قراءة في كتاب

قراءة في كتاب (المثول أمام الجمال) للناقد التشكيلي جمال العتابي.. سردية تشاغل الزمن

عادل مردانفي ثريا الغلاف الأبيض عنوان ثلاثي الكلمات، يكتنز بالإيحاء الرومانسي، فكان الإستهلال في البدء: (للكتابة مواسم الزرع والمطر، إذ تصبح حسّاسية الروح هي الهواء المضاء لكامل المشهد بحثاً عن الأبدي الآتي من النّبع، هذي القراءات، محاولة لإيقاظ الحساسية الجماليّة، فاللغة التشكيلية، مهمتها الكشف والإنارة). هناك تحت الثريا الكبرى، صاحبة المثول، تنمو في المتن التشكيلي عتبات الفصول من (الصمت مليء بالأجوبة) إلى الذات التي أوجعها المنفى، في مفتتح الصمت إستغراق في مفهوم الطبيعة الصامتة، وأشهر رسّاميها الأوربيّين، العروج الى المنجز العراقي للرواد.....

من سرديّات الكتاب، مقطع قصير لحياة فنان وقاص، في ذكرى يحيى جواد (الشّارع أيام الخمسينات، كان مليئاً بالأضواء والعطور، أشجاره لا تحزن ولا تشيخ، تتوسط جانبه الأيسر سينما ريجينتّ، يوم بغداد مثل طفل بريء، لم يدنسها الغزاة بعد، كان يحيى جواد الساكن في مكتبه، إذ عرفته لأول مرّة من خطوطه في مجلتي الثقافة الجديدة، والمثقف حين شدّ إنتباهي تصميم له)، بعدها يأتي المشهد الساخر، حول دعوة حسين مردان الموجهة لسارتر وزوجته، في البحث عن أشياء ضائعة، وسطور عن شاكر حسن آل سعيد (رسام يجمع بين الفكر والفلسفة، كان يعبّرعن إستقلاليته ونمطه الخاص، في ظلّ تأثيرات صوفيّة، بدأ آل سعيد يرتاد ميادين جديدة، فذهب بعيداً في تفكيك الحرف، بنظريته – البعد الواحد، حين عمد إلى الكشف عن الجوهر، في أعماق الأشياء)، تتواتر الفصول القصيرة، والعتبات الصغرى تصرخ، من فرط حزنها، على جداريّة – ناظم رمزي التي تصدرت المشفى، حين شيّد عبد الوهاب فيضي جداريّة بالموزائيك، صورة للطبيب إبن سينا، لكنّ المعاول إستيقظت على جسد المشفى، فلم تبقَ إلا ذكرى المكان...

في محطة ممشى المشاهير محاولة للتشبث بالمخيّلة، حتى لو كانت بسعة الظلّ ( تلك المخيلة، لم تعد قابلة للحضور، كي يستعيد شارع الرشيد، وجوده الماضي الجميل، الواقع خلاف الحلم، الشّارع يرثي مجده المضاع، لم تعد الأماني وحدها قادرة أن تحيل الشّارع الى ممشى للمشاهير في بغداد للأسف، إن مدننا تجهر عن نفسها، فهي مدن بلا ماضٍ).

تقفز العين الى صفحة، يبحث فيها سعد علي، عن مغيث في السماء ( كأنّك تحلم أن ترتقي الى السّماء، مع وجهك الإيقونة، وتوزع أيامك الغابرات مع تلك الخصلة الطائرة، من الديوانية إلى فالنسيا، وجه مثل حبّة قمح، يقاوم الأيام الصاخبة بالموت) ...

في الغربة يلتحف نعمان هادي، مشروعه الفنيّ ( يتذكر نعمان جيداً، أن معلمه فائق حسن نَبّهَ تلميذه إلى أسلوبه المشابه للفرنسي فرانكونارد، في بورتريت – ولد أسود بقميص أحمر، لم يعرف ذلك الرسام إلّا بعد سنوات أثناء زيارته إلى متحف اللوفر، أعماله تحمل إمكانيات البحث والجدل، ولا يمكن للنظرة العابرة أنْ تستقصي كلّ مدلولاتها ومضامينها، إذ ركز همّه على موضوعة الإنسان، والحيز الذي يشغله على خامات العمل، خضعت بمرور الزّمن، إلى التفاوت في الأهمية والدرجة، وكيفية التنفيذ)...

عن صفاء التوجه، في البحث والكتابة، تبدو تجربة جعفر طاعون، متأثرة بالتجارب الفنية الجديدة، وإستلهام معطياتها، في أغلب موضوعاته خلاصة، لعوالم الأحلام والخيالات والأساطير، الحياة والموت، الحبّ والجمال، حضور الإنسان وإختفاؤه، هكذا بات ينظر للكون كبيضة ( عنوان إحدى معارضه)، بمشاركة أكثر من مئة طفل، إنّه يتأمل حياة الإنسان في جزء صغير منه بشكل مغاير، في أعماله نبرة صوفيّة مضيئة، تتصاعد من الداخل، يحاول أن يستعيد فيها، حرّيته في التأمل ...

على هيكل سرير عباس الكاظم بقايا وطن: (نال الفنّان العراقي المقيم في الدنمارك، الجائزة الأولى – بينالي القاهرة 1998، عن عمله (وطن)، وأصبح من ممتلكات متحف الفنّ الوطنيّ المصريّ، إعتمد عباس أسلوب ما يعرف بفنّ التجهيز أو التركيب the art of installation، وهو الفن الذي يعتمد الفكرة كعنصر أساس، إذ قدّم سريراً للنوم من مادة الحديد، يرتكز على كثيب رملي، جلب مادته من الإهرامات المصريّة، وإذا تسنى لأيّ منا أن يتأمل التركيب الفني لهذا العمل، سيجعلنا أقدر على فهمه، إذ ترتقي المهارة الفنيّة، مع البعد الفلسفي، فسيجد أنه مصمم وفق أسس تمتدّ في عمق المعانيّ، التي يحملها التراب، في معنى الوجود (الولادة والموت)....

وقوف ثم إنحناء، هكذا يستمر المثول للجميل، أمّا الجليل فيأخذنا للسجود إليه، تستمر السياحة الى مرفق آخر، في إكتشاف قدرات مكي حسن النحتية التي تزاول الخفاء: كان فناننا قد إنتهل من الروافد والينابيع الرافدينية، إنها اللحظة الفارقة التي شهدت بداية التحولات الثقافية، ترافقها محاولات النفاذ بالتجربة الشخصية إلى أعماق الحياة العراقية، منذ أول تمثال برونزي نفذه حسين – الرجل صاحب الجناح- قبل أن يختار المربع كثيمة تعبيرية في أعماله اللاحقة، كان مكي يبحث بقلق واضح، عن الشكل الرامز لطموحه، في تحقيق شخصية تنسجم وروح العصر، إذ إعتمد خامة البرونز، في أغلب أعماله النحتية وكرّس جهده لتطويع هذه الخامة، وتفجير الطاقات الحبيسة، التي تريد أنْ تعلن عن ذاتها....

تجربة أخرى يتأملها الكاتب بأسلوبه الكافي: عبد الرحمن الجابري، محاولة لوضعها في مسارها الحقيقيّ بسبب من صلته الوثيقة بالحياة، لا يختفي الموضوع في أغلب أعمال الجابري ولا يتلاشى في نسيج اللوحة، إلا أن إشارات لونية تمنح سطح العمل قسطاً كبيراً من الوضوح، مع جماليات تشكيلية لا بد منها لايجاد نوع من التوازن، في مواجهة القلق والمعاناة التي رافقت حياة الفنان، والمصير المحزن الذي إنتهت إليه، شاء أن يبني بيتاً لصغيرته عشتار، لكن خطفوها، كل أمسك بمعوله يهدم الحلم....4060 جمال العتابي

تتوقف العين عند ورقة (تلمس العمق وإبتكار الجوهر)، حول منجزات موفق مكي مكتشفاً المنابع الخفيّة لإمكانات العمارة والتشكيل، إخلاصه للحاضر تمثل في الإستجابة الى الإشتراك بمعرض- فوق الرماد -، ذكرى إستهداف شارع المتنبي، عام 2007، وأتبعه بمعرضه الخاص – إحتضار الكتابة، إستخدم الفنّان مواد مختلفة خشب، قماش على ورق، بطريقة الكولاج، فالخشب على الورق، يوحي لفعل التهشيم، باللون الاسود، كمعادل للإحتراق...

حوارالعتّابي مستمر، مع تكوينات لضياء حسن التعبيريّة: ( إنّ إستلهام الحرف، ولا سيما الآيات القرآنيّة في أعمال ضياء، هو أول الطريق الى التصوّف الفنيّ، إذا جاز لنا التعبير، لأنّ الفكر الصوفيّ بدوره، ينزع الى الحقيقة، في المنحنى الثاني، من إسلوبه نتوقف عند توظيف الحرف معماريّاً أو هندسيّاً، أيّ إستخدام الخطوط المستقيمة، والأقواس والمنحنيات، إنَّ حقيقة الأشياء تكمن في تصميمها، وأنَّ أكثر الذين فهموا التصميم، هم الفنانون ومهندسو العمارة.)....

ما حكاية زياد جسام بعمله المجسم - الكتاب حياة-.. إستثمر فنّاننا بذكاء، ما يعرف بــــ (فن الانستليشن)، فنّ تركيب العمليات الفنية التشكيلية، الذي يقوم أساساً على التداخل المكانيّ، مع موجودات المحيط الواقعي للعمل، وتستخدم عادة مواد مختلفة، وخامات عمل متباينة المصدر، فكرة العمل بسيطة، لكنّها ذات مغزى ثقافيّ.. وهذا النوع من أنواع الفنّ المفاهيميّ –ثلاثة كتب من مواد مختلفة، بلون أخضر مورقة، وممتدة الجذور تمثل عالماً جميلاً، عالم المعرفة والعقل)....

... ذلك الضاحك يصوغ، حياة عراقية متخيّلة: (بشوق لقيس يعقوب، يعود لأربعين عاماً مضت، يوم كنا نقف، في أحدى شرفات (مجلتي)، في الطابق الثامن من عمارة الرواف في أبي نؤاس، نتطلّع إلى دجلة الراحل جنوباً، إنشغل قيس في غربته، بمشروعه الفنيّ المعماريّ، يعتقد أن دائرة الآثار – وزارة الثقافة، منظمة اليونسكو، أو معهد العالم العربيّ في باريس، سيتسابقون من أجل الفوز بأحد مشاريعه، رغم كل ذلك قيس لا يتوقف، ما زال يحلم ويتخيّل .

سيرة الماء والنّار، كتاب الشاعرة مي مظفر، عن الفنان الراحل زوجها، أمير الكرافيك - رافع الناصري- أشهد إن كاتبة هذه السّيرة، تجاوزتْ الصمت الثقيل، وسأم الغياب، سيرة كتبت فصولها ميّ مظفر، بدقات القلب كانت في أغلب الصور حزينة، في قسمات وجهها رموز مجهولة، البورتريت الذي رسمه رافع للوجه الجميل يقول هكذا ...

على سور جامع الخلفاء، يزهو تطويع الحديد، بإيقاع حروفيّ، لهاشم الخطاط: ( شعور بالنشوة السّحرّية يمتلك الحواس، كلما أسعفنا الوقت، بزيارة المكان،،الذي يطلّ عليه جامع الخلفاء، في طرازه المعماري المدهش، لـــ (محمد مكيّة)، وهو يعيد في توازٍ وتواصل حميم مع الروح البغداديّة في العمارة، المشهد يدعو إلى التأمل في كل محاولة، لإكتشاف المعاني الجماليّة للسّور الحديدي، إذ يتصدر واجهة المسجد، بخط الديوانيّ الجلي، لساحر الخط العربي – هاشم محمد البغدادي - وقد علاها الصدأ

بين العمارة والتشكيل، مجاورة مثيرة، وهي صداقة إمتدّتْ لقرون، يوجه بوصلته جمال، الى فضاءات المعمار خالد السلطاني: (ما زال السلطاني منحازاً، الى كشوفاته المعمارية، بحرص متناهٍ ثمة حوار خفيّ بين الصورة والمثال لديه، بين الغائب والحاضر، بين المنظور والمغمور، لكنه حوار محكوم، بإمتحانات الإنسان، مجاهداته وأقيسته، ذلك لأنهّ حينما أقام وحدته مع العمارة، أصبح منحاه الوجوديّ، التاريخ مقروءاً بالصورة، والمعاودة الحرّة للأصوات الداخلية، التي تبعتها العمارة)...

الى غابة الحروف، عند محطة الحرف العربيّ، بنضج خط (الثلّث) وإرتكازه بصورته المثاليّة، على يد هاشم البغداديّ، يعدّ حرف الحاء المفرد الملفوف، لما يمتاز به من صعوبة في الرسم، وجمال البناء والشكل، مقياساً لمهارات الخطّاط، وجودته في الكتابة، بإمكان الفنان، أن يعيد ترتيب الحروف سايكولوجياً، من خلال التأثير الناتج، عن الإيماء والحركة، حرف الحاء بناء معماريّ وموسيقيّ، تتجسد فيه مفردات البناء الهندسيّ، إنها عملية ولادة، ترقّب وطلق، معاناة وعاطفة، الحرف مولود يتحرك ويومض، يولد الحاء حاملاً صناديق أسراره، بإكتماله يتدفّق بهدوء...

يستمر المجرى الى صفحة التراث الحيّ، عند المثول أمام الجورنيكا، حقاً فالحرب ذئابٌ تترصد الأقمار: (الجورنيكا أقرب إلى موسيقى كونية هادرة، ترفض قوانين السكون، أفلاك ترتعش بألوان الأبيض والأسود والأزرق الداكن، لإقتناص لحظات الصراع، مع جنون الحرب، بين الظلمة والنّور، لوحة تفكر ذاتيّاً، بما تختزن من طاقة، في مساحة مسطّحة، ذات إشعاع داخليّ). للأجساد حصة في الجورنيكا، وعن عمارة الجسد يقول البيركامي: - الجسد حامل المعرفة ....

جاذبية الرجوع والحنين، إلى قصر هاملت: (تلوح من بعيد – قلعة الينسور- شامخة، في الفضاء المطلق، يقبل عليها الآف الزوار، تحيل الفضاءات، ومياه البحر المحيطة بها إلى إيقاعات تتجه صعداً الى السماء، وكأنها تدخل في مدارات من الأنوار الساطعة، نظام خارق الجمال من البناء والفن المعماري، ينتابني ذهول في رواميز التاريخ، وحروب القراصنة، أشبة بالذهول الذي أصاب (فرتنبراس) النرويجي، الذي تقلّد عرش الدانمارك، بعد مقتل الأمير الشاب...)، عبارة خالدة لشكسبير، تتلألأ على لسان هاملت:- أن المرء يستطيع التبسم، ما شاء، وهو مجرم أثيم .....

فاعلية الخطاب في سردية – جمال العتّابي، التي تشاغل الزمن، توزعت على أدراج مبدعي الداخل والخارج دون تميز، كذلك تنوّع في التناول شاملاً حقول: الرسم، النحت، العمارة، الخطّ العربيّ، والآثار أيضاً إسترسل بسرديّته المتنوعة، وكأنّها تأثيل لمسيرة التشكيل العراقيّ الحديث، فكان الرثاء حاضراً.

***

عادل مردان

في المثقف اليوم