قراءة في كتاب

الإسلام وأصول الحكم".. كيف رفض علي عبد الرازق فكرة الخلافة ودعا إلى مدنية الدولة؟

3604 الاسلام واسول الحكم علي عبد الرازققليلة هي الكتب التي غيرت مجرى التاريخ، وقليلون هم الكتاب الذين أطلوا على الدنيا بكتب زاحمت الساسة والقادة العسكريين في كتابة التاريخ، منهم من قضى عمره يكتب حتى بلغ صوته مسامع الناس، ومنهم من كتب كتابا واحدا ملأ الدنيا ضجيجا، وكان أحد هؤلاء الشيخ علي عبدالرازق.

فما إن تذكر اسم الشيخ علي عبدالرازق في أي محرك بحث حديث، أو ربما في حديث مع صديق مثقف على المقهى، إلا ويبرز عنوان كتابه الأهم "الإسلام وأصول الحكم"، الذي صدر في 1925، وقد أحدث ضجة كبيرة في مصر، بل في الوطن العربي كله، وذلك بسبب رفضه لفكرة الخلافة والدعوة إلى مدنية الدولة.

وقد جاء الكتاب في ظروف اجتماعية وسياسية مهمة فبعدما تخلى مصطفى كمال أتاتورك عن "الخلافة" في سنة 1924 وأصبحت تركيا دولة لا علاقة لها بالعالم الإسلامي في الشرق اشتعل الصراع بين الباحثين عن الخلافة في الحجاز ومصر، لذا رأى على عبد الرازق أن الخلافة ليست أصلا من أصول الدين فلا داعى لوجود خليفة.

ورأى الكتاب أن الخلافة طرأت على الإسلام في عصور متأخرة، وأن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لم يتطرقا لموضوعها وأن اتفاق المسلمين لم ينعقد قط على خليفة، كذلك رأى الكتاب أن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات إنما هو شرع ديني خالص لله ولمصلحة البشر الدينية لا غير.

والكتاب ضرب مباشرة العمود الفقري للدعوة التي يتبناها الملوك والسلاطين، ألا وهو الجانب الديني؛ ففي حين كان رجال الدين يقنعون الناس بأن الإمامة ركن من أركان الإسلام، خرج عبد الرازق بغير ذلك.

وقد ذهب الشيخ علي عبد الرازق ، بالآيات والأحاديث، إلى أن الإمامة لم تكن أبدا ركنا من أركان الإسلام، إنما هي أضيفت بعد ذلك في مذهب بعض الفرق الشيعية لغرض سياسي،  وعلي عبد الرازق شرح التاريخ بمبضع جراح، فتناول صلب الدولة الإسلامية، ومنشأها، أي فترة حكم النبي للمدينة، وفترة خلافة أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، ليؤكد على أن النبي إنما كان يسير أمور الناس بصفته نبيا، وليس بصفته حاكما.

كما يذهب علي عبد الرازق إلى أن حكومة أبو بكر الصديق كانت حكومة مدنية، ولم تستند أبدا إلى سلطة دينية، ذلك أن الوحي كان قد انقطع، ولم يرد في الكتاب أو السنة وصف لماهية الدولة وكيفية تسييرها، والكتاب أثار بلبلة كبيرة في الشارع الإسلامي، بعد أن كانت الشعوب الإسلامية على وشك التوحد خلف دعوات رجال الدين، وبدأ الكثيرون في تبني رأي عبدالرازق وترويجه، حتى بات مؤكدًا أن الأمل الذي وهبه أتاتورك للملوك المسلمين بخلافة عبدالحميد الثاني، قد بدده علي عبد الرازق.

ولا عجب في أن صدور الكتاب كان متزامناً مع صدور دعوى حسن البنا لتأسيس جماعته التي أسهب في وصفها كدعوة دينية وجماعة رياضية، وهى الإخوان  المسلمون، والتي بانت نواياها ربما في وقت مبكر من تأسيسها، وتحديداً في فكرة رغبتها في الحكم.

إذن، فكرة الكتاب المذكور "الإسلام وأصول الحكم"، كان منافياً لدعوة البنا ورغبة جماعته، وعلى الرغم من ذلك، فإن الكتاب أدى إلى معارك سياسية ودينية كبيرة، الأمر الذى دفع هيئة كبار العلماء في الأزهر إلى محاكمة علي عبدالرازق، لأنه أحد شيوخه، وأخرجته من زمرة العلماء، وفصلته من العمل كقاضٍ شرعي، فيما تلقى الكتاب الكثير من النقد ودافع عنه بعض المفكرين، ويقول البعض- استنادًا على شهادة بعض الشيوخ- أن المؤلف رجع عما جاء في كتابه في آخر أيام حياته.

وقبل الخوض في مسألة المحاكمة، لا بد من معرفة الشيخ الذي كتب الكتاب نفسه، وهو علي عبدالرازق المولود في قرية أبو جرج بمحافظة المنيا في أسرة ثرية تملك سبعة آلاف فدان، حفظ القرآن في كتاب القرية، ثم ذهب إلى الأزهر؛ حيث حصل على درجة العالمية، وسافر إلى إنجلترا ودرس السياسة والاقتصاد في جامعة أوكسفورد، وعاد إلى مصر بعدما قامت الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، اشتغل في القضاء في المحاكم الشرعية.

ولكن لم تمر هذه الأزمة مرور الكرام على الشيخ على عبد الرازق، فقد أصاب الرجل الكثير من السهام الغادرة التي لم تراع حق الاجتهاد في الإسلام، ولم تحسن الظن بعالم مسلم جليل، وآثرت أن تنحاز إلى ذهب السلطان وسيفه على الحق والعدل، وباعت العلم بدنانير السلطان، فقامت هيئة كبار العلماء في الأزهر بمحاكمة الشيخ على عبد الرازق، ووجهت الهيئة سبع تهم تتهم الكتاب بالضلال، حيث قالت إن الكتاب تسبب في جعل الدين لا يمنع من أن جهاد النبي كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة للعالمين، واعتبار نظام الحكم في عهد النبي موضوع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبًا للحيرة، واعتبار مهمة النبي كانت بلاغًا للشريعة مجردة عن الحكم والتنفيذ، وإنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وأنه لابد للأمة ممن يقوم بأمورها في الدين والدنيا، وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية، واعتبار حكومة أبى بكر والخلفاء الراشدين من بعده كانت لا دينية.

ورأى الأزهر في الكتاب خروجا عن حد المعتقدات لذا حاكم على عبد الرازق أمام هيئة كبار العلماء الأزهريين وأخرجه من زمرتهم، وتم فصله من القضاء، وحدث خلاف بين عبد العزيز فهمى باشا وزير الحقانية ورئيس حزب الأحرار الدستوريين، ويحيى إبراهيم باشا رئيس الوزراء بالنيابة ورئيس حزب الاتحاد، فرأى الأول أن ما ذهب اليه الشيخ عبد الرازق خطأ في رأى ديني قد لا يستلزم إخراجه من وظيفته القضائية وأن هيئة كبار العلماء غير مختصة بالنظر في مثل هذا الحال، أما الثاني فيرى رأى هيئة كبار العلماء في أنه أخطأ في رأى ديني يبعده عن منصة القضاء الشرعي.

وهاجمت الصحف الشيخ على عبد الرازق، ومنها البلاغ والأهرام والمقطم ومجلة المنار، التي اتهم صاحبها محمد رشيد رضا المؤلف بالزندقة والإلحاد ووصفه الشيخ محمد قنديل في البلاغ بأنه نار محرقة وأنه ترديد لسياسة الكماليين في تركيا، وفى المقابل تصدى أنصار حرية الفكر للدفاع عن الكتاب وعن حرية التفكير والرأي المكفولة في الدستور وأبرزهم عباس العقاد وسلامة موسى وأحمد حافظ عوض ومنصور فهمى.

وكانت أغرب الاتهامات ما  قال به الشيخ أحمد حسن مسلم عضو مجمع البحوث الإسلامية في 1989 أعلن أن الشيخ على عبد الرازق أخبره بأن المؤلف الحقيقي للكتاب هو طه حسين وليس على عبد الرازق.

وبعد الغضب الأزهري "الملكى" منه بسبب كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وإخراجه من المؤسسة الدينية، تولى الشيخ مصطفى عبدالرازق باشا (شقيقه)، مشيخة الأزهر، سنة 1945 ما فتح باباً جديداً لإعادته من جديد إلى المؤسسة الدينية الأولى في الشرق الأوسط.

ولهذا علي عبد الرازق أعاد شقيقه إلى زمرة العلماء من جديد، ثم عُين وزيراً للأوقاف لمدة أشهر (بين 28 ديسمبر سنة 1948 و25 يوليو سنة 1949) في وزارة إبراهيم عبد الهادى، كما شغل عضوية مجلس النواب، ومجلس الشيوخ، وعين كذلك عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة.

توليه هذه المناصب يشير إلى إمكانية تصديق رواية الشيخ محمد الغزالي الذى قال في الجزء الثالث من كتابه "الحق المر" إن عبدالرازق تراجع عن كل ما قاله في كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، والمعنى أنه ربما تراجع في مقابل إعادته إلى الواجهة مرة أخرى.

والتراجع كان بسبب دخول القصر الملكي في مصر على خط المواجهة بين الأزهر والشيخ علي، إذ يرى البعض أن الملك فؤاد الأول هو من طلب من الأزهر محاكمة علي عبدالرازق ومصادرة الكتاب، لكي يضمن استمرار خطته في عودة الخلافة بعد انتهائها في تركيا، ووجهت الهيئة سبع تهم تتهم الكتاب بالضلال.

ولم يتوقع علي عبدالرازق كل هذه التهم التي أخرجته من الأزهر، ولكن شخصاً بعقليته المتفتحة المشاغبة لم يتقبلها، فدافع عنها واعتبر أن الحكم باطل، ويخالف الدستور الذي كفل حرية الرأي لكل مصري، وأرسل خطاباً لوزير الحقانية يؤكد فيه أن قانون الأزهر لا يطال إلا المعاهد الدينية، وهنا جاء موقف الوزير عبدالعزيز فهمي الذي وقف إلى جوار عبدالرازق ورفض قرار الفصل، فما كان من القصر الملكي إلا أن تدخل بشكل مباشر، وصدر قرار بإقالة الوزير عبدالعزيز فهمي من الوزارة.

وإقالة الوزير تسببت في موجة من الاحتجاجات الحكومية، إذ استقال احتجاجاً على ذلك: محمد علي علوبة باشا، وزير الأوقاف، وتوفيق باشا دوس، وزير الزراعة، وإسماعيل صدقي باشا، وزير الداخلية آنذاك.

وبعد شغل المناصب الوزارية الشاغرة بهذه الاستقالات، فُصل الشيخ علي عبدالرازق من وظيفته، كما أراد الملك فؤاد، وصار عبدالرازق بعد ذلك عضواً في حزب "الأحرار الدستوريين"، الذي تأسس العام 1922، وتبنى الفكر الليبرالي، إذ كان في صف واحد مع أبرز قادة الحزب ومفكريه أحمد لطفي السيد، وقاسم أمين، ثم طه حسين، وهم جميعاً يمثلون المدرسة الفكرية المنحازة إلى المدنية، والوطنية، والحداثة، والليبرالية.

وتوفي الشيخ في 23 سبتمبر 1966، وبغض النظر عن رواية الشيخ محمد الغزالي بأنه تراجع عما جاء في الكتاب المهم، أو لم يتراجع فإن «الإسلام وأصول الحكم» هو المنهج الذي رآه الشيخ المستنير لمسألة أصول الحكم في الإسلام، وهو الكتاب الذي يعتبره الكثيرون مساوياً لكتاب "الأمير" لميكافيللي، في الثقافة الغربية، وهما الكتابان بغض النظر عن مرجعيتهما الفكرية، يعتبران مؤسسين لأصول الحكم في الدولة- أي دولة.

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا المفكر المبدع حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة للعلامة علي عبدالرازق الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله العلامة علي عبدالرازق ، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

المراجع:

1-علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم بحث في الحلافة والحكومة في الإسلام ، القاهرة ، 1925.

2- محمد فايز جاد: في ذكرى رحيل صاحب "الإسلام وأصول الحكم".. علي عبد الرازق قضى على "الخلافة".. وخذله سعد زغلول، 23-9-2015 | 21:02

3-أمين حمزاوي: الإسلام وأصول الحكم: كيف نظر علي عبد الرازق إلى الخلافة؟ ‎، حفريات ، 31/05/2021.

4-جابر عصفور: رؤى نقدية.. تأديب الشيخ على عبد الرازق 2، الأهرام، الجمعة 19 من ربيع الأول 1439 هــ 8 ديسمبر 2017 السنة 142 العدد 47849

5- أنظر مقال بعنوان: علي عبدالرازق.. وصايا الحكم الإسلامي على الطريقة الميكافيللية، بوابة أخبار اليوم، الثلاثاء، 04 مايو 2021 - 04:39 ص

 

في المثقف اليوم