قراءة في كتاب

ضوء جديد على حيثيات وشخصيات الثورة التموزية العراقية

علاء اللاميقراءة في كتاب "وصفي طاهر.. رجل من العراق": ممهدات ثورة 14 تموز 1958 تفاصيل الساعات الأخيرة لثوارها!

إنه كتاب توثيقي مصوَّر ألَّفته السيدة نضال وصفي طاهر كريمة الشهيد وصفي، رفقة الصديق الكاتب رواء الجصاني، الذي أشكره جزيل الشكر على إهدائي نسخة من هذا الكتاب وكتابين آخرين من تأليفه. هذه قراءة سريعة في الكتاب:

يتوزع الكتاب - الموَّثق بشكل جيد - على عشرة فصول مرفوقة بعدد من صور الوثائق والصور الشخصية النادرة للشهيد ورفاقه وأفراد عائلته وزملائه في السلاح في فلسطين خلال حرب 1948 والعراق قبل وبعد ثورة 14 تموز 1958. ولكني سأركز في قراءتي هذه على ما اعتقد أنه جديد ومهم ولم يتطرق إليه أحد من قبل بهذا التوثيق، أو أنه ورد في مؤلفات أخرى لم تنل حظها من الانتشار.

1- محاولات الانقلابات العسكرية التي سبقت محاولة 14 تموز: تكتب السيدة بلقيس عبد الرحمن عقيلة الشهيد وصفي في مخطوطة مذكراتها، كما يقتبس المؤلفان، أن محاولة للقيام بانقلاب عسكري كانت قد حدد لها موعد قبل شهرين من 14 تموز، وأن زوجها ودَّعها وأوصها بأن تكون شجاعة، وطمأنها بأنه ورفاقه سينجحون في محاولتهم بكل تأكيد، غير أنه عاد في مساء اليوم ذاته وأبلغها أن الموعد قد تأجل إلى إشعار آخر.

2- ينقل لنا المؤلفان عن مذكرات ثابت حبيب العاني، القيادي في الحزب الشيوعي، أن محاولة أخرى جرت في شهر آيار من السنة ذاتها "كرد على من يسعى إلى تجاهل دور الحزب الشيوعي في القوات المسلحة"، وكان يقود المحاولة عبد الوهاب الشواف، وأداة تنفيذها اللواء الخامس عشر بقيادة ناجي طالب وعبد الغني الراوي في البصرة. ولا يمكن فهم هذا الربط المباشر والقوي بين الحزب الشيوعي وهذه المحاولة التي يقودها الشواف في ضوء الصورة السلبية والعدائية التي رسخها إعلام الحزب عن الشواف ودوره في تاريخ ثورة تموز الذي انتهى نهاية مأساوية حيث أعدم بعد فشل المحاولة الانقلابية التي اتهم بقيادتها في آذار سنة 1959 بالموصل، إلا بالخروج النقدي على الروايات الحزبية المتعادية والمنحازة كلّ لحزبها، والتي هيمنت على أحداث وحيثيات الثورة والتاريخ العراقي الحديث ككل، وإعادة قراءتها نقديا، فهل كان هناك تنسيق بين الحزب وقيادة هذه المحاولة كما يوحي كلام العاني؟ ثم يتحدث العاني - كما ينقل لنا المؤلفان - عن محاولة أخرى كان تخطط لها مجموعة أخرى تعرف باسم "مجموعة القسم"، يقودها طه الدوري وأحمد محسن العلي وخليل إبراهيم العلي والشهيد خزعل علي السعدي، وكان للبعثيين دور فيها مثَّله الضابط حسن النقيب وآخرون. وأن حوالي مائة ضابط أغلبهم من الشيوعيين يشاركون في هذه المحاولة التي حُدد للقيام بها تاريخ الحادي عشر من شهر تشرين الثاني 1957. ونعلم أن الشواف طلب من وصفي طاهر أن يبلغ عبد الكريم قاسم بأن يلتحق بوحدته في قاعدة منصورية الجبل؛ ولكن وصفي عاد إليهم في الصباح ليخبرهم أن المحاولة قد فشلت، دون مزيد من التفاصيل. وكنتُ قد قلت في كتابات سابقة عن ثورة تموز، بأنها من الناحية التنفيذية والتقنية أقرب الى انقلاب عسكري قاسمي عارفي "تنظيم المنصورية" داخل الانقلاب الأكبر الذي كان يخطط له تنظيم الضباط الأحرار بل ومن وراء ظهر التنظيم، وهذه الشهادات تؤكد ما ذهبنا إليه بقوة.3818 وصفي طاهر رجل من العراق

3- تفاقمت الخلافات بين أعضاء اللجنة العليا للضباط الأحرار نتيجة تأخر الحسم والقيام بالانقلاب، ولذلك بادر بعض الضباط فيها الى تشكيل هيئة جديدة تدعى "هيئة الظل" وعقدوا اجتماعا في أوائل كانون الثاني 1958 وبدأوا الاعداد للثورة في مايس 1958. ولا يمكن الجزم إن كانت "لجنة الظل" هي نفسها التي ضمت ضباط تنظيم المنصورية الصغير أم غيرها.

4- نتيجة الخلافات بين أعضاء اللجنة العليا، تنقل لنا زوجة الشهيد وصفي طاهر أنه قرر أن ينسحب من تنظيم الضباط الأحرار، ولكن رفاقه أقنعوه بالعدول عن رأيه لكونه "داينمو التنظيم".

5- حين وصل وصفي طاهر صبيحة الثورة مع القوة التي يقودها الى قصر الرحاب الذي كان يعيش حالة خطيرة كما يقول في شهادته أمام المحكمة العسكرية الخاصة "محكمة الشعب" فيذكر أنه حين وصل قابلته الجماهير وهي تسحل جثة عبد الإله "الوصي على العرش". وحين تأكد من مقتل فيصل وعبد الإله وفيصل الثاني عاد إلى دار الإذاعة وأخبر عبد السلام عارف بذلك، فأذاع عارف بيان الثورة الأول. ثم توجه وصفي الى السفارة البريطانية التي كانت الجماهير تحاصرها وتهدد باقتحامها بعد أن أطلق النار عليهم أحد البريطانيين فهاجموه وأصيب بجراح ولكن وصفي طاهر أنقذه منه، ونجح في تهدئة الجموع وضبط الحالة وإنقاذ السفير ورجال سفارته. هذه النقطة تحتاج إلى وقفة تحليلية أعمق وأكثر تفصيلا بهدف توضيح دور السفارة البريطانية يوم الثورة والمسؤولية عما حدث في قصر الرحاب وجواره وكيفية حدوث ما حدث بوضوح أكثر، فكل ما قيل حتى الآن لا يخلو من الغموض والالتباس والتداخل.

6- تكتب السيدة بلقيس أيضا، نقلا عن زوجها، أن الضباط الأحرار كانوا قد اتفقوا قبل الثورة على أن ينسحب الجيش الى الثكنات "ويسلم زمام الحكم إلى مدنيين معروفين بالنزاهة والوطنية ويفهمون بالسياسية ... ولكن أكثر الضباط تفاجئوا بتقاسم المراكز الحساسة بين الزعيم قاسم والعقيد عبد السلام عارف. وأن وصفي طاهر حين تداول مع الزعيم حول الأمر أجابه قاسم بأنه يريد أن يكبح جماح عبد السلام ومن معه". اعتقد أن مأساة الثورة والمصير الدموي الذي انتهت إليه وما تلا ذلك المصير من مآسٍ وكوارث إنما يكمن هنا في هذه الفقرة بالضبط والتي لا تصلح أبدا لتعليل ما حدث أو لتبرير انفراد قاسم وعارف بالحكم ثم بالانقلاب الدامي الذي قاده القوميون والبعثيون في 8 شباط 1963 ومقتل الزعيم ورفاقه ولكنها قد تفسر تلك الأحداث بشكل أقرب إلى الواقع بعيدا عن تعميم التخوين والاتهام بالعمالة لأعداء الثورة الاستعماريين وتعيده إلى جذره الداخلي وسببه المباشرة المتمثل بالانفراد بالثورة وما نشأ عنها من نظام حكم فردي استئثاري لم يترك له حليفا أو صديقا لا في الميدان العسكري ولا المدني.

7- يكتفي المؤلفان غالبا بسرد الروايات المختلفة والعديدة حول بعض الأحداث دون أن يؤكدا أو يحللا إحداها ربما بسبب الطبيعية التوثيقية للكتاب وهو ما أشار إليه الجصاني في المقدمة بقوله "لا نهدف إلى استباق القارئ فنوحي إليه، بل جد همنا أن يكون بمستطاعه وحده التمعن والتقييم والاستنتاج/ ص 6"؛ ومن ذلك مثلا قضية هروب ومقتل نوري السعيد. فهناك أربع روايات تذهب الأولى إلى أن السعيد انتحر برصاصة من مسدسه الشخصي حين اكتشف أمره وكان قد تنكر بملابس نساء، وثانية تذهب إلى أن وصفي طاهر قتله بصلية من بندقيته الرشاشة، وثالثة تقول إن السعيد قُتل برصاصة من الشرطي الذي اكتشف أمره، ولكن الرواية الرابعة هي التي سيتم تأكيدها بشكل شبه رسمي لاحقا ومفادها أن أحد المارة من المدنيين يدعى خضير صالح مهدي السامرائي اكتشف أمر نوري السعيد المتنكر بالزي النسوي فأطلق عليه النار من مسدسه وتوجه إلى وزارة الدفاع وسلم السلاح الذي استعمله في قتل السعيد لضمان حقه في المكافأة/ ص88.

8- يستعرض المؤلفان عدة روايات مختلفة حول علاقة الشهيد وصفي طاهر بالحزب الشيوعي تقول واحده منها إنه كان عضوا فعالا في الحزب، في حين تنفي الأخرى ذلك وتؤيدها زوجته وتؤكد أنه رفض دائما الانتماء الحزبي وفضل أن يبقى عسكريا ديموقراطيا ويساريا غير حزبي، وعلى علاقة ودية بالحزب المذكور عن طريق ابن عمه زكي خيري القيادي في الحزب وآخرين. كما نعلم أن لوصفي طاهر تحفظات وملاحظات وآراء على سياسات الحزب وأعضائه وشخصياته - كما تؤكد زوجته في مذكراتها - وأنه كان يغضب من "مهادنة الشيوعيين في الرد على الاعتداءات التي كانت تقوم بها القوى المعادية لهم"، كما غضب وانتقد قيام صحافة الحزب بنشر نقد علني للحكم لأنه كما قال "يسمح للمتربصين أن يقوموا بإساءات وتحريض أكبر ويزيدوا الحطب في النار".

9- عن الساعات الأخيرة للشهيد وصفي طاهر ورفاقه بعد الانقلاب العسكري الذي قاده ضدهم القوميون والبعثيون نعلم الآتي: تخبرنا السيدة بلقيس عبد الرحمن في مخطوطة مذكراتها أن وصفي طاهر لم يكن مع عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع حين وقع انقلاب 8 شباط 1963 وحين سمعوا الخبر من مئذنة جامع المأمون ارتدى وصفي ملابسه العسكرية والتحق بالقيادة. ومن هناك اتصل بعائلته وطلب منها مغادرة الدار لأن أنصار الانقلابيين هاجموا دار العقيد المهداوي "رئيس محكمة الشعب".

وتخبرنا السيدة بلقيس نقلا عن أحد العسكريين المرافقين لزوجها هو نعيم سعد أن وصفي حين وصل الى وزارة الدفاع عاتب قاسم بشدة وكان يقول له "هذا ما حذرتك منه"! وظل وصفي طاهر يقاوم الانقلابيين بسلاحه هو ومن معه. ويدلي أحد العسكريين الاثنين اللذين كانا معه وبقي أحدهما حيا بمعلومات لبرنامج تلفزيوني عرض سنة 2007، وقال فيه إن وصفي طلب منه ومن زميل له بعد أن نفدت ذخيرتهما أن يسلما نفسيهما الى الانقلابيين، لأنه هو المطلوب الأول من الانقلابيين، وبقي هو يقاوم حتى بقيت معه رصاصة واحدة فأطلقها على نفسه وأنهى حياته، وكان قد تعهد بأن تكون نهايته بهذه الصورة أمام قاسم وزوجته قبل الانقلاب بفترة. وقد نقل الانقلابيون جثته إلى مقرهم في دار الإذاعة العراقية وعرضوها على الجمهور عبر التلفزيون لكسر معنويات المقاومين. أما المؤرخ أوريل دان كما ينقل لنا المؤلفان عن كتابه "العراق في عهد قاسم" فقد كتب أن قاسم غادر وزارة الدفاع وانتقل الى قاعة الشعب بجوارها ومعه المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان خليل حداد تاركين عبد الكريم الجدة ووصفي طاهر جثتين هامدتين مدفونتين تحت أنقاض الوزارة" التي كانت قد تعرضت لقصف عنيف من القوات الانقلابية.

ويدلي الكاتب القومي أحمد فوزي برواية أخرى فيقول إن وصفي طاهر بقي يقاتل في البناية - بناية وزارة الدفاع - حتى أصيب بشظية خلال قصف الطائرات لها وجرحته جرحا بسيطا". وهذه الرواية لم يؤكدها أحد بل تحاول تسويق الرواية الانقلابية التي تزعم إنهم أسروا وصفي طاهر حيا وأعدموه، وهو ما لم يؤكده جميع الشهادات التي كررت أن الانقلابيين أحضروا وصفي طاهر الى مقرهم في إذاعة الصالحية جثة هامدة كما سبق وذكرنا من شهادات. وفي هذا السياق يؤكد القيادي البعثي السابق هاني الفكيكي في كتابه "أوكار الهزيمة" إن الانقلابيين أصدروا الأمر الى فرق خاصة من الحرس القومي الناشئ باغتيال قاسم ووصفي طاهر ورفاقهما الأوقاتي والمهداوي والجدة والشيخ أحمد والمئات - وربما الآلاف - من اليساريين والديموقراطيين المدنيين العراقيين خلال وبعد ذلك الانقلاب الدموي.

وأخيرا، فهذا الكتاب يعتبر مساهمة جيدة وإضاءة مهمة تضاف إلى مساهمات أخرى في باب التوثيق لأهم أحداث التاريخ العراقي المعاصر وحيثيات وتفاصيل ثورته الأهم في الرابع عشر من تموز 1958، ولعل ميزته الأهم هي أن مؤلفَيْه لم يغلقا الباب على الروايات الأخرى حتى إذا كان مختلفة أو مخالفة لما هو سائد في الروايات المشهورة، فشكرا للمؤلفَين؛ السيدة نضال وصفي طاهر والصديق الكاتب رواء الجصاني على جهودهما القيمة والمفيدة ونأمل أن تجد مذكرات السيدة بلقيس عبد الرحمن، عقيلة الشهيد وصفي طاهر، طريقها إلى النشر أيضا فقد تضيف شيئاً جديدا لهذا الملف المأساوي والمحزن من ملفات تاريخنا الحديث.

***

علاء اللامي

في المثقف اليوم