قراءة في كتاب

الأمير لمكيافللي.. القوة عادلة عندما تكون ضرورية

علي حسينترسخت في اذهاننا صورة "نيقولا مكيافيللي" وفي يده تاج السلطة، حتى اننا عندما نريد ان نتهم احدا ما بالمراوغة نقول عنه "مكيافيللي". في واحدة من عباراته الشهيرة يكتب " ان: " القوة عادلة عندما تكون ضرورية "، وهذه الجملة تعد احدى المفاتيح الرئيسية لكتاب " الامير ".

رحل مكيافيللي قبل حوالي " 500 " عام، لكن لا يزال اسمه يتردد كلما تحدثنا عن حيل الساسة والالاعيب الحكام. ما سبب السمعة السيئة التي لاتزال تلاحقه؟ هل يستحقها؟ ولماذا تلاحق اللعنة كتابه " الامير ".

يبدو كتاب الامير حين نأتي الى قراءته من دون معرفة مسبقة بصاحبه والاحوال التي عاشها، كتيب يدعوا الى القسوة، وربما يمجد ايضا بإراقة الدماء حتى ان فيلسوفا بحجم برتراند رسل يصف الكتاب بانه " دليل لقطاع الطرق وأعضاء العصابات "..قبل فترة ليست بالقصيرة قررت اعادة قراءة كتاب مكيافيللي.. بحثت في مكتبتي فوجدت اكثر من نسخة اقدمها التسخة التي ترجمها محمد لطفي جمعة، احدثها النسخة التي ترجمها عبد الكريم ناصف وبينهما ترجمة فاروق سعد التي تضمنت دراسة مطولة عن الفكر السياسي قبل الامير وبعده، وترجمة حديثة عن نسخة دار بنغوين الشهيرة.. يجب ان اعترف انني قرأت الكتاب عندما كنت في المدرسة الاعدادية، وكانت قراءتي له من باب الفضول وليس المعرفة، فقد كنت اسمع عن الكتاب كثيرا.. ولهذا لم يثير اهتمامي موضوعه بقدر ما كنت ابحث عن السبب الذي يجعل القراء يبحثون عنه.. بعد ذلك بسنوات خاطرت من جديد بقراءة كتاب الامير، بعد ان عثرت على اسم مكيافيللي يتردد على لسان احدى شخصيات مسرحية شكسبير الكوميدية "زوجات وندسور المرحات": ماذا هل أنا مخادع.. هل أنا ميكافيللي " – ترجمة مصطفى طه حبيب -.بدى المؤلف في المقدمة التي كتبها للكتاب يستعطف الامير لورنتسوا: " ليس في طاقتي ان اقدم لكم هدية أعظم من أن اتيح لكم أن تفهموا في وقت قصير ما درست في سنين طويلة ".. وبرغم ان ميكافيللي يقدم نصائح للامير، إلا انه قرر ان ياخذ حيطته ويغلف هذه النصائح بالدعوة الى وجود حاكم قوي وفعال يخدم مصالح الدولة.. كان قد تعرض قبل تفرغه لكتابة " الامير " الى السجن والتعذيب، ثم أُرسل الى المنفى لاتهامه بالمشاركة في مؤامرة ضد عائلة مديتشي..كانت معرفة خفايا حياة مكيافيللي دافعا لان اواصل القراءة وابحث عن كل ما يتعلق بهذا الفيلسوف الغريب الاطوار.. عليَّ ان اعرف من هو وبماذا يفكر وكيف استطاع ان يضع قواعد للسيطرة على الحكم؟، في الوقت نفسه كان هو طريداً لهذه السلطة التي جعلته يقضي سنوات من حياته في عزلة وضيق حتى إنه يكتب في إحدى رسائله: " ويحي، ما أتعس حظي، لقد ولدت للشقاء والعناء، فلن أحصل على ما أريده قط".

ولِدَ نيقولا مكيافيللي في أيار عام 1469 وهو الابن الأكبر لبرنارد ميكافيللي وسيكتب فيما بعد: "ولدتُ فقيراً وتعلمتُ في عمر مبكر ألا أنفق سوى أقل القليل بدلاً من أن أعيش في ترفٍ"، ويشير كتاب سيرة ميكافيللي أن هذا الزعم ينطوي على نوع من المبالغة، صحيح إن والده لم يكن ثرياً، لكنه عاش في منزل كبير، كما إنه اقتنى مزرعة خارج فلورنسا، وكان والده يعمل موثقاً قانونياً، وتربطه علاقات بعدد من رجال البلاط، وعُرف بشغفه باقتناء الكتب، كان يهوى الأعمال الأدبية الكلاسيكية، ويردد أمام ابنه الصغير مقولات لأفلاطون وأرسطو وشيشرون، ويبدو أن الأب المحب للقراءة كان قد قرر أن ينعم ابنه بفوائد الثقافة الإنسانية التي كانت مزدهرة في فلورنسا آنذاك، على الرغم من التكاليف المالية التي قد يتكبدها، بدأ الإبن وهو في سن الرابعة يتعلم اللاتينية، وبعدها بعام كان يدرس علم الحساب، وبعد عيد ميلاده الثامن انتظم في دروس خاصة بالأدب على يد كريستوفر لاندينو، الذي اشتهر بتفسيرات لكتاب دانتي الكوميديا الالهية، بعدها التحق في ستوديو فيورنتينو، وهي جامعة صغيرة، كان مكيافيللي يتمتع بصفات جسدية غير جذابة إذ كان نحيل القوام ذا شفتين رفعتين وذقن صغير ووجنتين غائرتين وشعر أسود قصير، وكان ذكاؤه الحاد وميله الى حياة الصخب يتناقض مع مظهره المتقشف، وقد عُرف عنه نهمه للقراءة وولعه بلعب القمار وفي الجامعة اشتهر باسم"ميكا"وهي تورية لكلمة إيطالية، تعني لطخة أو بقعة إشارة الى الضرر الذي يحدثه لسانه اللاذع.

في الجامعة درس البلاغة وقواعد اللغة والشعر والتاريخ والفلسفة، وكانت قصيدة الفيلسوف الروماني لوكريشيوس التي تحمل عنوان"طبيعة الأشياء"أحد النصوص التي درسها وأثّرت به كثيراً، وقد أعجب بالحجة الرئيسية للوكريشيوس القائلة بأنه ينبغي التخلص من الخوف والخرافات الدينية باستخدام العقل والتعمق في دراسة الآليات الخفية للطبيعة البشرية في الجامعة انهمك مكيافيللي في دراسة الشعر والفلسفة، وقد جمع ثلاثة من اعماله التي كتبها آنذاك في ديوان شعر مزوّد بلوحات للرسام بوتيشيللي، وفي تلك السنوات يتتلمذ على يد مارسسيلو أدرياني الذي كان شديد الإعجاب بمواهب تلميذه، وتشاء الصدف أن يتولى أدرياني منصب المستشار الأول للبلاد، ويتذكّر الأستاذ تلميذه الموهوب، فيقرر أن يُعيّنه في الهيئة الاستشارية الدبلوماسية، ليجد نفسه في صيف عام 1498 موظفاً حكومياً، وقد أثبت مهارة في وظيفته مما دفع البلاط لتعيينه رئيساً للجنة الاستشارية، وبهذه الصفة جرى تكليفه بمهام تتعلق بالعلاقات الخارجية لفلورنسا، فذهب بمهمة الى بلاط لويس الثاني عشر، وكانت هذه المرة الأولى التي يجري فيها حواراً مع أحد الملوك، وقد ظل في البلاط الفرنسي ستة أشهر، وعاد الى فلورنسا بعد أن أرسل له مساعده برقية يُخبره بأنه: "إذا لم تعد أدراجك فسوف تفقد مكانك في البعثة الدبلوماسية"، وفي عام 1501 يتزوج ماريتا كورسيني التي أنجبت له ستة ابناء، ويبدو إنها احتملت خياناته المتعددة. بعدها يُرسل في مهمة الى روما لمتابعة اختيار بابا جديد بعد وفاة البابا الكسندر السادس، وهناك أعجب بشخصية البابا الجديد يوليوس الثاني، لكنه سرعان ما بدا ينفر منه بسبب قراراته الخاصة بالحرب، فكتب لأحد مساعديه ملاحظة تقول إن البابا الجديد على ما يبدو قد كلفه القدر ليدمِّر العالم، كانت هذه الملاحظات تؤكد اهتمام مكيافيللي بما يجري في غرف السياسة، حيث بدأ يسجل أحكامه في رسائل الى أستاذه مارسسيلو ادرياني، وبحلول عام 1510 وبعد عدة جولات في الخارج كان مكيافيللي قد توصل الى رأي نهائي بشأن معظم رجال الدولة الذين إلتقاهم، لكن رأيه في البابا يوليوس الثاني ظل محيّراً، فمن ناحية كان إعلان البابا الحرب على فرنسا يبدو استهتاراً جنونياً بالنسبة لمكيافيللي، لكنه في الوقت نفسه كان يأمل أن يثبت البابا إنه المنقذ لإيطاليا وليس نكبتها المنتظرة، ويبدو إن مخاوفه قد تحققت فبعد أربع سنوات حتى زحف الجيش الاسباني باتجاه إيطاليا، لتجد فلورنسا نفسها محتلة، والنظام الجمهوري يُحل، وفي السابع من تشرين الأول عام 1511 طُرد مكيافيللي من الوظيفة وحُكم عليه بالسجن لمدة عام، ثم في شباط عام 1513 تلقى أسوأ ضربات القدر على الإطلاق، إذ اتهم بطريق الخطأ إنه شارك بمؤامرة ضد البلاط، وبعد أن تعرّض للتعذيب، حُكم عليه بالسجن ودفع غرامة مالية كبيرة، وقد عبّر عن ذلك فيما بعد حين أهدى كتابه الأمير الى عائلة مديتشي الحاكمة قائلاً: "إن خبث القدر الهائل والمعهود أطاح بي بلا رحمة"، ولم تمضِ فترة سجنه طويلاً حيث أعلنت الحكومة العفو، فخرج مكيافيللي من السجن، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته هدفها الأول تبرئة نفسه من التهم الموجهة إليه، ومع الانتهاء من كتابه الأمير تجددت آماله في العودة الى موقع حكومي مؤثر، وكتب الى صديقه فيتوري إن منتهى تطلعاته أن يجعل من نفسه: "نافعاً لحكامنا حتى إذا بدأوا بتكليفي بدحرجة حجر".إلا أن محاولاته خابت، ونجده يتخلى عن كل أمل في العودة الى العمل الحكومي: "انني سأضطر لأن أظل أحيا هذه الحياة البائسة، دون أن أعثر على رجل واحد يتذكر خدمة قدمتها أو يعتقد إنني قادر على فعل أي خير"، في هذه السنوات عاش في منزل ريفي متواضع في ضواحي فلورنسا، وعانى من العوز، ويصف ايامه الكئيبه حين يخرج كل صباح للصيد وقطع اشجار الغابة، ثم يجلس في زاوية يقرأ دانتي، وفي المساء يتغير المشهد فنجده ينسحب الى غرفة مكتبته، ليغرق بين الكتب بعد ان يخلع ملابسه اليومية، ويرتدي بدلة، كأنه يريد مقابلة احد الامراء: " عندما ارتدي اللباس المناسب، ادخل الى مجالس البلاط القديمة، مجالس رجال الايام الخالية، فيستقبلونني بمودة، ومعهم اتغذى بالغذء الوحيد الذي هو غذائي، والذي من اجله ولدت. واتجاسر على محادثتهم من دون خجل، وأسالهم عن اسباب اعمالهم، وما اعظم انسانيتهم وهم يجيبونني بدافع عطفهم الانساني ولا اشعر بأي نوع من الضجر طيلة اربع ساعات، هي المدة المنقضية في كل مرة اجلس فيها مع نفسي، وأنسى كل معاناتي، ولا أتوجس خيفة من الفقر ولا أهاب الموت، فأنا أطمس تماماً هويتي فيهم ". لكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد كما يخبر صديقه فيتوري، فهو بعد ان ينتهي من الحديث مع الأباطرة والملوك يمسك قلمه ثم يدوِّن: " ما انتفع به من حديثهم "، وقد حوّل ميكافيللي هذه الاحاديث فيما بعد الى كتاب صغير عن مبادىء الحكم: " أقلب فيه بكل ما وسعني من عمق الأفكار المتعلقة بهذا الموضوع، متناولاً ماهية الإمارة، وما انواعها؟ وما طرق الحصول عليها؟ وكيف يمكن الحفاظ عليها؟ ولما يفقد الأمراء إماراتهم؟ " –حياة نيكولو مكيافيللي جورج بريتنزوليني ترجمة طه فوزي -.

ونجد مكيافيللي في هذه السنوات يتجه بحماس الى الكتابة، فأنجز كتابه الشهير المطارحات، بعدها بدأ بكتابة تاريخ فلورنسا، وتفرغ لكتابة"فن الحرب"، وبدا أن فرصته في العودة الى الوظيفة الحكومية قد لاحت بسبب تغيير نظام الحكم، لكن اسمه لم يذكر ضمن الأسماء التي رُشّحت للعمل في الجمهورية الجديدة، وكان في ذلك ضربة كبيرة لطموحاته، ما أدى الى إصابته بالمرض، وقد شكا لزوجته من آلام في قلبه التي لم تمهله طويلاً، حيث توفي في الثاني والعشرين من عام 1527 وقد كُتب على شاهدة قبره "لا يبلغ المدح شأو ذلك الاسم نيقولا مكيافيللي"..

عام 1513 ينتهي مكيافيللي من الصفحة الاخيرة من كتابه " الامير " والتي يختتمها بهذا السطر: " ان رائحة السيطرة الاجنبية تلسع كل انف، فهل لبيتك الرفيع اذن، أن يؤدي الواجب، وبتلك الشجاعة والآمال التي توحي بها قضية عادلة، حتى ينهض وطن اآباء والاجداد نحت رايتها " – الامير ترجمةمحمد مختار الزقزوقي -4007 ميكافيلي

يتألف كتاب الأمير من ستة وعشرين فصلاً، ويبدو الكتاب محاولة من مكيافيللي لاستعراض مهاراته بوصفه محللاً سياسياً، ونراه يصرّ منذ الصفحات الأولى على أن كتابه هذا جديد في منهجه، أراد من خلاله حسب قوله أن يقدم قوائم من الفضائل والوصايا التي على الأمير ينفذها ونراه يؤكد أن نهجه في السياسة يختلف عن نهج من سبقوه، فالآخرون وفق ما قاله في"الأمير"تناولوا الجمهوريات التي لم يكن لها وجود في أي مكان على وجه الأرض، لكنه على خلاف من ذلك يناقش الواقع الفعلي للأشياء، ولهذا نراه يؤكد أن الأمير الذي يسعى وراء حب رعاياه بدلاً من أن يجعلهم يخافونه، لابد أن يفقد موقعه، وهو يرى أن على الحاكم أن يتصرّف كأسد قوي وحاسم وكثعلب ماكر ومراوغ في أحيان أخرى، وهو يصر على أن الأمير لا يسعه أن يتقيّد بدواعي المُثل الأخلاقية المعتادة، إن أراد أن يؤدي دوره أداءً سليماً. وباختصار نرى مكيافيللي يواجه قرّاءه منذ الصفحات الأولى بنظرية تقول بأن الجهود المخلصة لامتلاك ناصية المعتقدات الأخلاقية التقليدية وتطبيقها، لن تؤدي الى ظهور حاكم مُطاع. فالأمور السياسية حسب وجهة نظر مكيافيللي تحتاج الى أحكام خاصة بها.

ولعل أبرز فصل من فصول الكتاب، هو الذي يحاول فيه مكيافيللي أن يحدد نطاق حرية البشر في القيام بعمل. حيث يرى إن الثروة كانت لها سلطات قوية على الإنسان، فهي من حين لآخر تكتسح مثل النهر كل شيء أمامها وتدمّر المؤسسات كافة التي استطاع الناس اختراعها لحماية انفسهم وحفظ النظام، وهو يرى إن الثروة مثل فاتنة متقلبة المزاج تبدّل أوضاع الملعب تماماً فتعمل على الإبطاء في التكنيك السليم، وهو يرى أن النجاح والفشل في الحكم لا يتمُّ اكتسابهما بحسن السلوك، بل شيئان يتم انتزاعهما بالقوة من بين يدي عالم لا يتسم بالعاطفة، وفي مكان آخر يرى مكيافيللي أن الناس لهم سمات ثابتة على الدوام شجاع أو جبان، فالأوضاع قد يصلح لعلاجها أسلوبُ معيّنٌ من العمل أحياناً، وقد يصلح أسلوب آخر في أحيان أخرى، لكن لا أحد يستطيع دائما أن يتزيّا بزي واحد لأزمنة تتغير وتتبدل.

لعل الفكرة التي يطرحها مكيافيللي القائلة أن على القادة أن لا يكونوا طيبين كي يكونوا حكاماً أقوياء تعود إلى الرؤية المتشائمة للطبيعة البشرية. كان مكيافيللي بسبب ما عاناه في حياته يعتقد أن البشر " جاحدون ومخادعون, وجشعون للربح"، ولهذا هو يرى إن الحاكم إذا أقام سلطته بالكامل على ما يظهره له الناس من الحب، فسيلاقي منهم الخذلان في أقرب فرصة عندما تسوء الأمور.

يتهم مكيافيللي أنه يؤسس أفكاره في الحكم على نوع معين من اللاأخلاقية، وخصوصا لو تأملنا السؤال الذي يطرحه عما إذا كان الأفضل للحاكم أن يحكم بالرحمة أم بالقسوة، فهو يؤكد أن الحاكم مفرط الرحمة سيتسبب بالمزيد من الأذى للمجتمع مقارنة مع الحاكم القاسي الذي يخلق التناغم من خلال الخوف. وأن كَرَم الحاكم وتسامحه مع الاخطاء سيقود في النهاية إلى تمرد الرعية: "إن ارتكاب الحاكم للفظائع يكون حسناً فقط إذا جرى دفعةً واحدةً وللضرورة وحماية الحاكم لنفسه، وإذا لم يستمر بها بل انصرف عنها لرعاية محكوميه وتحسين معيشتهم. لكن الخطأ أن يبدأ الحاكم بجرائم قليلة، ثم يزيد من ارتكاب المزيد منها مع الزمن بدلاً من أن يتوقف عنها"

لا يظهر مكيافيللي احتراما لما ندعوه اليوم حقوق الانسان، بالنسبة له يمكن التضحية بالافراد ان تطلب الأمر ذلك خدمة لمصالح الدولة، وهو يرى ان الحاكم المتردد في استعمال القوة حينما تفرضها عليه الظروق هو امير سيء، لأن لينه سوف يؤدي الى مزيد من اراقة الدماء لاحقا..كان مكيافيللي مشغول تؤرقه فكرة واحدة دائما: هل يمكن ان يكون المرء سياسيا جيدا، وشخصا جيدا في وقت واحد. وقد كانت اجابته في النهاية بالنفي.

لقد مثلت افكار مكيافيللي خروجا كبيرا عن الافكار السائدة في زمانه حتى ارتبط اسمه مع بدايات عصر النهضة الاوربي الذي عرفته بدايات القرن الخامس عشر. اي الفترة التي كانت فيها اوربا على ابواب التقدم العلمي. كما مثلت كتاباته في جوهرها صرخة احتجاج كبيرة على الوضع السائد في ايطاليا آنذاك، والتي كانت تعيش وضعا متفسخا وحالة من التشرذم الذي لم تشهده من قبل، ولم ير مكيافيللي الخطا في الناس وانما في القائمين على امورهم وفي مقدمة هؤلاء بابوات الكنيسة المسيحية. ولهذا حظرت الكنيسة كتاباته لاكثر من مئتي عام نتيجة اصراره على ان كون المرء مسيحيا صالحا، غير منسجم مع كونه حاكما جيدا.

كان هدف مكيافيللي الرئيسي والذي يشكل الخلفية الاساسية لكل اعماله هو في بحثه كمواطن ايطالي الى توحيد بلاده، وربط مسألة وحدة ايطاليا هذه مع مسالة حريتها. لقد اعاد مكيافيللي للفعل السياسي بشريته وللقانون وضعيته، فالبشر هم صانعوا السياسة وموضوعها في آن واحد. وقد اعتبر مكيافيللي ان كل عمل سياسي يقوم على مفهوم السيادة. سيادة البشر وليس سيادة قوى " فوق البشر " وبالتالي لا يرى مكيافيللي اي تبرير ممكن لادعاء الكنيسة بان لها الحق في تسيير امور العالم حسب " الارادة الالهية "

كتب الفيلسوف الانكليزي فرانسيس بيكون: " ينبغي ان نشكر مكيافيللي وامثاله من الكتاب الذين يقولون صراحة وبدون تمويه ما اعتاد الناس ان يفعلوا. لا ما يجب عليهم ان يعملوا "

ظن مكيافيللي ان كتاب الامير سوف يمهد له السبيل الى اسرة ميديتشي لينال لديها الحظ وة، وتنعم عليه بوظيفة جديدة، لكن خاب ظنه،

واخفق في الحصول على ما يريد. وهنا اعتزل الحياة مختارا، ثم رأى نفسه انه رجل فكر وادب وان السياسة تدير له ظهرها فوجه طاقته الفكرية في اتجاه جديد، وقرر ان يكتب مسرحية واثمرت جهوده اذ الف مسرحية بعنوان " الماندراغولا " – ترجمة نبيل رضا المهايني –وهي كوميديا تحكي عن الغواية وانهيار القيم.

من المفارقات في حياة مكيافيللي انه عاش حياته في ظل امراء اقوياء دون أن يصبح قويا مثلهم. وكان مجرد منفذ للاوامر دون ان يكون له صلاحية اصدارها وتشريعها كما كان يطمح.. لكنه في المقابل رسم لنا صورة شديدة الوضوح للحاكم، ما تزال تحتفظ بقدرتها على اثارة الدهشة واشاعة الخوف واعطاء الدروس.. يكتب موسوليني في تقديمه لكتاب الأمير: " حدث ان انتصر جميع الانبياء غير العزل، وهلك الانبياء العزل ".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم