسيء فهمها. هذا يجعل جدال الكاتب حيويا في فهم كم هو الانسجام او اللاانسجام بين التسميات البلاغية لتلك السياسات وبين جوهرها. عندما يقول شخص ما ان شيئا ما ليبرالي، فهل هو حقا ليبرالي، وبأي معنى؟ يبدأ كتاب (اوربا الحديثة والتنوير) بعرض ملخص قوي وفحص متوازن لقيم التنوير. الكاتب يطرح ايضا بجدية العوامل المؤثرة المضادة للتنوير في اوربا الحالية، سواء كانت في النسبية الثقافية لليبراليين او الميول السلطوية في شرق اوربا، او قيم ما قبل التنوير التي كوفئت وحظيت بالرعاية من جانب بعض الجماعات المهاجرة. الكتاب ايضا يسجل المدى الذي اتُبعت فيه قيم التنوير في مختلف أجزاء اوربا الحديثة. ولهذا الغرض، هو يصنف القارة الى اوربا الغربية، الرائدة في التنوير، الدول الشيوعية السابقة التي ارتبطت بالاتحاد الاوربي، و الدول الشيوعية السابقة التي ليست ضمن الاتحاد الاوربي.

منذ البدء، يستعد المؤلف لنقاده باظهار وعي تام بتلك المواقف التي قدم فيها مفكرو التنوير نظريات وافكارا غير تنويرية. جدال الكاتب هو ان الرؤى العرقية والعنصرية لبعض مفكري التنوير جاءت بالضد من جوهر القيم التنويرية بدلا من ان تكون المحصلة المنطقية لتلك القيم. وبدلا من إزاحة المسؤولية عن هيوم وكانط وجيفرسون لـ "فشلهم الخطير"، يعترف الكاتب بهذا الفشل، لكنه يضعه في سياقه الصحيح ضمن قيم التنوير الكاسحة من حيث الدليل والمحاججة المنطقية. عندما طُبقت تلك القيم باستمرار من قبل هؤلاء الرجال، فهي لم تدعم ذلك النوع من الانحرافات الشخصية في التفكير التي ينتقيها منتقدو التنوير بشكل روتيني . كذلك، الى جانب ديدروت ودعاة الغاء عقوبة الإعدام، كان جون لوك البطل العظيم لجيفرسون قد عارض بقوة العنصرية وسيادة البيض. ورغم ان جيفرسون كان عبدا، مع ذلك هو أدخل عبارات في إعلان الاستقلال الامريكي تمنع العبودية – فقط ليراها قد اُزيلت بالقوة من جانب المفاوضين من الولايات المالكة للعبيد والطبقة التجارية. الاعتناق المبدئي لقيم التنوير، كما يذكر الكاتب، يقف بقوة ضد عقائد التفوّق للرجل الابيض.

كان هناك خيط من التفكير ينظر للأبطال التاتوليتاريين الذين اكتسحوا اوربا في النصف الاول من القرن العشرين كنتائج غير مقصودة لقيم التنوير. العديد من مناصري هذه الرؤية هم تلاميذ ادورنو و هوركهايمر المضادين للتنوير في كتابهما (ديالكتيكية التنوير، 1947)(1). لكن الكاتب يشير الى ان هذه هي حالة بدائية لمغالطة السببية في تعاقب الأحداث the post hoc ergo propter hoc (التي تقول ان الحدث س اذا جاء بعد الحدث ص معنى ذلك ان الحدث س يجب ان يكون نشأ بفعل ص). النازيون انفسهم كانوا ضد التفكير التنويري. استخدامهم الساخر للديمقراطية أعقبه التدمير المباشر لكل الهياكل الديمقراطية فور استلامهم السلطة عام 1933، الامر الذي يوضح انهم لم يقيموا الديمقراطية كمبدأ وانما فقط وسيلة لغاية. ان المبادئ الرئيسية للعقل والعلوم هي ضرورية لكنها ليست شرطا كافيا لتحقيق المجتمع والدولة التنويرية الحديثة، طالما هي ايضا يمكن استخدامها في خدمة غايات معاكسة .

ايضا، رغم ان الاستعمار الاوربي تمدد بسرعة في القرن التاسع عشر، لكن هذا كان ضد جوهر مبادئ التنوير. هذا الاستعمار جلب بعض افكار التنوير للمستعمرات، لكن تلك الافكار وبشكل متفاوت لم توضع موضع التطبيق في احترام المستوطنين. كيف يمكن ان يكون ذلك عندما يصبح عمل الاستعمار نفسه خرقا لجوهر القيم التنويرية في تقرير المصير والحرية؟ افكار التنوير انتشرت بسرعة حول العالم بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الكاتب يشير الى ان قادة ما بعد الاستعمار لم يؤكدوا على اهميتها ولم يطبقوها بأي قناعة كانت. هو يعتقد ان هذا هو سبب قلة التطور الاقتصادي والاجتماعي في العديد من دول ما بعد الاستعمار في العقود التي أعقبت نيلها الاستقلال. هو يعرض بيانات ميدانية غزيرة لدعم هذا، مستخدما مجموعة من المؤشرات عن الحريات والحقوق على طول الكتاب.

يركز الكاتب نقاشه على النقد العنيف للتنوير في مطلع هذا القرن الذي وصفه دارين ماكماهان بـ رياضة دموية فكرية، تجمع عناصر من كلا اليمين واليسار في "مصلحة مشتركة" (اعداء التنوير، 2001). اطروحة الكاتب هي ان العقلية المضادة للتنوير التي اتسمت بالنسبية الاخلاقية والثقافية بدلا من العقل والدليل، ضربت جذورها في كل اوربا. هو يعتقد ان هذا خطأ جسيم و عميق يهدد باغراق اوربا الغربية ونكوصها نحو اللاعقلانية والظلامية، بما يخلق صعوبات هائلة للملايين من الناس. المؤلف كان في موقع قوي عندما طرح هذا الادّعاء بسبب البحث السوسيولوجي الهائل الذي أجراه للظروف الحياتية وحقوق الانسان والتنمية الاقتصادية حول العالم. عدة دراسات أشارت بان علمنة الثقافة والمجتمع ليست فقط مفيدة للتطور المعرفي للاطفال وانما ايضا ضرورية للتنمية الاقتصادية والتحديث، وان المستويات العالية للانتماء الديني في عالم الجنوب كبح النمو والتنمية والازدهار الانساني.

بعد الحرب العالمية الثانية، تبنّت اوربا الغربية بقوة إمداد الديمقراطيات الليبرالية بالدساتير والقوانين التي جسدت حقوق الانسان العالمية. هذا الإجماع كان واضحا في إعلان حقوق الانسان في الامم المتحدة لعام 1948، بالاضافة الى الاتفاقية الاوربية لحقوق الانسان التي دخلت حيز التنفيذ في سبتمبر 1953. المبادئ المركزية للاتفاقية الاخيرة كانت حرية التعبير (المادة 10) ومنع التمييز، التي تؤكد على ان ولادة المرء العشوائية يجب ان لا تكون سببا لأعمال التمييز. التبنّي الموحد للقيم المشتركة والمبادئ تكرر ايضا عام 1973 في إعلان الهوية الاوربية. هذه القيم والمبادئ تختلف بشكل واضح، كما يذكر الكاتب، عن النمط الذي اُتُّبع في ظل "التعدية الثقافية". التعددية الثقافية تفضل التنوع وسيادة الثقافات. لذلك هي لا تؤدي الى "قيم مشتركة ومبادئ" وترفض فكرة "الحضارة الاوربية المشتركة". واذا كانت الحقوق والحماية ومنزلة المرأة والاقليات الاثنية في اوربا الغربية في القرن الواحد والعشرين متفردة، فان هذا التقدم بمحصلته الكلية يخفي اختلافات عميقة بين الجماعات الثقافية والدينية والاثنية ضمن اوربا. احيانا يتم التسامح مع المواقف والممارسات التي لا تُقبل في المجتمع المضيف وتُحمى ضمن الاقليات المهاجرة. هذا المعيار المزدوج الصارخ جرى التهرب من المسؤولية عنه عبر اللجوء الى موقفين ثنائيين ضمن التعددية الثقافية: النسبية الثقافية والنسبية الاخلاقية. هذا الموقف جرد افراد الاقليات من الحماية المتساوية في ظل القانون بإستبدال حقوقهم الفردية بـ "حقوق الجالية". هذه السياسة تتغاضى بعمق عن القيم غير الليبرالية تحت عنوان التسامح الليبرالي. تلك المفارقة اصبحت واضحة جدا مع وصول أعداد كبيرة من المهاجرين من دول ذوي رؤى غير متسامحة ورجعية تجاه المرأة والاطفال ومثليي الجنس والمتحولين جنسيا. على هذا الاساس، يفكك الكاتب بفاعلية إجماع الرأي بان السياسات التي تدعم الهجرة الواسعة وسياسات اللجوء السخية هي ليبرالية وتلك التي عارضت تلك السياسات هي رجعية غير تنويرية وشعبوية او من اليمين المتطرف . هو يجادل على عكس ذلك، ان سيادة وحرية الفرد – اللذين هما شرط لا غنى عنه – للفلسفة السياسية الليبرالية التنويرية تعرّضا للخطر الشديد من جانب التفكير الجماعي للجماعات المحافظة اجتماعيا الذي جسّدته التعددية الثقافية. سيادة العقل وحرية ممارسته والذي هو جوهر قيم التنوير، يحرر الافراد من قيم الجالية والعادات والتقاليد. هذه الحرية هي شرط ضروري لتقرير سيادة الفرد.

من المفيد قراءة القضايا الثقافية المثيرة للخلاف من قلم عالم اجتماعي يتعامل مع موضوعه كما يتعامل الطبيب الشرعي بدقة صارمة. يقدم المؤلف حقائق سارة وغير سارة وفق معيار متساوي، بينما يخفي اي ملامح للاستثمار الشخصي. الأدلة اُعطيت أولوية، والكاتب بارع ومتمرس في تجميعها وترتيبها. هذا الكتاب هو عمل إبداعي لدراسة أكاديمية الطابع، ويجب ان يُدرّس لطلاب الجامعة كإنموذج واضح وسهل الفهم.

 

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

* كتاب (اوربا الحديثة والتنوير)، لرومي حسن، صدر عن مطبوعات جامعة ساسكس عام 2021 في 240 صفحة.

(1) في كتاب ديالكتيكية التنوير يجادل الكاتبان ادورنو و هوركهايمر ان تمجيد العقل من جانب مفكري التنوير في القرن الثامن عشر قاد الى تطوير انماط للحوكمة معقدة تكنلوجيا لكنها قمعية وغير انسانية، تمثلت بفاشية القرن العشرين والانظمة التاتوليتارية .

 

في المثقف اليوم