قراءة في كتاب

قراءة في رسائل العفيف الأخضر

ثامر الحاج امين(العفيف الأخضر 1934 ــ 2013) واحد من المفكرين التونسيين الذين أثارت كتاباتهم جدلا واسعا في العالم العربي لما فيها من نقد وتخطي الثوابت التي لا يسمح الحديث حولها والخوض فيها، فمنهجه في التعاطي مع نصوص الموروث اتسم بالشجاعة والجرأة في تناول الحوادث المسكوت عنها في كتب التراث وكذلك آراءه الجريئة في التحولات السياسية التي شهدتها الساحة العربية.

بعد رحيل العفيف الأخضر بسنتين أي في عام 2015 صدر له عن منشورات دار الجمل كتاب مهم هو (رسائل الى القادة والرؤساء) وقد ضم الكتاب عددا من الرسائل الموجهة الى بعض الرؤساء والشخصيات الفاعلة في الساحة السياسية العربية والعالمية وهذه الرسائل سبق له ان نشرها في الصحف والمواقع الالكترونية وتناول فيها بلغة لا تنقصها الجرأة والشجاعة حال العالم العربي محذرا فيها من السياسة الرعناء التي ينتهجها الحكام بحق شعوبهم والمنطقة، ولكثرة الرسائل التي ضمها الكتاب والتي قاربت من الثلاثين رسالة فقد تناولنا عددا منها تلك التي تكشف عن قدرة الأخضر على التحليل النفسي لسلوك المقصودين فيها وجلهم من الرؤساء الذين أذاقوا شعوبهم الويل بسبب استبدادهم واخطاءهم الكارثية علاوة على ما تضمنتها من اسرار لم يسبق للقارئ ان تعرّف عليها.

استهل العفيف الأخضر كتابه المذكور بـ (رسالة مفتوحه الى صدام حسين) والمثير للدهشة في هذه الرسالة انها منشورة وصدام حسين ما يزال في الحكم وتخيل الجرأة التي يخاطب فيها الأخير قائلاً له (كذاتي منفصل عن مبدأ الواقع أنت غير مؤهل للعمل السياسي على رأس دولة بمكانة العراقي لأن السياسة فن الممكن لا فن التخييل وقد برهنت الوقائع منذ 18 عاما انك أمي في فن السياسة مما جعلك سيد الرهانات الخاسرة ص 5)، وكواحدة من الرهانات يتوقف عند حرب الكويت التي أسفرت وحسب تقديرات احد قادة اركان الجيش الفرنسي عن سقوط 400 الف جندي عراقي قتلى علاوة على الاعداد الكبيرة من العراقيين الذين يموتون نتيجة نقص الغذاء والدواء وتفاقم البطالة، ويظهر من خلال رسالته الطويلة ان الأخضر قد قرأ بشكل مفصل تاريخ العراق وكذلك التاريخ الشخصي لصدام وخفاياه الكثيرة فعن عناد صدام وقصور نظرته يقول له (كمصاب بالمركزية الذاتية جعلت من نفسك مركز العالم فانك تعتبر ان مجرد بقائك في الحكم انتصار على رعاياك الذين حرمتهم من الكثير بفضل الحظر الذي جرّته عليهم انتصاراتك في ام المعارك ص 8) وتذهب الرسالة الى التحليل النفسي لشخصية صدام حسين فتصفها مصابة بالبارانوية الخطيرة التي من أهم اعراضها الحذر المفرط، تضخم الأنا، خطأ الحكم والعجز من التكيف مع الواقع الاقليمي والدولي، وتحصيل حاصل يؤكد له في رسالته (ربما انك عاجز عن ممارسة النقد الذاتي الذي يتطلب مرونة ذهنية وذكاء تاريخيا لا يمتلكها البارانوي فأنت عاجز عن مراجعة احكامك، لأن كل نقد لها او تراجع عنها يجعلك تتهاوى من الداخل كأسد من ورق، فما قررته قد قررته مرة والى الأبد ص 15)، أما رسالته الى الرئيس جلال الطالباني فلم تكن بتلك الأهمية فقد اقتصرت على الطلب منه بعدم التوقيع على عقوبة الاعدام بحق خصومه السياسيين بما فيهم رجال النظام السابق فقد كان يرى في عقوبة الاعدام عقاب همجي انتقامي تمارسه دولة يفترض فيها ان تكون مؤسسة عقلانية.

رسالة أخرى مهمة الى الرئيس الليبي معمر القذافي كتبها أبان الثورة في ليبيا يطلب فيها من القذافي الاستفادة من نهاية صدام حسين والاسراع الى ترك الساحة من أجل وقف نزيف الدم والاقتتال بين ابناء البلد الواحد والاستفادة من نصيحة الرئيس التركي اردوغان الذي ضمن له الأمان من الملاحقة الجنائية الدولية وان يكون (القرار هو الفرار) لكن القذافي لم يأخذ بتلك النصيحة واختار نهايته الدموية، ويبدو ان هذه الرسالة المحرضة على الفرار وراءها دوافع انتقامية سببها قيام القذافي بحرق كتب العفيف الأخضر في ليبيا ومنع تداولها، ويرى الأخضر في تحليله لشخصية القذافي ان جنون العظمة وحب السلطة جعله غير مؤهل للاعتزال ولم يتركها الاّ بعد ان حول ليبيا الى مقبرة وغابة تسرح فيها قطعان الذئاب المتعطشة للقتل والدم.

ولم يغفل الفلسطينيين في سلسلة رسائله فقد تناول الأخضر اسباب محنتهم ويرجعها الى أخطاء سلطتهم الدينية والسياسية، فالدينية منها كانت بسبب الخلط بين احكام الفقه ومبادئ السياسة مشيرا الى موقف مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني الذي رفض تقسيم فلسطين من قبل لجنة بيل البريطانية سنة 1937 التي أعطت منها للفلسطينيين 80 % و 20 % لليهود متشبثا بمبدأ (فلسطين كلها وقف اسلامي ولا يجوز التفريط في شير واحد منها لليهود ص 21) في حين كان رد زعيم اليهود دافيد بن غوريون المدروس هو (بالتأكيد هذا القرار لا يرضيني، ولكنني أرفض ان أرفض) فيعقد الاخضر مقارنة واضحة بين استعانة الحسيني بأحكام جامدة فأضاع وطن وشعبه واستشارة بن غوريون بالسياسة التي هي فن الممكن فكسب وطنا لشعبه ويعلق على هذا ان رفض عرض الخصم يجب ان تسبقه دراسة علمية للبدائل الممكنة للعرض المرفوض وكذلك هي اخطاء السياسيون الذين تقمصوا شخصية مفتي فلسطين ومنهم ياسر عرفات عندما رفض عام 2000 مقترحات كلينتون التي يعتبرها الأخضرهي افضل ما قد يحصل عليه الفلسطينيون في المستقبل.ويصف شعار (كل شيء أو لا شيء) بأنه عناد عصابي وهو مرض موروث من اطوار الطفولة والشفاء منه هو النقد الذاتي.

ومن بين ثلاث رسائل بعثها العفيف الأخضر الى الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا يخاطبه فيها بالصديق العزيز يسلط الضوء في رسالته الاولي على واقع العالم العربي الجديد وتحديدا في البلدان التي شهدت تحولات في انظمتها السياسية (السودان، مصر، تونس، ليبيا، العراق) وقيادة الاسلام السياسي للأنظمة فيها ويصور له وما آلت اليه هذه البلدان من أوضاع سيئة ممثلة بانهيار الأمن والاقتصاد وحملات الانتقام والتردي في الخدمات وغياب الأمن وانتشار العنف، ويبدو ان دوافع رسالة الأخضر جاءت تعقيبا على رسالة مانديلا التي سبق ان وجهها للإسلاميين وحث فيها نخب تونس ومصر على المصالحة الشاملة للتفرغ لبناء المستقبل بدلا من التسمر في مرارات الماضي وكذلك دعوتهم الى اتخاذ تجربة جنوب افريقيا في المصالحة الوطنية نموذجا وحذرهم في رسالته بين المصالحة وطوفان الفوضى، ويتخذ الأخضر من المواقف الغريبة والآراء المتناقضة للسيد راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية نموذجا للعقلية التي تسود حكم هذه البلدان وفي الرسائل الثلاث يكشف الاخضر عن معلومات مانديلا الضئيلة والمغلوطة عن القادة الاسلاميين لهذه البلدان عندما يخاطبهم بـ (إخوتي في بلاد العرب) ويستغرب من شخصية بحجم مانديلا التاريخي واشعاعه الكوني ان ينخدع بسهوله بالأعلام المضلل والتهويل الكاذب الذي يثار حول هذه الشخصيات والاستشهاد بها كمرجعيات سياسية من امثال الغنوشي والترابي وغيرهم.

وفي ختام رسالته الى مانديلا يدعوه الاخضر الى مواصلة مهمته الجليلة بالاتصال بجميع اصدقائه من الشخصيات العالمية ليوقعوا معه رسالة الى قادة هذه البلدان المضطربة بضرورة ايجاد حكومة مصالحة تضم الجميع وتوسيع قاعدة النظام الاجتماعية بإضافة نخب جديدة اقتصادية وسياسية وثقافية والتخلي عن الوجوه المشبوهة التي أثرتْ من خلال سرقاتها قوت الشعب وخيراته ويجد في المصالحة والمراجعة الجدية لسياسة الحكم هي البديل من الانقلاب العسكري والفوضى الزاحفة التي تعيشها الان هذه البلدان.

رسالته للرئيس التركي الطيب رجب أوردوغان يشيد فيها بدعوة الأخير زعماء الاسلام السياسي في مصر وتونس الذي ينتمي ارودوغان الى فكرهما السياسي بترك التعصب الديني وانغلاقهم على روح العالم مذكرا اياهم أن (الحرية والديمقراطية والعلمانية لا تتناقض مع الاسلام) والغريب ان أول من رفض هذه الدعوة هم الاخوان المسلمون في مصر وجاء بعدها رفض رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي مدعيا بأن (النهضة لا تستنسخ تجارب الاخرين) لكنه كان في أدائه السياسي يحاول استنساخ التجربة الايرانية، وقد وصف الاخضر الرئيس اردوغان بانه شخصية تتمتع بالشجاعة السياسية الغائبة في أرض الاسلام والقادرة على تجسيد مشروع المصالحة بين الاسلام والعلمانية.

في رسالته الى الرئيس الجزائري بوتفليقة يدعوه فيها الى تجفيف ينابيع الارهاب من المدارس الجزائرية التي كان يجري فيها اخضاع التلاميذ من المدرسة الابتدائية الى برامج تعلم كيفية غسل الموتى ورجم المرأة الزانية ويطلب منه ان أراد ان يدخل التاريخ كأول رئيس جزائري ان يقدّم لأبناء الجزائر المسلمين تعليما دينيا تنويريا، وان يعلمهم التفكير في النص الديني بالعقل ونبذ العنف والتكيف مع قيم عصرهم الانسانية.

الرسالة التي بعثها الى الرئيس السوري حافظ الأسد فانه يصف فيها توجهاته بالعمى السياسي فانطلاقا من معطيات موضوعية لا من تخييلات وهلاوس يسطّر له اخطائه الممثلة يسياسته الداخلية الاستبدادبة العمياء وسياسته الاقليمية التي تفتقر الى الواقعية بتدخلاته في شؤون دول الجوار والتحالفات الخاطئة وجعل سوريا ساحة لتدخلات الدول الخارجية من حيث تخلف صناعة القرار السوري مخاطبا اياه (بصفتك، نظريا على الأقل، صاحب القرار، كان عليك ان تحيط نفسك بصناع قرار ذوي اختصاص وكفاءة، بفضلهم ــ وبفضلهم فقط تتعود على سماع الأسئلة المحرجة، وأفضل من ذلك على الاصغاء الى الأحداث لفهم مداليلها العميقة، هذا الفهم هو الذي سيقيك من المزالق والأخطاء القاتلة، لأن صدام لم يفعل، فقد فقدَ كل شيء الذرية والحكم ص 66). ويتهمه صراحة (بتشجيع تسلل الارهابيين الى العراق لمنع اعماره واغراق لبنان في المشاكل والدم وعرقلة الوحدة الوطنية الفلسطينية بين حماس وفتح ص 100).

ولمناسبة اعلان الملك محمد السادس ملك المغرب " سحب المغرب لجميع تحفظاته عن الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة " يقف الاخضر مناصرا لهذا القرار ويعتبره يوما تاريخيا في تاريخ تحرر المرأة المغربية من رواسب التقاليد المعادية لها، ولكي لا يبقى هذا الاعلان حبرا على ورق يبعث الاخضر رسالة الى ملك المغرب يدعوه فيها الى استكمال خطواته لا نجاح هذا المشروع الحداثوي التنويري ومنها تحديث قوانين الأحوال الشخصية وكذلك تحديث الخطابين التعليمي والاعلامي لخلق ثقافة مضادة للثقافة السائدة المعادية لحقوق المرأة.

أما رسالته الى عمرو موسى ايام وجوده في منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية فأنها جاءت متضامنة معه ضد التطاول الذي حصل عليه من بعض الأبواق وكان يدعوه في الرسالة الاضطلاع بمهمة تاريخية هي مصالحة عقلاء حماس مع ادارة أوباما وحكومات الاتحاد الأوربي وحذر من حصار المجتمع الدولي لحماس مشيرا الى ان الحصار يوقظ جنون الشك وعقدة الاضطهاد الكامنة خاصة في الشخصيات الدينية العنيفة التي ترى نفسها ضحية.

يكشف كتاب (رسائل الى القادة والرؤساء) عن قدرة مؤلفه العفيف الأخضر على التحليل السياسي الواقعي والعقلاني المرتكز على اسس تاريخية ودينية وسياسية وكذلك على التحليل النفسي للشخصية المبني على قراءة واعية لنظريات علم النفس فجاء كتابا ممتعا غنيا بمادته التاريخية ودقيقا في توصيفاته وتنبؤاته التي تحقق منها الكثير.

***

ثامر الحاج امين

 

في المثقف اليوم