قراءة في كتاب

رحلات تاريخية وأركيولوجية وتراثية

انعام كمونةقراءات تنعش الذاكرة المدائنية من كتاب: مدن في غياهب الذاكرة،  للباحث المؤرخ نبيل حسين آل زايد

- وفق جدلية الحداثة يُعد التاريخ من العلوم الإنسانية، بمنطق تماسه حياة البشر وبيئة وجودهم منذ بداية الخلق، وارتباطه بحيثيات أُخرى تنازعه الوجود، فالتاريخ مزيج أواصر أركيولوجيا وانثروبولوجيا مقترنة بعلوم أخرى معياريا لفهم حضارة أمة، ومن أهم هذه العلوم هو علم الآثار للربط بين مراحل التاريخ والتطور الحضاري لأي بقعة أثرية، بخطوات شاقة مستندة الحفر والتنقيب والبحث عن أصغر التفاصيل، لتوثق المعلومات العلمية بدراية دقيقة واحترافية جهد بتقييم انساني لعقود خلت...

- ومن أحد تعاريف التاريخ، (هو تحليل وفهم للأحداث التاريخية عن طريق منهج يصف ويسجل ما مضى من وقائع وأحداث ويحللها ويفسرها على أسس علمية صارمة بقصد الوصول إلى حقائق تساعد على فهم الماضي والحاضر والتنبؤ بالمستقبل)، فمن أسس تقنيات علم الآثار دراسة تاريخ المجتمع وكلاهما دلائل علوم إنسانية واجتماعية متشابكة البحوث، وهذا ليس مسؤولية عالم الآثار فقط وأنما أي انجاز يتم فيه التنقيب والبحث عن تاريخ ما، يؤرخ بمسؤولية علمية وإنسانية أن كان نظريا أو عمليا ...

- الاطلاع على تاريخ الأمم مفهوم حضاري، منه نقتفي أثار السلف ونتنسم أرواحهم من جوهر بحوث علمية، بمنهج رؤى أسيرة لزمن ماضي بحدثه المعاصر مرهون بجغرافية المكان، فمهما تباعدت العصور واختلفت الأجيال وتباينت الآراء، فأن سيرة تاريخ أمة تتجلى وجه من وجوه الماضي نراه في مرآة الحاضر سلسلة حياة بصور ذهنية تختلف بطيف التوقع من شخص لآخر، فما يندرج من أفق الخيال أسلوب تحري عن الجذور بتسلل اثيري الى بقايا آثار المدن، معتمدة أسلوب المؤرخ وفنية بحثه على عاتق أمانة فكرية بمصداقية محايدة مدعمة بدلائل آثارية محصنة الحقائق مستندة للتنقيب الفعلي، ومن مراجع منهجية الرؤى وسجلات التدوين الأكاديمية، وأحيانا يصح مقاربتها باستمرار أحداث مؤاتية ...

- نستقرأ عنونة الكتاب للباحث نبيل آل زايد (مدن في غياهب الذاكرة)، جملة أسمية باستعارة رمز مدن والتي تدل على التعدد لأسم مدينة، فعمد لتكثيف البنية بفنية التعبير، فكيف أن تكون المدن في غياهب الذاكرة وقد سافر لتفاصيل تاريخها، ألم يطالها النسيان ..؟، نعرف أن رمز الذاكرة رمز حيوي للدلالة على تراكم معلومات الماضي والحاضر، ومن الممكن استرجاعها من حين لآخر، وأن تعرض الأنسان لصدمات تصدع الزمن، إلا أنها تتشافي من شرخ النسيان كلما تنهل من معين العلم والمعرفة، بدلالة تشي لعدم نسيان جذور حضارة ممتدة في أعماق ذاكرة التاريخ ...

- ونستخلص من تعمد توظيف مفردة غياهب ومعناها حلكة الظلام أو أعماق الظلام، ليدعنا نستنتج ضدية القصد من تركيبة العنوان، ونستشعر روح الإضاءة تنهمر على طرق الماضي لنسترجع حياة الأجداد وأجيال اندثرت، فعلى المستقرئ تمهل التفسير والتأني في التحليل لأدراك المضمون مما يحفز رسم الصور في ذهن المطلع لاستكشاف ما وراء المعنى وما استبطن بُعد المغزى، فأوحى بالدلالة عن التنقيب والبحث في تلافيف الزمن سياحة فكر حضاري، فما الذاكرة الا بؤرة معلومات نقشت على مدى ابعاد الزمن، لذا نلاحظ تضاد مخفي يستكنه القارئ الفطن بين فاعلية التذكر والنسيان، فيبدو العنوان بصيغة أدبية رائعة الإستعارة، إحالة تأويلية بدلالة شحن عالم الوعي في ذات المؤرخ بضمير المسؤولية تجاه معالم وطنه، وخلجات الشعور الوجداني بالانتماء نبع عرفاني بضمير انساني ...

- يبدو من معمارية الإهداء والتي على ورقة سمراء بلون التراب يفوح منها عبق الماضي، فنقش عليها بنية تشكيلية من سطرين في الأعلى وسطرين في الأسفل ومابينهما توهج القصد بانتقاء المفردة العميقة الأثر والمعنى بأسلوب أدبي رائع، "الى الأنقياء" فمنح تكثيف تعبيري للهوية، بما تشمل من معاني إنسانية عميقة، منها مستتر البوح والإيحاء ماديا ومعنويا، إجتماعيا وثقافيا، دينيا وعقائديا، فلولا الوجدان الحي وضمير الشعور ما رسخت مدن الماضي في ذاكرة الحاضر، معبرا عن روح التاريخ في نفسية المؤرخ، لذا يقف القارئ مذهولا وكأنه على أرض الواقع وقد غض الزمن هيمنته واستعاد التاريخ ذاكرته، فنهضت المدن بأركانها من بقايا الآثار، فنرى الإهداء لوحة مبتكرة التصميم ...

- ولنقرأ للمؤرخ الأستاذ نبيل آل زايد من بعض تفاصيل كتابه (مدن في غياهب الذاكرة) وهو يضيء لنا دهاليز الماضي، نرحل معه على صفحات تاريخ المدائن (سلمان باك)، نتعرف على حضارة مدينة أثرية مهمة، تقع ضمن خارطة مدينة المؤرخ على أرض (المدائن) بما يشير جمع اسمها عدة مدن، وهي ابتداءٌ (سلوقية دجلة اليونانية 311 قبل الميلاد، والبرثية طيسفون 126 ق.م، وفولجسياس (ساباط) 69 بعد الميلاد، وفي العهد الساساني 227 ميلادية بهرسير، واسفانبر (طاق كسرى)، و(الرومية)، وهكذا يبحر بنا لأجواء معالم وبقايا رموز اثرية تقع على ضفاف نهر دجلة، فنرى تشكيلة مجتمع مختلف الأطياف متعدد العقائد بتماسك لحمته، وأن اندثر بعضها بإهمال ونسيان متعمد وغير متعمد، فلنتذوق عبق العصور...

- صنف كتاب (مدن في غياهب الذاكرة) الى عدة فصول بعناوين موضوع البحث، فتميز كموسوعة (اجتماعية وثقافية وسياسية) بشمول المعالم الأثرية والعلاقات الإنسانية، وأثرا الكتاب بمعلومات غزيرة لعمومية أحوال المدن حينذاك، فذكر تعاقب حكم المحتلين من مستعمرين يونانيين وفارسيين (برثيين وساسانيين)، وتطرق لكثير من الاجتياحات المعادية، لأهمية موقع المدينة جغرافيا بمحاذاة نهر دجلة وأن تغير مجراه في العهود الغابرة وتغييرهُ من مواقع نشأة هذه المدن شرق دجلة وغربه أحيانا، ولكثرة خيراتها يتخذوها عاصمة لإدارة البلاد حينذاك، وقد وثق مدى تأثير سياساتهم المتعاقبة باختلاف دياناتهم على مدار الزمن ...

- كما وثق ما عانت المدن بأطرافها المترامية من النزاع السياسي الذي سبق عصر الإسلام، وخلال حقبة الإسلام مما أدى الى تغيرات اجتماعية وثقافية ودينية اثارت إشكال الاختلاف، وذكر ما تعرضت اليه ثروات البلاد الأثرية للسرقة والعبث بدون رقيب نتيجة كثرة الحروب المعادية والهجرات الكثيرة، فشرع أبواب الماضي للقارئ للتعرف على تاريخ الأثار بتفاصيل دقيقة موثقة، ووقف على الكثير من تفاصيل المواقع والتلول الاثرية التي تصل الى 118 موقعا اثريا ودينيا حيث صور الكثير من البقايا الأثرية والنماذج المنحوتة والمجسمات المتناثرة هنا وهناك...

 - فمن مؤرخه يستدل القارئ على أسماء الأماكن الأثرية القديمة والحديثة، وبصمة انثروبولوجيا المجتمعات، فنستدل على قدرته في اختراق طيف الزمن بمروره على المعالم التراثية منها عدة مراقد من ولاة المسلمين وقادة الحروب وأماكن أضرحة لأصحاب الرسول (ص) منهم الولاة والقادة والمحاربين في حملات تحرير إسلامية، كذلك أرخ مواقع الحروب وتواريخ حدوثها بجملة وقائع، وسرد لنا في العصر الحديث عن الحركات الاستكشافية والنهرية، وأسماء علماء الأثار والبعثات وسنوات تنقيبها من طالبي العلم والزوار والمؤرخين والرحالة، وذكر عن التشكيلات الإدارية الحديثة في ثلاثينيات القرن الماضي بتأسيس سلمان باك عام 1932م كناحية تابعة الى قضاء بغداد التابع الى لواء بغداد ...

 - وروى القصص الرائعة عن أهل المنطقة وأصولهم، ونسب العشائر والمشايخ وأعمال مديري الناحية في فترات مختلفة، وكشف وثائق مهمة عن حدث غرق سلمان باك، وعن أحوال مختاريها ودائرة الضرائب والصحة والشرطة والمحكمة، كما استذكر عدد من رواد العلم والمعرفة من التربويين وأعمار المكتبة العامة في المدن، وعرج بنا الى متحف المدائن الآثاري، حتى وصل بنا الى المبحث المجتمعي اذ تطرق لأصحاب المهن الحرة باختلاف دياناتهم ومحترفين المهن الشعبية والتراثية، وترك لنا عناوين وأسماء المقاهي والرياضة وأبرز  أبطالها آنذاك، فلم يترك صغيرة أو كبيرة الا أحيى تراثها ...

- اِعتمد المؤرخ نبيل زايد التوثيق الأكاديمي بالتحقيق المنظم، والبحث الشخصي المنظر في مواقع شتى، وتقصى حقائق كثيرة بأمانة علمية وأسلوب سرد روائي بتقنية مهندس وخبرة صحفي، حيث سافر لأبعد النقاط في دهاليز تاريخ المدائن، ونفض الغبار عن حكايات شعبية فزال صدأ الزمن عما أندثر من تراث وتقاليد، فتحمل صعوبة التنقل ومشقة الوصول وقلق التحري للعثور على أصدق معلومة، بزيارة بقايا الآثار والمكوث فيها تحت أصعب الظروف، فاستجلى خلاصة الحقائق من مصادر موثقة كتبها مؤرخين عراقيين وعرب، وعلماء آثار أجانب سبق أن نقبوا عن آثار الأماكن، وأستشهد بمصادر إجتماعية شتى، وسعى بجهد تنقل لمقابلة شخصيات معتمدة لعدة أجيال تلقفت أصول التراث، وممن لديهم معلومات عن أسلافهم في نفس المدن، فمن يقلب صفحات كتبه يندهش مما سطر من شواهد أركيولوجية بجهود قيمة بمنهج رؤى واقعي، أرّخَت أنثروبولوجيا الصور بندرتها التاريخية، منها صور بيانية، ومخططات بنائية بالخرائط القديمة والحديثة، فرغم تغيرات جيولوجيا الأماكن التي تحكمت بمواقع بقايا الآثار ورموز حدودها الا أنه دعمها بكثرة الدلائل الموثقة بسجلات التاريخ عبر تقويم الزمن ...

- ويبقى مصير سرد الحدث بما يتركه من أثر ثقافي ملزم بفنية دراسة الأسباب بالتحليل المبرهن بتحصيل النتائج، من تفاصيل التنقيب الموقعي والتقصي غير الموقعي لتلقف المعلومات مستشهدا بثوابت الأدلة والتي تقنع الرؤى، يقول ابن خلدون في: ("المقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه" إن التاريخ فن من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال) وأن اختلف علماء الآثار عليه بحداثة الرؤى، ألا أن أسلوب السرد بحسية وأدراك المؤرخ للكشف عن تاريخ أُمة هو انجاز فني لاحق عن كينونة زمكانية سبق لها أثر ترك بصمة وجود إنساني، فالحنين للماضي سمة بشرية لا تخلو من وعي معرفي شيق المتعة يفترضه فطرة الوجود، فما اجمله من فن يعيد لنا الزمن برؤى إنسانية ...

- لم تسمح لي القراءة السريعة وما توقفت عنده بنقل ما تضمنته صفحات المؤرخ من ثراء معلومات اثرية لمنجز بحثه في الذاكرة المدائنية، كموسوعة تاريخية تعدت ال 430 صفحة زاخرة بآثار مدن عريقة يستعان بها الباحثين عن التاريخ والآثار والعلوم الإنسانية والأجتماعية ومرافيء معرفة متعددة بفنية توضيب وأسلوب تدوين ممنهج...

- تركتُ الكثير من المعلومات المهمة من سرد المؤرخ، فمن الأجدى لمن يحب الاطلاع على انثروبولوجيا حضارات من وادي الرافدين أن لا يفوته متعة التجول والسفربما وثق من جهود بحثية شيقة من واقع المعالم، وقيد من استنتاج رؤى بصيرة المدى لباحث بارع مجتهد الجد الأستاذ المؤرخ والصحفي نبيل زايد بالتوفيق لإنجازكم .

****

قراءة إنعام كمونة

في المثقف اليوم