قراءة في كتاب

جواد بشارة: فالح مهدي يقوم بعملية مراجعة فكرية واستقراء ونقد للفكر الشيعي

جواد بشارةقراءة لكتابه الأخير: إستقراء ونقد الفكر الشيعي

الفكر الديني والإسلامي على وجه الخصوص بحاجة لمثقفين متخصصين يقومون بحفريات معرفية ومراجعات فكرية عميقة لتخليص الدين من براثن الخرافة والتحريف والمبالغة وهيمنة التفكير الشعبوي المليء بالشعوذات والأساطير والخرافات والدكتور فالح مهدي أحد هؤلاء المفكرين وهم نادرين، إذ تصدى قبل بضعة أعوام لموضوع خطير وحساس تحت عنوان " نقد العقل الدائري: الخضوع السني والإحباط الشيعي "وكان عميقاً وجريئاً في تناوله لموضوع التشيع في ذلك الكتاب الصادر سنة 2015. بيد أن المقاربة تلك مست الأسطح الظاهرة من عالم التشيع فكان لابد من مقاربة أخرى أعمق تغوص في أعماق الفكر الشيعي بعملية تنقيب آركيولوجية للوصول إلى منابع التشيع لفترة ما بعد اختفاء الإمام الثاني عشر ومرحلة السفراء الأربعة، وهي المرحلة التي أعيد فيها ترتيب المذهب الشيعي الذي كان يتهاوى سياسياً وجماهيرياً وكان لابد من عملية إنقاذ جراحية قيصرية لولادة جديدة حتى لو كان المذهب قد بني على الأساطير والأكاذيب والإدعاءات والنصوص الموضوعة. وقد قادت  منهجية الحفريات المعرفية وإعادة القراءة التاريخية بمنهجية تفكيكية، الباحث الدكتور فالح مهدي إلى تركيز اهتمامه على الكتب التأسيسية للفكر الشيعي المؤدلج ألا وهي " الكافي، ومن لايحضره الفقيه، وتهذيب الأحكام، والاستبصار" الأول للكليني، والثاني لإبن بابويه القمي، والثالث للشيخ الطوسي، والرابع للطوسي أيضاً وأربعتهم من بلاد فارس أي إيران المعاصرة. وكان تدخل إيران السافر والمباشر في شؤون العراق ودورها السلبي المؤذي وهيمنتها على مقدرات العراق واختطاف الدولة العراقية الحالية ، أي مابعد سقوط النظام السابق، هو الذي دفع المؤلف لكتابة هذا البحث القيم والخطير. فهناك دلائل واعترافات من قبل شخصيات مؤثرة في النظام الإيراني أعلنت بصراحة ووقاحة وصلافة أن العراق الحالي هو جزء من إيران وإنهم سيسترجعون أمجاد الإمبراطورية الساسانية. القناعة التي ترسخت لدى الكاتب هي أن التشيع المعاصر فارسي الهوية في جوهره وأداة بيد إيران للتسٌيد على العالم الشيعي في المنطقة" العراق وسوريا ولبنان والبحرين وجزء من السعودية وخاصة منطقة الطائف حيث يتواجد مخزون البترول السعودي، والكويت واليمن الخ"، وإن هناك هوة عميقة بين التشيع الأصلي، الذي وصفه الباحث بالبريء، أي تشيع القرن الأول الهجري بعد اغتيال علي إبن ابي طالب والتشيع الذي تشكل وأعيد بناؤه في القرن الرابع الهجري. لذا تطلب الأمر من الباحث العودة إلى الكوفة مهد التشيع في القرنين الأول والثاني بعد الهجرة ومقارنته بتشيع احتضنته بغداد العباسية في القرن الرابع الهجري، الذي تزامن مع بداية الانحطاط السياسي للخلافة العباسية .يقول الباحث في مقدمته لبحثه العميق أن القرن الرابع كان قرن المتنبي وأبو حيات التوحيدي وإخوان الصفا والقاضي عبد الجبار وعشرات المبدعين الآخرين، لكنه كان في نفس الوقت قرن الكليني والطوسي وإبن بابويه القمي والفردوسي صاحب ملحمة شاهنامة الشهيرة التي أعتبرت العرب هم المسؤولون عن سقوط الإمبراطورية الساسانية في القرن السابع . في ذلك الوقت نشأ كره العرب عند الفرس والرغبة في إذلالهم والانتقام منهم وما يزال هذا الحقد ونزعة الانتقام موجوداً إلى يومنا هذا.

لم يركز الباحث فالح مهدي كثيراً على العقيدة الشيعية والمسائل الفقهية التي تعتبر ركيزة النظام الأيديولوجي شيعياً بل صب اهتمامه على ما أسماه " الإنحراف" الذي حدث في الفكر الشيعي في القرن الرابع الهجري على يد الكليني كما اتضح في متون كتابه " الكافي" والكتب الثلاثة الأخرى المذكورة أعلاه. لم يكتف الدكتور فالح مهدي بقراءة نصوص هذه الكتب بل ذهب إلى ما وراء النص، أي قراءة " في عقدة النص، وكشف الأوهام وتورم الذات" على حد تعبيره. واستفاض بذلك في خاتمة الكتاب التي عنونها: الخروج من الجهل: ملاحظات نهائية في عقدة النقص". والمقصود بعقدة ثقافة قائمة على مخيلة مريضة وأوهام وأيديولوجيات تنزع إلى إقصاء الآخر وتبحث بشتى السبل للحط من شأنه والآخر هنا هو العرب بالطبع.

يلقي الباحث الضوء على محتوى كتاب صغير الحجم لعبد الله فياض عنوانه " تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة: منذ نشأة التشيع حتى مطلع القرن الرابع الهجري" أي قبل حدوث الانحراف الذي أشار إليه الباحث في مقدمته. وكان السيد محمد باقر الصدر قد كتب مقدمة طويلة لهذا الكتاب ادعى فيها أن الباحثين المحدثين أخطأوا في اعتبار التشيع بوصفه ظاهرة طارئة في المجتمع الإسلامي تكونت على مر الزمن نتيجة لأحداث وتطورات اجتماعية معينة هي التي صاغت التكوين الفكري والمذهبي للتشيع الذي اتسع بالتدريج"، ويعقب الباحث فالح مهدي على ذلك بالقول إن الظاهرة الشيعية لم تكن طارئة بل كانت نتيجة من نتائج التعقيد الحصاري والنزاعات من أجل السلطة والمال وإن نقد السيد الصدر لفكرة أن التشيع تكون على مر الزمن جانب الصواب لأن تشيع القرن الأول  والثاني الهجريين لا علاقة لهما بالتشيع الذي شيده الكليني أولاً وإبن بابويه القمي والشيخ الطوسي. فالسيد الصدر يعتقد وبكل يقين أن التشيع ولد منذ وفاة النبي محمد مباشرة على يد مسلمين خضعوا عملياً لأطروحة زعامة الإمام علي وقيادته وأحقيته بالخلافة والتي فرض النبي الابتداء بتنفيذها قبيل وفاته مباشرة بالضد من أطروحة السقيفة التي جمدت أطروحة زعامة الإمام علي وأحقيته وأهليته وإسناد السلطة إلى غيره. وحجة السيد الصدر هي استناده إلى وجود إثني عشر صحابياً أنكروا على أبي بكر فعلته وأخذه للخلافة كما جاء في كتاب " الاحتجاج" للطبرسي الصادر في القرن السادس الهجري. يتساءل الكاتب  فالح مهدي كيف لعلامة من مستوى محمد باقر الصدر أن يثق بقول رجل من أبناء القرن السادس الهجري ويعتبر رأيه مرجعياً أجمع عليه  المسلمون والحال أنه لايوجد إجماع فللشيعة إجماعهم وللسنة إجماعهم ، وليس هناك من مصدر محل شك وريبة كالإجماع كما قال  أحمد بن حنبل" من ادعى الإجماع فهو كاذب". يستنتج مؤلف الكتاب أن السيد محمد باقر الصدر ، ومن خلال تحليل مقدمته المذكورة أعلاه وكتاباته الأخرى، ما يزال يعيش ضمن ثقافة القرن الرابع الهجري ولم يخرج منها بل أثبت أنه إبنها البار والمخلص لأنه كان يدعوا إلى إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق تشريعاتها حرفياً وبالتالي يعيدنا إلى المربع الأول ولو قيض لنظامه " ألأبوي" الديني الطابع على غرار صيغة الدولة الإسلامية  أو نظام الحكم في إيران ، حيث العنف والميليشيات وشذاذ الآفاق الذين سيحكمون باسم الدين والإسلام والتشيع، لاكتشف أن الدين والطائفية هما وسيلة الخميني وخامنئي وأتباعهم في إيران وخارجها لتسُيد إيران على المنطقة وفرض إرادتها. ويعتقد الكاتب أن دعوة محمد باقر الصدر العراقيين للالتفاف حول الخميني وثورته الإسلامية باعتباره المرجع الأعلى لكل الشيعة ومقارعة نظام البعث السابق يعني الوقوف إلى جانب إيران ضد بلده فالعراق ليس ملكاً لصدام ونظامه ولايحق لأحد التفريط بسيادته لصالح دولة أخرى حتى لو كانت من نفس المذهب. وبالتالي ليس العراق في نظره ونظر الإسلام السياسي الشيعي سوى إقليم أو إمارة لا أكثر تدور في فلك الجمهورية الإسلامية وهو موقف جميع التنظيمات السلفية الجهادية كالقاعدة وداعش وأمثالهما، الذين يؤمنون بشمولية الأمة الإسلامية ولايعترفون بوجود لدولة كالعراق. لم يحتج محمد باقر الصدر على إبادة وقمع الشيوعيين والقوميين والليبراليين والمستقلين والديموقراطيين المعارضين لنظام البعث، وبقي صامتاً لغاية التفات نظام صدام حسين للتيار السياسي الشيعي وهجمته على حزب الدعوة الذي أسسه الصدر نفسه فأعلن معارضته ووقوفه إلى جانب إيران بعد نشوب الحرب العراقية الإيرانية.3360 فالح مهدي

مما لا شك فيه أن بحث الدكتور فالح مهدي هو في جوهره محاولة حفرية، على ضوء علم الأنثروبولوجيا في أركيولوجيا الثقافة والرجوع إلى المصادر التي يستند إليها الشيعة الإثني عشرية لتقديم تصورهم عن الإسلام وما يحيط بهم، وعن أوهامهم ونرجسية من سمح لتلك الثقافة أن تنتشر وتنمو وتزدهر وتصبح حاضرة في سلوكيات الناس باعتبارها حقائق مطلقة.

بذل الباحث جهداً معرفياً كبيراً في شرح أهمية اللغة في الثقافة والفكر وعلاقة لغات بلاد وادي الرافدين، القديمة والحديثة، بما فيها العربية، باللغة الفارسية لمعرفة الروح السامية، نسبة للساميين، التي سادت في المنطقة، هو حيز مكاني يتصل بشبه الجزيرة العربية ويمتد إلى أفريقيا ويشمل بالطبع العراق والشام. البحث التمهيدي النظري طويل ومكثف في نفس الوقت لكنه يبعد القاري التواق للدخول مباشرة في صلب الموضوع الذي جسده العنوان، رغم أهمية المعرفة الموسوعية والأكاديمية التي تستدعي الغوص في جذور الكلمات والمصطلحات اللغوية عبر التاريخ فيما يتعلق بالساميين والفينيقيين والعبرانيين والعرب ، حيث تم اختراع الكتابة في هذه المنطقة من العالم قبل 3000 سنة من التقويم الميلادي المعاصر بفضل العبقرية السومرية وبعدها الأكدية والبابلية والآشورية ، كما  كانت هناك الحضارة الفرعونية المصرية ولغتها الهيروغليفية ، مقابل الضعف اللغوي الفارسي، حسب فرضية الباحث  فالح مهدي وهو لا يقلل من أهمية حكم الفرس للعراق طيلة أكثر من ألف عام وهو يقصد الأخمينيين والبارثيين ثم الساسانيين الذين استمر حكمهم لأكثر من أربعة قرون للعراق. لقد لاحظ الباحث ضمور الحياة، ولاسيما الثقافية خلال تلك الفترة الطويلة التي تجاوزن الألف عام من حكم الفرس للعراق، وهي السمة التي وصفها الباحث بفرسنة النظام طيلة تلك السنوات العجاف. مثلما ضمرت خلال أربعة قرون أخرى من الحكم العثماني للعراق.

من البديهي التفكير أن هناك علاقة بين اللغة والفكر والسؤال المطروح بهذا الصدد كما يقول الكاتب هو: هل اللغة وسيلة لنقل الأفكار أم إنها تساهم في خلقها؟ واستند في إجابته إلى عالم اللغة والفيلسوف الألماني وليام فون هيمبولد (1767-1835) الذي اعتبر نظام اللغات ككينونة عضوية مما قاد إلى اعتبار بنيوية اللغة هي من يحدد بنيوية الفكر، في حين اعتبر سابير وورف بأن العلاقة بين اللغة والفكر لايعتبر فرضية بل مبدأ من مباديء النسبية اللغوية التي تتضمن النسبية الوجودية. وإن اللغة ليست مجرد مجموعة علامات وإشارات اعتباطية أو إنها وجدت صدفة. فبدون لغة لا يمكن نقل الأفكار والمفاهيم من عقل إلى آخر ومن حيز إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى كما قال إبن جني (322-392).

ثم استرسل الباحث في تبيان معنى اللغة فلسفياً ومعنى الفكر، فليس هناك فكر دون لغة والثقافة بمعناها الواسع تقوم بفضل تلك العلاقة المتشابكة بين اللغة والفكر. بينما أعتبر الفيلسوف برغسون أن اللغة مقبرة الفكر. والعكس هو الصحيح لأنه بفضل اللغتين المسمارية والهيروغليفية تمكن قدماء المصريين والعراقيين نقل ما يفكرون به وما توصلت إليه حضارتيهما إلى باقي الأقوام البشرية. ويعرج المؤلف إلى العلاقة بين اللغة الفارسية التي كانت مهيمنة واللغة العربية التي انتصرت عليها بعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس حيث أحدثت العربية تغييرات جوهرية في صلب اللغة الفارسية ابتداءاً من نمط الكتابة المقتبس من العربية ومروراً بعدد هائل من المفردات والمصطلحات العربية التي تجذرت داخل اللغة الفارسية، وقدم إحصائيات معجمية بهذا الشأن. وبعد أن كانت فارس المعرٌبة، أصبح العراق مفرُساً، أو مايسميه المؤلف بــ " فرسنة العراق" على مدى ألف عام، ومن ثم بعد ذلك " عثمنة العراق" في عهد الهيمنة العثمانية على مدى أربعة قرون. لقد ورث الفرس الغزاة نمط بابل للري وبناء المدن وأنماط الحياة والقانون والتشريعات ولم يضيفوا الكثير من المنجزات ربما فقط تحسين القنوات المائية بحفر قنوات ثانوية تدعم القنوات الرئيسية التي حفرها السومريون والبابليون. ولقد شكل العراق مركز الإمبراطورية الساسانية. لذلك يحتل العراق أهمية كبرى استراتيجية بالنسبة لإيران في العصر الحالي. استغرق هذا التمهيد المعرفي والأكاديمي قرابة 80 صفحة قبل الدخول في صلب الموضوع في الفصل الثاني من الكتاب الذي جاء تحت عنوان: القرن الأول الهجري الكوفة كنموذج لبراءة التشيع. وهنا يعود الباحث إلى أهمية المكان الذي سبق له أن نظر بشأنه في كتابه نقد العقل الدائري، حيث تنشأ الأيديولوجية وتتطور حينما ترتكز إلى تاريخ وقصص وحكايات وأساطير متخيلة أو مختلقة، ولو تحرت الموضوعية والحقيقة لما استمرت في خداع ملاين الأبرياء. فالأيديولوجية حسب الكاتب فالح مهدي هي نظام الأفكار المتداخلة كالمعتقدات والأساطير التي تؤمن بها جماعة معينة وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية وتبررها في نفس الوقت وهذا ينطبق تماماً على الأيديولوجية الشيعية.

وكأي باحث منصف وعلمي يبدأ الباحث في عرض بدايات التشيع المرتبطة بالمكان. والمكان هنا هو مدينة الكوفة التي أسماها عمر بن الخطاب " مخ العرب" والتي تأسست في عهده، وهي منشأ التشيع السياسي. بعد اندحار الجيش الساساني أمام المسلمين عام 17/638 أنشئت مدينة الكوفة كنقطة وصل بين المدينة، أي عاصمة الدولة الإسلامية الوليدة، وبقية الأمصار التي غزاها سعد إبن ابي وقاص ولقد كتب في ذلك الباحث التونسي هشام جعيط وكرس له كتاباً بعنوان " الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية" ونجم حيدر في كتابه " أصول الشيعة: الهوية والطقوس والفضاء المقدس في الكوفة في القرن الثامن" مع ندرة المصادر التاريخية المعاصرة لتلك الفترة. عدا بعض المصادر المتأخرة وأغلبها تعود لمستشرقين متخصصين قدموا رؤيتهم لهذا الموضوع بحيادية. كانت هناك توترات واحتدامات واختناقات وحساسيات بين من جاء مع الجيش الإسلامي الغازي من الوافدين الأوائل ممن أطلق عليهم تسمية الأشراف وهم رجال القبائل (الروافد) من جهة، وبين رؤساء القبائل الأصليين القاطنين في المنطقة، من جهة أخرى، حدث هذا في زمن عمر بن الخطاب. وتفاقم الأمر خاصة مع القبائل الموالين للسلطة في زمن عثمان ومن بعده الأمويين. كان عمر يغدق العطايا والامتيازات الاقتصادية على أساس السبق في الإسلام بينما حصر عثمان الامتيازات بعشيرته وحلفاؤها من الأمويين  والقبال الموالية لهم من العرب حيث تعارضت المصالح بين الوافدين الأوائل  والقبليين المحميين من السلطة ودعم الخليفة عثمان مما زاد من توتر الأوضاع إلى نطاقات خطيرة أدت إلى اغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان على يد  الوافدين الأوائل وجلهم من المصريين ومعهم بعض الصحابة ومنهم محمد إبن ابي بكر وغيرهم، صاحب هذا الوضع وصول علي بن أبي طالب للخلافة الذي نقل مقر الخلافة من المدينة إلى الكوفة بيد أن النخب القبلية التي حضت بامتيازات من عثمان ومعاوية لم تكن متحمسة لخوض حروب مناصرة لعلي ضد معاوية . وفي القرن الثاني للهجرة كانت السلطة في الكوفة بيد رؤوساء العشائر الأثرياء والمدعومين من قبل سلطة الخلافة الأموية في الشام. بعد اغتيال علي بن أبي طالب انفض الجميع عن إبنه الحسن الذي تنازل عن الخلافة لصالح معاوية وأدى تفاقم الخلاف على مر السنين إلى مقتل أخوه الحسين في كربلاء بطريقة وحشية شنيعة. لم تكن قريش ترغب بعلي كخليفة وكذلك عدد كبير من الصحابة ومن بينهم طلحة والزبير ومعهم عائشة بنت أبي بكر زوجة النبي وثاروا عليه في البصرة. يحتاج الأمر إلى المزيد من الدراسات الاجتماعية السوسيولوجية والأنثروبولوجية للوقوف على حقيقة الأمر وفهم التوزيع السكاني في الكوفة وحيثيات مقتل الحسين ومن بعده بست سنوات المختار الثقفي. لم تكن الكوفة بيت الرحم الذي أنطلق منه التشيع فحسب، بل أصبحت رأس الحربة بمواجهة السلطة الأموية بثوبها المرواني، على حد تعبير الباحث د. فالح مهدي. إثر انهيار حركة المختار حدث تحول عميق في طبيعة المعارضة فأخذت طابع الإيمان والتقوى وضمت عدداً من الفرق والجماعات التي اجتمعت على معاداة الدولة الأموية والدعوة إلى السلطة العلوية. لم يكن كل من ناصر علي في حربه على معاوية من الشيعة الخلص، والجدير بالذكر كما ذكر الباحث أن الكوفة ارتبطت منذ نشأتها بالعمل العسكري وأصبحت صفة مرتبطة بها لمدة قرن من الزمن. وكانت من المدن المغضوب عليها في زمن عثمان وإبان العهد الأموي كله إذ أصبحت مهمة تهميشها مهمة جوهرية في العرف الأموي. ومع ذلك خرج منها كبار العلماء والفقهاء والكتاب وكانت الحياة في الكوفة تتعارض مع نمط الحياة البدوية. كانت الخلافة الإسلامية في المدينة تعتبر الكوفة، بل والعراق برمته، أرض السواد، بستان قريش كما جاء على لسان والي عثمان في الكوفة سعيد بن العاص، فرد عليه مالك الأشتر أحد قادة علي بن ابي طالب الذي اختاره والياً على مصر:" أتجعل مراكز رماحنا وما أفاه الله علينا بستان لك ولقومك؟" كانت تلك سياسة عثمان منذ أن تولى أمر الخلافة ولقد ذكر الباحث نصاً من كتاب الباحث العراقي والأستاذ الجامعي عبد العزيز الدوري " العصر العباس الأول بيروت مركز دراسات الوحدة العربية جاء فيه:" إن الإصلاحات التي جاء بها عمر بن الخطاب انتهت بموته فقد نقضها خلفه الذي تخجل الملائكة من أخلاقه. فقد كتب عثمان إلى عماله التالي:" أما بعد فإن عمر كان مغروراً ... فدعوا ما كنتم تعرفون في عهده، وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى، أخصبوا أم جدبوا، أحبوا أم كرهوا، حيوا أم ماتوا". إذن وفي عهد أحد المبشرين بالجنة ممن تخجل الملائكة من شدة إعجابها بأخلاقه، بدأ الانقلاب الفعلي ولم يمض على موت عمر بن الخطاب سوى أيام. ونتيجة لبؤس ذلك الخليفة وضعفه وانحيازه لبني قومه وعشيرته دخل الإسلام في حرب مع ذاته ولم يخرج منها حتى هذه اللحظة، ولايزال المسلمون يدفعون ثمن سلوكه. هل هناك دين يدعو إلى العدل والحق والقائم على أمره أحد أصحاب محمد ومن المقربين إليه صهره وزوج لإبنتيه، وهو يأمر عماله أن يحلبوا الناس حلباً وألاٌ يكترثوا لوضعهم سواء بقوا أحياء أم أموات، رضوا أم أبوا، وأغلبهم من الموالي الفقراء العاملين في مجال المهن اليدوية كالزراعة والصناعة الخفيفة؟ كانت الكوفة من أكثر المدن تأثراً بالصراعات السياسية وقد ساهمت في مقتل عثمان ولم تتحول إلى مدينة شيعية إلا في فترات لاحقة. فالربع الجنوبي الشرقي لمدينة الكوفة كان تابعاً لبني تميم والربع الشمالي كان تابعاً لبني أسد في شمال المركز بينما وجدت مساجد صديقة في الشرق والجنوب وكذلك في الشمال الغربي. ما يعني أن المساجد قرب المركز تعتبر معادية للشيعة لأنها قريبة من الوالي الأموي والسلطة الأموية تبعاً للولاءات والانقسامات القبلية التي لعبت دوراً حتى في حرب صفين بين علي ومعاوية كما ذكر المؤلف استناداً إلى هشام جعيط. يؤكد الباحثون على " وجود مجموعة شيعية وجوداً عرضياً ارتبطت بالباقر والصادق" حسب الباحث حيدر نجم. ومعني عرضية أي طارئة فلم تكن هناك ملامح واضحة لمجتمع يمكن أن نطلق عليه " شيعي إمامي محض «حتى منتصف القرن الثاني الهجري بينما تذهب الباحثة والمستشرقة البريطانية باتريسيا كرون إلى إرجاع ظهور الشيعة الإمامية كمجموعة متميزة إلى فترة الإمام موسى الكاظم وحكم هارون الرشيد العباسي في نهاية القرن الثاني للهجرة".

في سنة 145 للهجرة، وبعد تأسيس بغداد في زمن الخليفة المنصور بدأت الكوفة تفقد أهميتها كمركز للإمارة العامة إذ أصبحت بغداد هي عاصمة الخلافة العباسية. ومن هنا بدأ الكاتب يبحث في اللبنات الأولى لنشوء الإمامية:" لقد اتسم المجتمع الإمامي في أوائل القرن الثاني الهجري بتوترات طبعت العلاقات بين الفصائل التي كانت تحمل رؤى مختلفة، بل متناقضة، حول نطاق العلم الذي وجب أن يتمتع به الإمام، وطبيعة علاقته بالذات الإلهية. إن حالة الإرباك العام الذي ولدته هذه الرؤى المختلفة أدى إلى تنامي أفكار الغلاة. أمام هذا المناخ العام، فلا عجب في أن يبذل إمام مثل الباقر وخاصة إبنه جعفر الصادق، جهوداً عظيمة للحد من تأثير غلاة الشيعة وأن يعمل هو نفسه على صياغة المباديء الخاصة بما سيصبح عليه لاحقاً الشيعة الإمامية". ثم شهدت الفترة بعد موت الصادق سلسلة من الانشقاقات تزامناً مع ظهور الإسماعيلية أو السبعية والناموسية سنة 148/765 والوقفية 184/800.  تجدر الإشارة إلى أن الغلاة ظهروا في زمن الإمام علي نفسه الذي تنكر لهم وحاربهم لأنهم ألصقوا به صفة الألوهية.

إن قيام أبي جعفر المنصور (95/158) ببناء بغداد أحدث تحولاً عظيماً في التاريخ الحضاري الإسلامي ويعتبر هذا الثعلب المؤسس الحقيقي للدولة العباسية وصاحب منهج في الحكم منفتح على الآخر، بل كان من أولويات مهامه الحد وإنهاء القوى التي تطمح بسلطته والتي ستصبح سلطة أحفاده من بعده فيما بعد، فقام بتصفية عمه عبد الله بن علي، وابي مسلم الخراساني، الذي كان الأخطر من بين كل أعدائه. وكان حذراً أشد الحذر من العلويين لكنه لم يقتل جعفر الصادق فهذا الأخير وحسب كل المصادر كان مسالماً ولا يدعو للثورة حتى في زمن الأمويين وتربطه علاقة صداقة بالمنصور. وهذا عكس ما يدعيه الشيعة الإماميون من أن المنصور قام بقتله عن طريق دس السم في غذائه. فجعفر الصادق ولد ومات في المدينة ولكن كان له الأثر العظيم في بناء المذهب الشيعي الذي سمي بإسمه " المذهب الجعفري" واتفق المؤرخون على حسن سلوكه ورفعة شأنه بل ويذكر عن أبي حنيفة تشرفه هو ومالك بن أنس في أن يكونوا من المعجبين به والدارسين على يديه. والحال إن الكليني قام برسم صورة مختلفة عن جعفر الصادق في القرن الرابع الهجري وهو المسؤول عن انحراف المسيرة الشيعية الذي وصفه الباحث بــ " الرجل الخطير الكليني ومن جاء بعده".

ركز جعفر الصادق جهده على مسائل الفقه والتشريع الإسلامي والتقوى بيد أن الكليني ومن جاء بعده عزو إلى الصادق تبحره في مسائل العلم الطبيعي. وعندما نمعن النظر في الإرث الذي تركه جعفر الصادق ومن قبله أبوه محمد الباقر، نجد آثار الهزيمة فهو لم يؤيد ولم يقف بجنب ثورة عمه زيد بن علي بن الحسين في حربه ضد الدولة الأموية. في حين ايدها أبو حنيفة الذي يكن له الكليني حقداً كبيراً. كانت الكوفة عاصمة الدولة العباسية الوليدة في باديء الأمر (750/766) ثم انتقلت عاصمة الدولة العباسية إلى بغداد التي بناها المنصور الدوانيقي(766/1258) نجد إن كافة النزاعات والصراعات والثورات لم تقف خلفها مبادئ سامية كما كانوا يدعون ، بل كانت تقف خلفها الرغبة في السيطرة والحكم، أي الأهداف السياسية الدنيوية المحضة.

أبو جعفر المنصور حارب بقسوة واغتال كل من أحس بخطره ولم يتوان مع العلويين لكنه لم يقتل جعفر الصادق لأنه كان على يقين من وداعة ذلك الرجل وبعده عن السياسة بل كان وصياً على تركته بعد مماته. من الناحية الموضوعية لا يمكن الاستناد إلى كتابات الشيعة نظراً لتغلب عناصر الإحباط والمبالغة والتهويل ، بل وحتى الكذب فيما ورد فيها. وهذا حكم قطعي يعرضه الباحث بخصوص الشيعة آنذاك وفيما بعد.

يقدم الباحث فالح عبد المهدي لوحة دقيقة وثرية عما آلت إليه أحوال الخلافة العباسية. فالقرن الرابع يمثل أرقى ما وصت إليه البشرية آنذاك حضارياً وعبر مدينة بغداد تحديداً. لكنه وفي نفس تلك اللحظات مثُل القرن الذي انحطت فيه الخلافة العباسية وازدهار الثقافة الإسلامية على نحو لم تعرف له هذه الحضارة سبيلاً قبل ذلك. يستند الباحث إلى مان نقله كبار المؤرخون عن المآل الذي آلت إليه الخلافة في بغداد. فقد انفرط كل من كان تحت هيمنة وحكم الدولة العباسية وأصبح مستقلاً في مملكته. فصارت الريُ وأصبهان والجبل في أيدي بني بويه، والموصل وديار ربيعة وديار بكر وديار مضر تحت حكم بني حمدان، وأصبح جنوب العراق (الأحواز وواسط والبصرة) من حصة البريديين، أما مصر والشام فوقعتا تحت هيمنة محمد بن طعج الأخشيدي، وكان المغرب وشمال افريقيا من حصة الفاطميين الذي سيطروا فيما بعد على مصر أيضاً، فيما كانت الأندلس ومنذ زمن المنصور من حصة الأمويين وأصبحت خراسان تحت هيمنة نصر بن أحمد الساماني. وأمام ذلك التفتت المرعب أصبحت اليمامة والبحرين تحت هيمنة أبي طاهر القرمطي الخ.." وكانت الحرب ين الأمين والمأمون ولدي هارون الرشيد من ضمن البدايات لذلك السقوط المدوي الذي تعددت أسبابه والدور الذي لعبه إبن حنبل والحنبلية في ذلك الانحطاط ، والمتوكل وتخلفه وهجومه على المعتزلة .ومن علامات ذلك الانحطاط كما ذكرها المستشرق آدم متز :" أما بغداد فهي التي قد تنكرت لها الأيام، و ذلك من عام 315/927، حين أرهبها العيارون، وعاثوا فيها فساداً ، وأعملوا فيها النهب لأول مرة، ثم صار أمرهم يتفاقم كلما ضعفت الحكومة وكانت أسوأ أيامها في السنوات التي أفلت فيها الزمام من يد الحكومة فيما بين مقتل بجكم ودخول بني بويه أي بين عامي 329/334 ". ومن المفارقة أنه في نفس هذا القرن أي الرابع الهجري، ظهر أبي حيان التوحيدي في بغداد ، وكان قرن إخوان الصفا في البصرة، وقرن المتمرد المتنبي، قرن بديع الزمان الهمذاني ومقاماته، وذلك يمثل قمة ما وصلت إليه الحضارة والحياة  فهو قرن النحو والمعاجم وأيضاً هو قرن القاضي عبد الجبار وقرن المعتزلة ورفعة مكانة العقل ، لكنه كذلك قرن الكليني الذي استطاع إعادة الحياة لذلك المذهب الذي كان في لحظة احتضار ، حسب تشخيص الباحث د. فالح مهدي الذي لم ينس الإشارة إلى عثمان الجاحظ العظيم والأديب المعتزلي الكبير المولود في منتصف القرن الثالث الهجري، كرمز لهذا التعقيد الحضاري ، وكذلك أبو حيان التوحيدي (310-414) أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء.

التشيع في القرن الرابع الهجري هو لب أطروحة الباحث فالح مهدي حيث يعتقد أنه القرن الذي أعاد الحياة للمذهب الشيعي الاثني عشري الذي كاد يضمر أو يموت بعد القرن الثاني الهجري. هناك اتباع ومريدون بلا شك يطبقون تعاليم جعفر الصادق وفقهه بدون أيديولوجية تعبوية ترسم معالم وجوده وتبين تمايزه عن المذاهب الأخرى ولقد تم هذا الإحياء على يد الكليني ومن تبعه. ففي بغداد تمت صياغة الأيديولوجيا الشيعية والسنية فهي مدينة الرشيد والمأمون ولكنها أيضاً مدينة المتوكل، مدينة المعتزلة ولكنها مدينة أحمد بن حنبل فهي مدينة الكتاب والشعراء والفلاسفة والعلماء لكنها مدينة الشطار والعيارين وفي هذه المدينة تمكن الكليني من حياكة أيديولوجية لهذا المذهب الذي دخل مرحلة سبات استغرقت قرنين. الكليني إبن بغداد في القرن الرابع الهجري تمكن من تجديد وإعادة الحيوية لمذهب كان يعاني من لحظة انحطاط كادت أن تؤدي إلى انقراضه. فقد توفي الإمام الحادي عشر دون أن يترك خلفه ولداً إذ كان عاقراً، لذا تم اللجوء إلى حيلة مفادها أن له ولداً صغيراً وإنه اختفى. في تلك اللحظات الحاسمة والمربكة وجد الكليني الذي كان فقيهاً كأول أيديولوجي في قائمة ضمت شخصيات أخرى من رجال الدين الشيعة الذين اتبعوه وساروا على طريقه. في القرن الرابع الهجري اكتمل البناء الأيديولوجي للشيعة في مرحلة الانحطاط السياسي العباسي الذي بدأ في القرن الثالث الهجري فالقرن الرابع هو القرن البويهي ذو الميول الشيعية.

لقد عانى الفكر الشيعي، بل الوجود الشيعي خلال فترة امتدت من منتصف القرن الثاني وحتى منتصف القرن الرابع، من علامات انحطاط واضحة وجلية اتسمت بالغموض والتشرذم وتمثلت بالأزمة المزدوجة لمفهوم الإمامة وظهور مفهوم البداء بعد وفاة إسماعيل إبان حياة أبيه، باعتباره الإمام المفترض  خلفاً لجعفر الصادق، واللجوء إلى تخريجة البداء، أي " أراد الله شيئاً وبدا له شيء آخر"، والمحاولات العديدة لإيجاد حلول ناجعة لنظرية الإمامة الإثني عشرية المعصومة. يقول المؤلف إن هذا القرن الرابع يمثل أوج التطور الفكري والأيديولوجي للمدرسة الإثني عشرية . ففي هذا القرن سيطر البويهيون ذوو التوجه الشيعي على مقاليد السلطة في بغداد مما ساهم في انتعاش المذهب الشيعي الذي لجأ إلى الكتمان إبان الفترة العباسية الأولى وطبق مبدأ التقية ووفاة الحسن العسكري بدون خلف حتى لو ادعى الشيعة خلاف ذلك وإنه كان له ولد صغير هو المهدي وفق اليقينية الشيعية، وكان اختفاؤه ضروري اضطرارياً خوفاً من نوايا السلطات العباسية لتصفيته، ولو كان الإمام يعلم بالغيب فلماذا لم يتوقع موته المفاجيء وأن يتولى طفل أمر الطائفة بعد وفاة والده ويكون إماماً كامل الأهلية. فبالرغم من التعقيد الحضاري العباسي وفرت بغداد مناخاً ساهم في منح الشيعة فرصة لتطوير أدواتهم وقدراتهم وأدبياتهم عبر الدراسة والتأمل والاستجابة لمتطلبات العصر فأنتجت بغداد نخبة من أهم المتكلمين والفقهاء الشيعة إلى جانب الكليني كالشيخ المفيد والشريف المرتضى  و الشريف الرضي  والطوسي  حيث تم تأسيس علم الكلام الشيعي وأدخلوا قدراً من العقلانية على مفهوم التشيع دون أن ينسوا دور الفقه في ذلك.

الكليني مؤسس التحريف:

كان من الممكن عنونة كتاب فالح مهدي استقراء ونقد الفكر الشيعي لدى الكليني" فهو يعود مراراً وتكراراً إلى الكليني الذي وصفه بالمريض نفسياً والمصاب بداء انفصام الشخصية والغامض والرجل النرجسي والمغرور والخبيث والمزور والكذاب، والدجال، باعتباره علامة فارقة عن أتباعه، لكنه يبدو مسخاً من خلال نقد وتفكيك وتفتيت الكاتب فالح مهدي لشخصيته ولمؤلفاته. فهو أولاً فارسي، ومدعي إذ يقول إنه قضى ثلاثون عاماً في تأليف كتاب الكافي، أو هذا مايردده أتباعه، وقد جمع في كتابه هذا الحديث النبوي الإثني عشري، أي من لسان أئمة المذهب الشيعي وأهل البيت، إضافة إلى أقوال ورسائل وأحلام منسوبة للأئمة الإثني عشر، وفقه وعلم الكلام. والحال أن كتابه هذا لم يحظ بأي اهتمام خارج دائرته الشيعية ولم يذكره إبن النديم في فهرسه ويصفه المستشرق مادولينك المتخصص في التاريخ الشيعي الإثني عشري في الانسكلوبيديا الإسلامية:" من المؤكد أن كتاب الكافي لم يكن له مرجعية كبيرة عند الطائفة الشيعية وقت صدوره، ولم يعتبر مصدراً من مصادر الفقه ذا قيمة". الذي أشاد به وعظم شأنه هم أتباعه وتلاميذه مثل الشيخ المفيد بينما تبنى الشريف المرتضى تلميذ الطوسي وأكبر مثقفي عصره في القرن الخامس الهجري، رأياً مخالفاً إذ وضع كتب الكليني من ضمن قائمة الكتب التي يجب عدم تداولها، متهماً إياه بفبركة أحاديث باطلة وبعيدة كل البعد عن الصحة إذا ما قورنت بمنطق العقل" ويستنتج الباحث من ذلك أن الكليني كان أحد الدجالين ممن يعج بهم الإسلام سنياً كان أم شيعياً. ويعتقد الشريف المرتضى أن الكليني يستمد مواقفه وآرائه من مدرسة قم التي تأخذ بمفهوم التجسيم الإلهي. وكان الشيخ الطوسي (ت 460/1068) هو الذي سلط الأضواء على كتاب الكليني الكافي في القرن الخامس الهجري. ويواصل الباحث فالح مهدي هجومه قائلاً:" ونظراً لأهمية هذا الرجل والدور الخبيث الذي لعبه سنقوم بتتبع ما كتبه هذا الرجل المريض". وبرأي الكاتب فإن كتاب الكافي لايحتاج لأكثر من سنة لتأليفه وليس ثلاثين عاماً كما يدعي أتباعه بهذا الادعاء الباطل وهذه هي الكذبة الأولى في تاريخ ذلك الكتاب. فنقد الفكر الشيعي يتمثل بنقد الأيديولوجية التي أتى بها هذا الرجل الخطير، ويعتقد بعض علماء الشيعة أنه تم عرض الكتاب على " القائم صاحب الزمان الإمام الثاني عشر المهدي" فاستحسنه وقال إنه " كاف لشيعتنا". ثم يغوص الباحث ليفند محتوى الكتاب بصبر وتفصيل دقيق، إذ أن فكرة عمودية سلطة الأئمة الإثني عشر وصعودهم إلى السماء وعصمتهم ومعرفتهم بالغيب وإتيانهم بالعجائب والمعجزات وتفوقهم من حيث النسب والعلم على كل الأنبياء عدا محمد، قد ورد في كتاب الكليني الكافي. لقد بنى الكليني ومن جاء من بعده الجزء الأعظم من رأسمالهم على أحاديث مقطوعة السند ومنسوبة في أغلبها للأئمة وخاصة الإمامين محمد الباقر و جعفر الصادق الذي نسب إليه حديث يقول:" نحن وشيعتنا من طينة خاصة" وهو حديث مشكوك في صحته ومبالغ فيه وفيه نفحة عنصرية. فلا يمكننا أن نفهم تلك الافتراءات والأكاذيب والمبالغات إلا بالرجوع إلى ثقافة القرن الرابع الهجري، ففي هذا القرن تمكن الكليني من هندسة الدائرة ( الإثني عشرية) وبنائها وتسويرها بأحاديث ورسائل وقصص وحكايات نسبت لآل البيت ومن ثم إلى الرسول لكي تكتمل حلقة الشرعية ، حسب استنتاج الباحث. فالكليني، والكلام للمؤلف، لم يتأثر بالزرادشتية، التي قامت ببناء أيديولوجيا على قدر كبير من العقلانية، بل قام ببناء نظام ودون وعي منه، قريب في بنيته من النظام الديني البابلي. هناك مردوخ زعيم الآلهة ومن حوله آلهة صغار. وعند الكليني هناك الله ومن حوله إثنا عشر إماماً صغيراً، معصومين من الخطأ، من طينة خاصة أرقى من كل الأنبياء عدا محمد (وهذا أمر بديهي فهم أحفاده) ويعلمون الغيب ولهم من العلم ما يفوق كل من سبقهم، بل إن الدنيا ستنتهي وتقوم القيامة بزعامة آخر أئمتهم القائم المهدي المنقذ، والذي سيكون من القوة والجبروت بأن يعلن الحرب على بني أمية ويسحقهم عن بكرة أبيهم، وهو من العظمة والرفعة بمكان حيث لا تسمح للسيد المسيح أن يقف جنبه بل خلفه". ثم يترجم الباحث مغزى ما ورد في كتاب الكليني الكافي:" باعتباره كتاب مؤسس" وعلى لسان الباقر وجعفر الصادق، على سبيل المثال، قريب من المفاهيم النازية التي أقامت صرحها على أسطورة تفوق " العنصر" الآري على كل الأجناس البشرية. وكلنا يعلم أن النازية كانت إحدى الحلقات الأكثر دموية التي أنتجها الحيز الدائري في القرن العشرين، هنا تتركز القداسة والرفعة في شخص الزعيم" الفوهرر".

وفي تأمله العميق في كتاب الكافي للكليني خصص الكاتب فصلاً تحت عنوان مثير " قمة الإبداع وقمة الخبث". قسم الكليني الكافي إلى خمسة عشر جزءاً. ليست هناك تسمية فصل إنما كل جزء هو كتاب قائم بذاته يحتوي على مادة أراد المؤلف معالجتها. وأطلق الكليني على كتابه الأول أو الجزء الأول من كتاب الكافي عنوان " كتاب العقل والجهل". نجد في الصفحة الأولى من كتاب العقل والجهل نقلاً عن ابي جعفر الصادق الحديث التالي:" لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: اقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك، ولاأكملتك إلى في من أحب"...وهنا نجد العقل منُة من الرب لنخبة منتقاة من عباده. فالعقل ليس ملكة وقدرة ذهنية تنمو بيولوجياً وتتطور بفضل التجارب والخبرات والقراءة الخ.. بل هدية من " رب" الكليني إلى من يختاره ذلك الرب من عباده. وفي الكتاب الثاني أو الجزء الثاني من الكافي يذكر الباحث حديثاً ذكره الكليني على لسان أبي عبد الله جعفر الصادق:" إن الله خلقنا فأحسن خلقنا، وصورنا فأحسن تصويرنا وجعلنا عينة على عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه.. وبعبادتنا عُبد الله، ولولا نحن ما عُبد الله". ويعلق الباحث فالح مهدي بالقول إننا لا زلنا في المجلد الأول من الكافي وفي باب العلم، إنما لو قرأت كل المجلدات ستصاب بالغثيان. فهذا الرجل (ويقصد به الكليني) يتنفس ويأكل ويشرب ويكتب سماً ويتحدث بلغة متعالية. معظم الأحاديث التي أوردها الكليني عارية عن الصحة بدرجة ان الشريف المرتضى، وهو من كبار مثقفي وفقهاء القرن الرابع الهجري، أعتبره من غير الموثوق بهم. ويورد الكليني حديثاً منسوباً للصادق " قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد". فهل القرآن الموجود بين أيدي المسلمين باطل؟ ولا يعلم بما موجود في قرآن فاطمة الذي أدعى الكليني وجوده، إلا الراسخون في الأوهام.

من المعلوم إن المرجعية الدينية الشيعية منقسمة بين المدرسة الإخبارية والمدرسة الأصولية، ويعتبر الكليني زعيم المدرسة الإخبارية وبجدارة. وقد ضمت هذه المدرسة فيما بعد أسماء معروفة في الوسط الشيعي مثل إبن بابويه القمي والمطهر الحلي والاسترابادي ونعمة الله الجزائري ومحمد باقر المجلسي مؤلف كتاب بحار الأنور الذي لايقل كارثية عن كتاب الكافي. وقد ذكر محقق الكتاب في مقدمته " ومن أغرب أقواله القول بأن الكافي بأجمعه قد شاهده صاحب الزمان واستحسنه، وأن كل ما وقع فيه بلفظ «روي" فهو مروي عن صاحب الزمان مباشرة وبلا واسطة، وأن جميع أخباره حق واجب العمل بها"...وفي مقابل المدرسة الإخبارية تقف المدرسة الأصولية التي يطلق أتباعها لقب الحشوية على الإخباريين وإظهارهم في صورة المعادين للعقل والداعين إلى الجمود ورفض الاجتهاد. ومن ابرز أعلام المدرسة الأصولية المفيد، والطوسي،والشريف المرتضى، والخوئي، والخميني ، والسيستاني الخ.. وعندما نمعن النظر نجد إن الخلافات عميقة بين المدرستين نظرياً خاصة حيال الموقف من إدعاء تحريف القرآن فقد اختلف الإخباريون والأصوليون في هذه المسألة على قولين: فقال جل الإخباريين وعدد من علماء الأصوليين بوقوع التحريف في القرآن زيادة أو نقصاناً، ونفى جماهير الأصوليين وقوع التحريف ويرون سلامة القرآن من اية زيادة أو نقص. كما توجد خلافات بخصوص حجية الأحاديث النبوية فالشيعة لايكتفون بالأحاديث الصادرة عن النبي بل يضيفون إليها كل ما صدر عن الأئمة المعصومين وهم الأئمة الإثني عشر، كما توجد اختلافات بين الإخباريين والأصوليين تتعلق بموثوقية الحديث. ويقول خصوم الكليني أنه ابتدع مايقارب الــ 16 ألف حديث. وفي كتاب " الإيمان والكفر" من المجلد الثالث، يقرر الكليني من هو المؤمن ومن هو الكافر ومن هو المرتد فاعتبر كل أصحاب محمد ممن لم يقر بولاية علي بن ابي طالب مرتدين والحال، وكما نعلم فإن الردة في الإسلام تتطلب إقامة الحد والقتل وسفك دم المرتد. وهذا ما قام به محمد باقر المجلسي في كتابه " بحار الأنوار (110 مجلد) حيث تم الرجوع إلى القرن الأول الهجري وإخراج أبي بكر وعمر من قبريهما وإعادة الحياة لهما ومن ثم يقوم الإمام المعصوم بعد عودته الميمونة بجلدهما وحرق جثتيهما إنما دون نهاية فالعملية مستمرة وتتكرر، وهذه عينة من العقل الخرافي الذي ساقه وروجه هؤلاء الكتاب على شاكلة الكليني والمجلسي وأمثالهما. ولقد نوه المرجع الديني الشيعي المعاصر، المعترض على مرجعيته من قبل الكثير من المراجع ورجال الدين الشيعة، كمال الحيدري إلى أن ( ماورد في الكافي، كتبه الكليني بما يعتقده ولم يستند إلى مصدر) لم يأخذ من السفراء الأربعة المعاصرين لصاحب الزمان القائم المهدي ولم يرو عنهم أية رواية علماً بأنهم عاشوا في نفس الفترة الزمنية التي عاش فيها هذا الرجل. بل وحتى مرجع شهير مثل أبو القاسم الخوئي (1899-1992) صاحب " معجم رجال الحديث" قال إن روايات الكتب الأربعة " غير قطعية الصدور" لا سيما وأن في رواة الكتب الأربعة من هو معروف بالكذب والوضع"..والمقصود بالكتب الأربعة التي رسمت مسيرة التشيع بدءاً من القرن الرابع الهجري هي:" الكافي للكليني، ومن لايحضره الفقيه لإبن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق، وتهذيب الأحكام ، والاستبصار فيما أختلف من الأخبار للشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة. وعبارة غير قطعية لاتعني باطلة إنما يجوز الأخذ بها أو عدم الأخذ بها. بهذا اختتم الباحث فالح مهدي النصف الأول من كتابه الثري هذا وخصص النصف الثاني لعملية التنظير والتقويم تحت عنوان لافت «الخروج من الجهل.. ملاحظات نهائية في عقد النص، الأوهام والذات المتورمة". حيث احتوى على مجموعة من الملاحظات والانطباعات والتأملات والتفكير في صيرورة التشيع على حد تعبير المؤلف.

يبحر الباحث كعادته وبتفاصيل معرفية مدهشة في قلب الاستراتيجية الإيرانية من الناحية التاريخية والمجتمعية والسياسية والفقهية والمذهبية حيث لم تكن المنطقة التي نطلق عليها اليوم تسمية إيران، شيعية في توجهها وسلوكياتها ونمط العيش والتفكير فيها. كانت هناك واحة صغيرة للتشيع موجودة في قم التي بقيت زرادشتية واسلمت مع الأشاعرة ممن هرب من الكوفة في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي وتشيعت هناك إلا أن الصفويين لم يلجأوا إلى تلك البؤرة الشيعية الصغيرة عندما فكروا بتحويل إيران الشافعية إلى إيران الإثني عشرية فقد جاؤوا برجال دين شيعة من جبل عامل في لبنان ومن البحرين والعراق المجلسي الأب والد محمد باقر المجلسي صاحب" بحار الأنوار". وجال المؤلف في أروقة الحوزات والسياسة الإيرانية منذ العهد الصفوي وتحويل إيران إلى التشيع  إلى يوم الناس هذا وظهور مفهوم " ولاية الفقيه المطلقة" على يد الخميني كولي أمر المسلمين والمرشد الأعلى الذي يشرف على السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية  ويقدم نفسه كنائب للإمام الغائب المنتظر فهو وكيله ونائبه وقائد الأمة في غيابه حتى ظهور وتسليم السلطة له.

أجمل ما في الكتاب نص جاء تحت عنوان " من هو الله؟" يقول الباحث فالح مهدي، حتى نفهم تسمية ّ ظل الله" سنحتاج إلى معرفة المسبب والخالق والموجود كي نتمكن من استيعاب عبارة " الظل". إن صعوبة التعريف تأتي من أن هذا المصطلح ينطوي على جوانب دينية ميتافيزيقية شديدة التنوع مما يؤدي إلى صعوبة التعريف. فالبعض يعتقد إن الله من العظمة مما يستعصي تعريفه، بل استحالة تعريفه بكلمات بشرية أو إنسانية. ولم تتردد الفلسفة عن أن تدلي بدلوها ومن زمن الإغريق في هذا الموضوع، وعندما نعود إلى حوارات أفلاطون في الجمهورية فسنجد مادة تستحق التأمل. ولم تتخل الفلسفة الحديثة عن موضوع الخلق بل تدخل العلم ايضاً في ذلك لاسيما الفيزياء وعلم اجتماع الأديان الخ..

ويواصل الباحث شرحه لهذا المفهوم يقول: " كل مايهمنا في هذا الحقل هو كيف عبر الإسلام الشيعي بصيغته الفارسية عن هذا الموضوع؟ كان القرآن واضحاً كل الوضوح في هذا الأمر فنجد في صورة الإخلاص " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" فهو لاتدركه الأبصار لأنه غير محدود وقد يعني ذلك من المستحيل إدراك جوهره. ومع ذلك لم يتردد القادة الصفويين والقاجاريين والبهلويين من اعتبار أنفسهم ظل الله، ولم يتورع رجال الدين وصف أنفسهم بآيات الله و " دام ظله الشريف" وهو نوع من تضخيم الذات والنرجسية وتجاوز عقدة الدونية. ويضرب أمثلة مستفيضة من علم النفس والمصابين بداء العظمة من ملوك وفنانين ومبدعين وشعراء ورجال دين. ولم يغفل الباحث عن أخذ مثال ساطع ومعبر عن عقدة النقص الفارسية وهو كتاب الشاهنامة للشاعر الفارسي أبا القاسم الفردوسي بغية فهم الانحراف الذي قاده الكليني ضمن الخلفية الثقافية التي أثرت على الرجلين الكليني والفردوسي. وتحوي الشاهنامة سيرة الملوك وأخبار ملوك فارس ومعاركهم وتاريخهم ورحلات صيدهم وسياساتهم حسب مؤلف الشاهنامة الذي ألف كتابه في 1010 أي بداية القرن الرابع الهجري وتتكون من 60 ألف بيت من الشعر وتروي أساطير وقصص ملحمية لاعلاقة لها بالتاريخ بل هي جزء من الذاكرة الجماعية، منذ بداية الخليقة حيث يختلق المؤلف حكايات بديلة عن عملية الخلق مغايرة لما ورد في سفر التكوين والعهد اليهودي القديم وينتهي هذا العمل مع انهيار الإمبراطورية الساسانية في القرن السابع من التقويم المعاصر. ويكرس الكاتب فالح مهدي صفحات طويلة للملاحم عبر التاريخ من جلجامش إلى اليوم. كما عرض الباحث صفحات طويلة تتحدث عن مغزى صور بعض الأئمة وشيوعها في الأوساط الشعبية الشيعية عن علي بن ابي طالب والحسين والعباس وسيف ذوالفقار وقصته الخرافية وخنجر أبي لؤلؤوة الذي اغتال به عمر بن الخطاب، الذي اعتبره العديد من الشيعة الرمز المطلق للشر، لأنه هو من انتصر على الإمبراطورية الساسانية لذلك خصص المجلسي حيزاً مهماً من كتابه بحار الأنوار لشتم عمر بن الخطاب واعتباره كافراً وخارج عن الإسلام ومرتد ومتسبب في وفاة فاطمة وفقدها لجنينها والسبب في ذلك هو اغتصابه للسلطة من علي بن أبي طالب.

يزخر الكتاب بكم هائل من المعلومات والمعارف وهو متخم بهذا الكم المعرفي الموسوعي التاريخي والفلسفي والديني والسياسي الذي لايمكن حصره وتلخيصه وقد صيغ بإتقان وكفاءة منقطعة النظير والخوض في مواضيع عن العلم والجهل والخرافة والعقل والعقيدة والإنسان والمنطق والحياة والموت والسياسة والتفرقة العنصرية وتاريخ الأديان والكفر والإيمان والجهل والمعرفة والجسد والروح. وبخصوص هذه الأخيرة تطرق الباحث إلى مفهوم الروح عند الكليني حيث سوئل أبا جعفر الصادق عن قول الله عز وجل ما معنى" روح منه" قال هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى وأضاف " سألت أبا عبد الله عن قوله تعالى ( ونفخت فيه من روحي) كيف يكون النفخ؟ فقال" إن الروح متحرك كالريح وإنما سمي روحاً لأنه أشتق أسمه من الرياح" والحال إنه لايوجد تعريف للروح في القرآن فعندما سؤل النبي عن الروح اكتفى بالقول " قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا". وهذا يقودنا كما يعتقد الباحث إلى أن المؤسسة الدينية الشيعية هي جزء من منظومة الجهل وعلى معرفة بآليات عمله وتتحكم فيه عن وعي مزيف وسوء نية فهي كباقي المؤسسات الدينية المسيحية واليهودية والسنية الإسلامية جزء لايتجزأ من عالم الجهل. بل هناك صناعة للجهل كما يقول الباحث تتبع روافدها عند الكليني والمجلسي والبخاري والسيستاني. ومن المفاصل المهمة في الجسد الفكري الشيعي سرديات الأحقية بالخلافة وتداعياتها على الكيان الإسلامي برمته ومذبحة الحسين وما أحاط بها من خرافات ومبالغات وحياكة مفهوم المظلومية الشيعية وشيوع روح الانتقام وفي نفس الوقت صياغة مفهوم المهدي المنتظر المنقذ والمنتقم في آخر الزمان وصناعة الأمل والانتظار الذي شكل العمود الفقري للمذهب الشيعي.

كان لابد للباحث فالح مهدي أن يتطرق وبشيء من الجرأة والصراحة لدور المرجعية الدينية التي اعتبرها معادية للشيعة في العراق والتوغل إلى دهاليزها المظلمة لأنه يعتبرها من المساهمين في دمار العراق الحالي وبحث في الآليات التي جعلتها بمثابة الآلة الجبارة أو الكائن الجبار الذي يقف ضد مصالح ووجود العراق ككيان ودولة  وأمة فهذه المؤسسة بنظر الكاتب تمثل رؤية القرون الوسطى بل العالم القديم .

وبالطبع فإن الكاتب على يقين أن هذه المؤسسة الدينية تأسست بعد غيبة الإمام الثاني عشر أي المهدي الذي ينتظر الشيعة رجوعه وقيامه، أي في القرن الرابع الهجري عام 329 القرن العاشر الميلادي. وكان الكليني هو الشخصية المحورية في تأسيس هذا الكيان تجنباً لإنهيار التشيع بعد وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري. كما تناول ناقداً مؤلفات محمد باقر الصدر باعتباره أحد المراجع وأحد أشهر شخصيات المرجعية الشيعية وعلاقة هذا الأخير بالنظام السابق الذي أعدمه في بداية الثمانينات بتهمة الخيانة العظمى والتخابر مع العدو الإيراني والتآمر على النظام. ثم   عرج الباحث على تنافس المرجعيات بين النجف وقم وفضح طموحات النظام الإيراني بالسيطرة على كافة المرجعيات الشيعية وتكريس الهوية الإيرانية في امتدادات جغرافية داخل العالم الشيعي. واستغلال قدسية بنت الرسول فاطمة التي نسب لها الكليني قرآناً لا مثيل له. أكتفي بهذا القدر من عرض محتويات كتاب في غاية الثراء والذخيرة المعرفية فهذا الكتاب عبارة عن سفر إيبستمولوجي مذهل ورحلة في تشعبات الفكر والثقافة والتاريخ والمعرفة لابد من قراءته، رغم أننا قد لانتفق في كل ماجاء فيه. يفتقد الكتاب إلى تناول المسحة العرفانية والصوفية التي اتسم بها جانب من الفكر الشيعي الباطني ésotérique  وكرس لها الباحث الفرنسي من أصل إيراني محمد علي أمير معزي عدة كتب منها الدليل الإلهي في التشيع الأصلي: في منابع الباطنية في الإسلام، وأخيراً كتاب الإمام علي الظاهر والباطن أو علي السر المحفوظ الذي يقدم صورة مغايرة تماماً للإمام علي عما قدمه الكليني  ومراجع الشيعة، وكذلك الفكر الباطني عند الإسماعيليين الذي تحدث عنه المستشرق الفرنسي هنري كوربان .

 

د. جواد بشارة

 

في المثقف اليوم