قراءة في كتاب

كاميليا الورداني: ثقافة التواصل في السياق الملَكي

(قراءة تواصلية في كتاب "التاج في أخلاق الملوك" للجاحظ)

بيانات الكتاب: أبو عثمان الجاحظ: "التاج في أخلاق الملوك"، تحقيق: إبراهيم الزين و أديب عارف الزين، دار الفكر ودار البحار، بيروت ـ لبنان، 1375ه/1955م.

المحتويات:

1ـ المتكلم/المخاطَبُ بوصفه مَلِكا

2ـ المسافة والمكان في السياق المَــلَكي

3ـ الهيئة والمقام الملكي

4ـ لغة الملك: الإشارة والرمز

5ـ الرسالة الملكية وشروطها: (سلامة القناة التواصلية)

6ـ سيكولوجية الملك: لغة الجسد في الغضب والرضى

**

لكل مقام "حقـوق"

بكل ما للتواصل من أشكال وشروط وتجليات، يأتي هذا الكتاب في مجمله عرضا لبنود دستور التواصل، ولكن بخصوصية يفرضها السياق الملكي؛ إذ يعد كتاب "التاج في أخلاق الملوك" أضمومة تستعرض ما يمكن الاصطلاح عليه بعبارة "حقوق الملوك"؛ فعبارة "من حق الملك" تكاد تكون لازمة الكتاب لتكرارها مرات في كل باب من الأبواب.

يهم الأمر إذن في هذا السياق قراءة التراث التواصلي عند الملوك في مختلف المشارب والثقافات (فارسية، عربية، يونانية...) وهي حقوق من الطبيعي أنها توازي في رفعتها رفعة شأن الملوك وحظوتهم من دون العامة من الناس. وفيما يأتي محاولة بسيطة لجرد بعض هذه الإشارات التواصلية في هذا الكتاب:

1ـ المتكلم/ المخاطَب بوصفه ملكا

يحظى الملك باعتبارات خاصة تجعله محفوفا بالتبجيل والتعظيم في مختلف الثقافات. حتى أن البعض أعطى الحق للملك ـ إن أمكنه ذلك ـ أن يتفرد بالماء والهواء! أي أن لا يشرك فيهما أحدا.

وتتجلى هذه الاعتبارات الخاصة في كتاب "التاج في أخلاق الملوك"، في كون الجاحظ بسط في كل أبواب الكتاب مواقف الملوك والحاشية والعامة من الناس، والتي هي مواقف تصور باللغة البصرية قبل المنطوقة التمثلات المتبناة تجاه مكانة الملوك الرفيعة القدر. ومن بين هذه المواقف ـ مثلا:

ـ حسن الاستماع للملك

في هذه الخاصية التي يحظى بها الملك يتجلى حصول التماهي الكلي بكل الجوارح، والانسجام التام في عملية التواصل معه بما يشبه حالة التخدر، مثال ذلك: ما حدث للملك "انوشروان" مع أحد حاشيته، بانسجامه "الخاشع" مع كلام الملك، حتى أغفل النظر الى موطئ دابته على شط النهر، مما جعل الدابة تنحرف وتوقعه في الماء.

وكذا في مسايرة معاوية بن ابي سفيان ليزيد بن شجرة، حيث صك وجه يزيد حجر فأدماه، وجعلت الدماء تسيل من وجهه على ثوبه، ولم يمسحها. فقال له معاوية: لله انت!

ما ترى ما نزل بك؟ قال: وما ذاك، يا امير المؤمنين؟ قال: هذا دم وجهك يسيل على ثوبك! قال: "(...) إن لم يكن حديث أمير المؤمنين ألهاني حتى غمر فكري، وغطى على قلبي، فما شعرت بشيء حتى نبهني أمير المؤمنين.

ومثال آخر: أنه حكي عن أبي بكر الهذلي انه بينما هو يسامر ابا العباس، اذ تحدث ابو العباس بحديث من احاديث الفرس، فعصفت الريح، فأذرت طسا من سطح إلى مجلس ابي العباس، فارتاع ومن حضره، ولم يتحرك ابو بكر لذلك، ولم تزل عينه متطلعة لعين ابي العباس. فقال له ما اعجب شأنك، يا هذلي! لم ترع مما راعنا.

قال: يا امير المؤمنين، إن الله عز وجل يقول: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وإنما للمرء قلب واحد، فلما غمره السرور بمحادثة أمير المؤمنين، لم يكن فيه لحادث مجال. (...) هذه كرامة خصصت بها، مال إليها ذهني، وشغل بها فكري. فلو انقلبت الخضراء على الغبراء ما احسست بها ولا وجمت لها إلا بما يلزمني في نفسي لأمير المؤمنين.

وفي حسن الاستماع إلى الملك كان عبد الله بن عياش المنتوف يقول: لم يقترب العامة الى الملوك بمثل الطاعة، ولا العبيد بمثل الخدمة، ولا البطانة بمثل حسن الاستماع. وقال اخر: إن أردت أن يمكنك الملك من أذنه، فأمكن أذنك من الإصغاء إليه إذا حدث.

والجاحظ يرى في حسن الاستماع إلى الملك خلقا رفيعا، بل أكثر قوله: "ان كان السامع يعرف الحديث الذي يتحدث به الملك، فوجب على السامع ان يتظاهر بانه يسمع الحديث هذا لاول مرة ويبدي السرور والاستبشار؛ وذلك لسببين:

1 اظهار حسن الادب في ذاته؛

2 اعطاء الملك حقه من حسن الاستماع ".

- وفي هذا يظهر الأثر الجليل لحسن الاستماع في إنجاح عملية التواصل، وليس الأمر مقتصرا فقط في سياق التواصل مع الملوك، فقد قيل في حسن الاستماع قديما: "ما غلبني احد قط غلبة رجل يصغي إلى حديثي".

لكل مقام "اعتبارات"

بالموازاة مع "حقوق" الملك، يصور كتاب التاج أحوالا لاعتبارات ينفرد بها الملوك دون سواهم من الناس، ومن هذه الاعتبارات تُذكر هذه الأمثلة:

ـ في سياق مسايرة الملك فإن على الدابة ألا تقضي حاجة ولا تبدي جماحا ولا محاذاة لدابة الملك. فذلك يدل على سخف صاحبها، واخلال بسياق التواصل مع الملك.

ـ الضحك في حضرة الملك او من كلامه وقاحة وجرأة عليه.

ـ في سياق الجلوس الى مائدة الملك سياق الاكل يحترم الملك بعدم الجرؤة عليه وكثرة الحركة لأن في هذا اخلالا بالسياق/ المقام. ويدل على قلة الاداب والأخلاق والشره والطمع في الملك. توقير الملك في الاكل.

ـ عدم الانصراف في حضرة الملك الا لقضاء حاجة.

ـ وعلى المحدث للملك ألا يجعل في كلامه، وأن يدمج ألفاظه، ولا يشير بيده، ولا يحرك رأسه، ولا يزحف من مجلسه، ولا يراوح بين قعدته، ولا يرفع صوته، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا، ولا يقبل على غير الملك بملاحظته، ولا يكون غرضه أن يسمع حديثه أو يفهم عنه سواه.

ـ تعظيم شأن الملك في الدخول عليه، والامتثال لحركاته والطاعة والاعتبار لحضوره بالحركات والسكنات

ـ إغضاء البصر وخفض الصوت بحضرة الملك.

ـ عدم رفع الطرف الى الملك اعظاما واكراما وتبجيلا وتوقيرا، ولا يعجب السامع لعجب الملك. وبدل ذلك، فليكن غرضه الاطراق والصمت وقلة الحركة. عدم رفع الصوت في حضرته؛ لان من تعظيم الملك وتبجيله، خفض الأصوات بحضرته.

ـ كانت ملوك الاعاجم تقول: إن حرمة مجلس الملك، إذا غاب، كحرمته إذا حضر. وكان لها عيون على مجالسها، إذا غابت عنها. فمن حضرها، فكان في كلامه وإشارته وقلة حركته وحسن ألفاظه وآدابه ـ حتى أنفاسه ـ على مثل ما يكون إذا حضر الملك، سمي ذا وجه، ومن خالف أخلاقه وشيمه، وظهر منه خلاف ما يظهره بحضرة الملك، سمي ذا وجهين، وكان عند الملك منقوصا متصنعا.

2ـ المسافة والمكان في السياق الملكي:

تلعب المسافة وتأثيث الفضاء المكاني دورا كبيرا في توجيه التواصل ورسم غاياته، وفي كتاب "التاج" نلمس هذه الخاصية التواصلية واضحة في كثير من المواضع، ويمكن جرد أهمها فيا يأتي:

ـ الملك اذا قام للصلاة، فمن حقه ان يكون بينه وبين من يصلي خلفه عشرة اذرع.

الستارة والفصل الطبقي

ـ حسب الملوك الأعاجم، فإن الطبقة الحاكمة تخضع لتقسيم ثلاثي بثلاث مراتب، وبين كل طبقة وأخرى ستارة تفصل الطبقة عن التي تليها في الميزان التراتبي؛ أما هذه الطبقات الثلاث فهي على التوالي:

1ـ الاساورة وابناء الملوك، ومجلسها من الملك عشرة اذرع من الستارة.

2ـ حماة وحراس الملك وندماؤه ومحدثوه من اهل الشرف والعلم، ومجلسها من الاولى على عشرة اذرع.

3ـ المضحكون واهل الهزل والبطالة، ومجلسهم على عشرة اذرع من الثانية.

- والستارة في هذا السياق تلعب دور الحاجز "الطبقي"، والطبقية نفسها تلعب دور المحدد التواصلي حسن درجة قربها من مجلس الملك، فالمسافة بين الملك وكل طبقة انما تدل على درجة التواصل الحاصل بين هذه الطبقة والملك.

الستارة والملك: بين سُنَّة الاحتجاب وغواية كسرها

يعد إفساد المراتب مما يعاب عليه الملك ويدل على سخفه وقلة حكمته؛ إذ إن بعض الخلفاء من بني امية كانت بينهم وبين المغنين والندماء ستارة فاصلة عليها حارس. والخلفاء الاخرون كانوا يظهرون على الندماء والمغنين بدون ستارة، حيث تكسر  الحواجز بين الطرفين، إلى الدرجة التي كان الملوك أحيانا يكشفون عن مجونهم ويظهرون عراة راقصين!

وفي عهد العباسيين، فإن أبا جعفر المنصور لم يكن يظهر لنديم قط، ولا رآه يشرب غير الماء. كان بينه وبين الستارة عشرون ذراعا، وبين الستارة والندماء مثلها.

أما المهدي، فقد كان يحتجب عن الندماء في اول أمره، متشبها بالمنصور حوالي سنة. ثم ظهر لهم. فأشار عليه أبو عون بأن يحتجب عنهم، فقال: إليك عني، يا جاهل! إنما اللذة في مشاهدة السرور وفي دنوي من سرني. فأما من وراء وراء، فما خيرها ولذتها؟

ومثله كان الخليفة الأمين المخلوع الذي يقول عنه اسحق للجاحظ: "ما كان أعجب أمره كله! فأما تبذله، فما كان يبالي أين قعد، ومع من قعد [بمعنى كان يتصرف بعفوية]، وكان، لو كان بينه وبين ندمائه مائة حجاب، خرقها كلها، وألقاها عن وجهه، حتى يقعد حيث قعدوا. وكان من أعطى الخلق لذهب وفضة، وأنهبهم للأموال إذا طرب أو لها.

والخليفة المأمون بعد تنصيبه خليفة اقام عشرين شهرا لم يسمع حرفا من الغناء. ثم كان يسمع الغناء من وراء حجاب، متشبها بهارون الرشيد. فكان كذلك سبع سنين ثم ظهر للندماء والمغنين وكان يحب السماع ظاهرا بعينه.

كما أنه يحكى عن المهدي انه كان لا يجعل بينه وبين الحاشية حاجزا؛ وحجته في ذلك قوله: "ولو لم يكن في الظهور للندماء والإخوان إلا أني أعطيتهم من السرور بمشاهدتي مثل الذي يعطونني من فوائدهم، لجعلت لهم في ذلك حظا موفرا".  فكأن الظهور للندماء ـ بهذا المعنى ـ تغذية راجعة يكافئ بها الملك/الخليفة ندماءه مقابل جميل ما بدر منهم.

3ـ الهيئة والتواصل الملكي

من أخلاق الملوك تفردهم بهيئة تميزهم عن غيرهم من الحاشية والعامة، وهي خطاب حسي تشترك فيه الحواس لإيصال رسالة مفادها أن هذه الهيئة تمثل الملك وحده، ولا يحق لأحد إشراكه في هيئته أو التشبه به. وقد أورد الجاحظ في كتابه مواقف في غير موضع تفيد هذا الصدد:

تطيب الملك وتجمله:من أهم ما يميز هيئة الملك أنه لا يشركه أحد في طيبه ولباسه وألوانه[1] أو ما شابه ذلك؛ فإن البهاء والعز والأبهة في التفرد. والخروج على هذا العرف إنما هو رسالة رمزية/ إشارة تفيد الاعتداء على حرمة الملك والخروج عن طاعته والتجبر عليه ومحاولة مزاحمته او الانقلاب عليه وتهديده في حكمه.

أمثله عن ذلك:

ابو أحيحة سعيد بن العاص: كان اذا اعتم بمكة، لم يعتم أحد بعمة ما دامت على رأسه. وهذا الحجاج بن يوسف؛ كان إذا وضع على رأسه طويلة، لم يجترئ أحد من خلق الله أن يدخل، وعلى رأسه مثلها. وهذا عبد الملك بن مروان؛ كان إذا لبس الخف الأصفر، لم يلبس أحد من الخلق خفا أصفر حتى ينزعه. وهذا ابراهيم بن المهدي، دخل على احمد بن ابي داود بن علي، وعليه مبطنة ملونة من احسن ثوب في الارض، وقد اعتم على رأسه (...) وعليه خف أصفر، وفي يده عكازة آبنوس ملوح بذهب، وفي أصبعه ياقوت تضيء يده منه. فنظر إلى هيئة ملت قلبه، وكان جسيما، فقال: يا إبراهيم! لقد جئتني في لبسة وهيئة ما تصلح إلا لواحد من الخلق. (أي للملك وحده).

4ـ لغة الملك: الإشارة والرمز

تتخذ لغة الملك أنماطا وآليات تواصلية كثيرة، غير أن أقلها استعمالا عند الملك هو النمط المنطوق، ذلك لأن الملك لا يتحدث متكلما بقدر ما يتحدث مشيرا ورامزا بالصوت والصورة وأبعد من ذلك. وفي كتاب "التاج في أخلاق الملوك"، يولي الجاحظ أهمية بالغة لتصوير هذا الجانب الاشاري الرامز في أخلاق الملوك. فإفهام القول وحصول فهمه بالإشارة والرمز في مجالس الملوك مع حرسه وحاشيته فضيلة يضرب بها المثل.

الإشارة بالبصر: (الفطنة والنباهة)

قال سعيد بن سلم الباهلي لأمير المؤمنين المأمون: لو لم أشكر الله الا على حسن ما ابلاني امير المؤمنين من قصده الي بالحديث، وإشارته إلي بطرفه.

فرد عليه الخليفة المأمون: لأن امير المؤمنين، والله، يجد عندك من حسن الإفهام إذا تحدثت، وحسن الفهم إذا حدثت، ما لم يجده عند احد فيما مضى، ولا يظن انه يجده فيما بقي.

أما الملك انوشروان فكان مسيره دائما في المقدمة لا يسايره احد من الخلق. واهل المراتب العالية من حاشيته خلف ظهره على مراتبهم. فان التفت يمينا تكون اشارة لرئيس الحرس تعني ان الملك يطلبه. وان التفت شمالا تكون اشارة للموبذ فيطلب منه احضار من اراد مسايرته.

واذا تحرك الملك للقيام يفهم الحراس والحاشية أنه عليهم أن يسبقوه،  فإن أشار إليهم بألا يبرحوا لا يقعدون حتى يتوارى عن اعينهم. فإذا خرج، يجب ان يجدهم قياما اذا نظر اليهم، واذا قعد كانوا قياما حتى ينظر اليهم الملك، والنظر اليهم وهم قيام يفيد الامر بالقعود اشارة دون اللفظ. ولا يقعدون دفعة واحدة، بل تقعد الطبقة الاولى ابتداء من رأسها حتى اخره، ثم على هذه الشاكلة الطبقة الثانية فالثالثة.

كما يجدر على من حظي بشرف مؤاكلة الملك ألا ينظر إلى الملك إذا أكل، فالنظر إليه في هذا السياق يعد احتقارا وتبذلا في الخلق.

واذا فرغ المتحدث من حديثه فليس من حقه ان يصله بحديث اخر، وان كان شبيها بالحديث الاول. حتى يرى أن الملك قد أقبل عليه بوجهه، وأصغى إلى حديثه. (...) وإن انقطع فنظر إليه، فقد أذن له في إتمامه وإعادته.

ـ أمارات ملكية تعطي الاشارة بمغادرة مجلسه:

اذا تثاءب الملك أو ألقى المروحة أو مد رجليه أو تمطى أو اتكأ أو كان في حال فصار إلى غيرها مما يدل على كسله أو وقت قيامه، أن يقوم كل من حضره.

أمثلة عن اشارات الملوك ايذانا بقيام سمارهم:

كان "يستاسف" إذا دلك عينيه، قام من حضره.

(...)

كان بهرام جور اذا قال: خرم خفتار، قام سماره.

كان قباذ اذا رفع رأسه إلى السماء، قام سماره.

كان سابور اذا قال: حسبك يا انسان، قام سماره.

كان انوشروان اذا قال: قرت أعينكم، قام سماره.

كان عمر بن الخطاب اذا قال: الصلاة، قام سماه. وكان ينهى عن السمر بعد صلاة العشاء.

وكان عثمان اذا قال: العزة لله! قام سماره.

كان معاوية اذا قال: ذهب الليل! قام سماره ومن حضره.

كان عبد الملك إذا ألقى المخصرة، قام من حضره.

وكان الوليد إذا قال: أستودعكم الله، قام من حضره.

كان الهادي إذا قال: سلام عليكم! قام من حضره.

كان الرشيد إذا قال: سبحانك اللهم وبحمدك! قام سماره.

كان المعتصم إذا نظر إلى صاحب النعل، قام من حضره.

كان الواثق اذا مس عارضيه، وتثاءب، قام سماره.

كان المأمون اذا استلقى على فراشه، قام من حضره. 

5ـ الرسالة الملكية وشروطها (سلامة القناة التواصلية)

السياق الملكي يجعل للرسالة شأنا عظيما فمكان المرسل والمتلقي يجعلها محفوفة بالتبجيل، ومن شأنها ان تسبب الهوان للمملكة إن شابها أصغر الخلل، وبالتالي فهي تستدعي الكثير من الحيطة والحذر والاهتمام.

فرسول الملك يشترط فيه الصدق وصحة البيان والعبارة، وأن يكون بصيرا بمخارج الكلام وأجوبته، مؤيدا لألفاظ الملك ومعانيها، صدوق اللهجة. فهو قناة تواصلية يجب ان تتفق كلماته مع كلمات الملك، التي هي أمانة في عنقه تحمله مسؤولية أمن وسلامة المملكة.

كان اردشير بن بابك يقول: "كم دم قد سفكه الرسول بغير حله! وكم من جيوش قد قتلت، وعساكر قد هزمت، وحرمة قد انتهكت، ومال قد انتهب، وعهد قد نقض بخيانة الرسول وأكاذيبه!"

الاخلال بالرسالة

يذكر الجاحظ حادثة تاريخية مفادها أن الاسكندر وجه  رسولا إلى بعض ملوك الشرق، فجاءه برسالة شك في حرف منها فقال له الاسكندر: ويلك! إن الملوك لا تخلو من مقوم مسدد، إذا مالت. وقد جئتني برسالة صحيحة الألفاظ، بينة العبارة؛ غير أن فيها حرفا ينقضها؛ أفعلى يقين أنت من هذا الحرف أم شاك فيه؟ فقال الرسول: بل على يقين أنه قاله. فأمر الاسكندر أن تكتب ألفاظه حرفا حرفا، ويعاد إلى الملك مع رسول آخر، فيقرأ عليه ويترجم له. فلما قرئ الكتاب على الملك، فمر بذلك الحرف، أنكره فقال للمترجم: ضع [يدك] على هذا الحرف فوضعها. فأمر أن يقطع ذلك الحرف بسكينة، فقطع من الكتاب. وكتب إلى الاسكندر: إن رأس المملكة صحة فطرة الملك، ورأس الملك صدق لهجة رسوله، إذ كان عن لسانه ينطق، وإلى أذنه يؤدي. وقد قطعت بسكينتي ما لم يكن من كلامي، إذ لم أجد إلى قطع لسان رسولك سبيلا.

فلما جاء الرسول بهذا إلى الاسكندر، دعا الرسول الأول، فقال: ما حملك على كلمة أردت بها فساد ملكين؟ فأقر الرسول أن ذلك كان لتقصير رآه من الموجه إليه. فقال الاسكندر: فأراك لنفسك لسعيت، لا لنا! فلما فاتك بعض ما أملت، جعلت ذلك ثأرا في الأنفس الخطيرة الرفيعة! فأمر بلسانه، فنزع من قفاه!

6ـ سيكولوجية التواصل الملكي:  لغة الجسد في الغضب والرضى

من جملة المحددات لنجاح أي عملية تواصل الدراية الكاملة بطباع المخاطب وحاله، تفاديا لحصول أي حوادث تواصلية. وهذه الدراية بحال المخاطب هي في صميم الاهتمام بسيكولوجية المخاطَب. غير أنه حينما يتعلق الأمر بالملك فإن الوضع يختلف لاختلاف السياق والمقام كليا عما سواه من المتواصلين.

وفي كتاب "التاج في أخلاق الملوك"، نلمس خصوصية سيكولوجية الملك في كل جانب من الكتاب، غير أنه يسعفنا جانب منه للحديث عن ثنائية سيكولوجية بارزة في شخصية الملك، وهي ثنائية "الغضب/ الرضى" وما يرافق ذلك من لغة الجسد؛ ومثال على هذا:

مصالحة هارون الرشيد لأحد حاشيته بعد أن غضب عليه والذي كان هو عبد الله بن مالك الخزاعي: حين ارسل محمد بن ابراهيم الهاشمي ليتوسط له في امره مع الخليفة ويعتذر له. فلما سمع الخليفة كلام محمد بن ابراهيم «أطرق الرشيد مليا مفكرا؛ وجعل محمد يلحظه، ووجهه يسفر ويشرق حتى زال ما وجده. وكان قد حال لونه حين دخل عليه؛ ثم رفع رأسه فقال: أحسبه صادقا، يا محمد؛ فمره بالرواح إلى الباب. قال: وأكون معه، يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. فانصرف محمد إلى عبد الله، فبشره بجميل أمره، وأمره بالركوب رواحا، فدخلا جميعا؛ فلما بصر عبد الله بالرشيد، انحرف نحو القبلة، فخر ساجدا، ثم رفع رأسه، فاستدناه الرشيد، فدنا وعيناه تهملان. فأكب عليه، فقبل رجليه وبساطه وموطئ قدميه، ثم طلب أن يأذن له في الاعتذار. فقال: ما بك حاجة إلى أن تعتذر، إذ عرفت عذرك. قال: فكان عبد الله، بعد، إذ دخل على الرشيد، رأى فيه بعض الإعراض والانقباض. فشكا ذلك إلى محمد بن إبراهيم، فقال: يا أمير المؤمنين! إن عبد الله يشكو أثرا باقيا من تلك النبوة التي كانت من أمير المؤمنين، ويسأل الزيادة في بسطه له. فقال الرشيد:

يا محمد! إنا معشر الملوك، إذا غضبنا على أحد من بطانتنا، ثم رضينا عنه بعد ذلك، بقي لتلك الغضبة أثر لا يخرجه ليل ولا نهار»!

 كاميليا الورداني - باحثة من المغرب

..................

الهوامش:

[1]ـ قديما في أوروبا كان اللون البنفسجي ـ مثلا ـ حكرا على الملوك، وكان لا يجرؤ أحد على ارتداء ثوب باللون البنفسجي، وإلا يكون مصيره الموت المؤكد. وإلى يومنا يمكن أن نجد ضمن طرق تسويق المنتوجات الفاخرة أن يتم إضفاء اللون البنفسجي على ملصق الدعاية لمجوهرات أو أغلفة عطور أو أثاث...إلخ.

 

في المثقف اليوم