قراءة في كتاب

الشاعر السوري صقر عليشي في (عواقب الحرير) وَالحديث الشعري المثير (3-4)

مفيد خنسةالفرع الرابع:

يقول الشاعر:

(تقول:

أنا لست رقْماً

وما كنت رَقمْاً،

فلا تنسَ هذا

وسجّله فوق الزمنْ

فقلت:

وما رقم حظي إذنْ؟

**

تقول:

أتعلم أني أتيتُ

بفصل الربيعِ،

أتذكر هذا؟

فقلتُ:

وأين الغرابةُ في مثل هذي الأمورْ !؟

عادةً في الربيعِ

تجيء الزهورْ

**

تحاول أن تتأكد

أني أرى جيّدا

فتسأل:

ما لون شوقي إليكَ

غدا؟)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة العاشقة الواثقة والعاشق الذي يتظاهر باللامبالاة في حوار طبيعي وعقدته (أنا لست رقماً) وشعابه الرئيسة هي: (تقول:/ أنا لست رقْماً/ وما كنت رَقمْاً،) و(فلا تنسَ هذا/ وسجّله فوق الزمنْ) و(تقول:/ أتعلم أني أتيتُ/ بفصل الربيعِ،/ أتذكر هذا؟)، أما شعابه الثانوية فهي: (فقلت:/ وما رقم حظي إذنْ؟) و(فقلتُ:/ وأين الغرابةُ في مثل هذي الأمورْ !؟/ عادةً في الربيعِ/ تجيء الزهورْ) و(تحاول أن تتأكد/ أني أرى جيّدا) و(فتسأل: / ما لون شوقي إليكَ/ غدا؟).

في المعنى:

في هذا الفرع يجمع الشاعر بين الأسلوب الإنشائي والخبري، وفيه يبين الشاعر موقفين متباينين وربما متعاكسين، موقف العاشقة الواثقة وموقف الشاعر الذي يعني ما يقول ببرودة أعصاب ومكر، فقوله: (تقول: أنا لست رقْماً/ وما كنت رَقمْاً،/ فلا تنسَ هذا/ وسجّله فوق الزمنْ/ فقلت/: وما رقم حظي إذنْ؟) أي هي لا ترضى أن تكون واحدة من اللواتي مررن في حياته، وتذكره أن يحفظ ذلك جيداً على مرور الأزمنة عليه، أما هو فيرد من حيث لا تتوقع، ومن حيث لو يتوقع القارئ، أي إذا كانت هي لا ترضى أن تكون رقماً عابراً في حياتها، فهل هو يرضى أن يكون رقماً

في حياتها، وإذا كان الأمر كذلك، يسأل عن رقم حظه بين الأرقام التي مرت في حياتها، وهذه تورية واضحة، فهو لا يريد المعنى القريب من السؤال، إنما يريد أن يؤكد المعنى البعيد، وهو أنه لا يمكن أن يقبل أن يكون هو الآخر رقماً عابراً في حياتها، وإن كان السؤال يحتمل معنى: وهو أن لديها أرقام كثيرة قد مرت في حياته، ويريد أن يعرف ما رقمه هو في حياتها. وقوله: (تقول: أتعلم أني أتيتُ/ بفصل الربيعِ،/ أتذكر هذا؟/ فقلتُ: وأين الغرابةُ في مثل هذي الأمورْ !؟/ عادةً في الربيعِ / تجيء الزهورْ) أي تحاول أن تذكره بشيءٍ كان توقيته استثنائياً في حياته، وهو أنها كانت قد جاءته في فصل الربيع، بينما هو يؤكد اعتيادية مثل هذا الحدث، لأنها كالزهرة، ومن الطبيعي أن تجيء الزهور في فصل الربيع، وقوله: (تحاول أن تتأكد / أني أرى جيّدا/ فتسأل: ما لون شوقي إليكَ/ غدا؟) أي تريد أن تتأكد من أنه قد أصبح واثقاً من حبها وشدة شوقه لها، وهذا المعنى مجازي، ويريد الشاعر أن يبين الصورة الحسية بإظهار اللون الحسي لإحداث مفارقة بين المعنيين الحسي والمجازي، فكان سؤالها عن لون شوقها إليه غدا.

الفرع الخامس:

يقول الشاعر:

(تحاول أن تطمئن لمعرفتي

بخفايا الجسدْ

فتسأل:

ما عمق قلب المحبّ

إذا ما الحبيب ابتعدْ

**

أقول:

ومن هو هذا الذي

سوف يفهم دمعكِ مثلي

ويشرحه للسماءْ

ومن سوف يحفظ،

عن ظهر قلبٍ،

يديك، ورجليكِ، والمنحنى

وتلالَ الضياءْ

ومن هو هذا الذي

سوف يكتب فيك

كهذا الغناءْ؟

تقولُ وقد شردت لحظةً:

بعدُ ما ولدته النساءْ)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة البوح بالحب بين العاشقين وعقدته (تحاول أن تطمئن) وشعابه الرئيسة هي: (تحاول أن تطمئن لمعرفتي/ بخفايا الجسدْ) و(فتسأل: ما عمق قلب المحبّ/ إذا ما الحبيب ابتعدْ) و(أقول: ومن هو هذا الذي/ سوف يفهم دمعكِ مثلي) و(تقولُ وقد شردت لحظةً: / بعدُ ما ولدته النساءْ)، وأما شعابه الثانوية فهي: (أقول: ومن هو هذا الذي/ سوف يفهم دمعكِ مثلي) و(ويشرحه للسماءْ/ ومن سوف يحفظ،/ عن ظهر قلبٍ،/ يديك، ورجليكِ، والمنحنى / وتلالَ الضياءْ) و(ومن هو هذا الذي/ سوف يكتب فيك/ كهذا الغناءْ؟).

في المعنى:

في هذا الفرع يجمع الشاعر بين الأسلوبين الخبري والإنشائي، وفيه يرسم الشاعر صورة الغرام في أقوال متبادلة بين العاشقين، فقوله: (تحاول أن تطمئن لمعرفتي / بخفايا الجسدْ / فتسأل: ما عمق قلب المحبّ/ إذا ما الحبيب ابتعدْ) يشير إلى أن الشاعر يريد أن يظهر المفارقة بين الدلالة الحسية للمفردة والدلالة المجازية، فخفايا الجسد، تحمل معنيين حسي إذا كان المقصود مكونات الجسد المادية، ومجازي إذا كان المقصود المكونات المعنوية، النفس أو الروح أو القلب وما يملك من عاطفة وأحاسيس ومشاعر وجدانية، والعمق: يمكن أن يكون المعنى حسي إذا كان مقصود الارتفاع، ومجازي إذا كان المقصود شدة الشوق وعمق الأحاسيس، ويصبح المعنى، أي تريد أن تطمئن على أنه يعرف خفايا الجسد الحسية والمعنوية، فتسأله كم يصبح عمق قلب المحب إذا ابتعد عنه الحبيب، وهذه كناية على أن القلب يصبح أكثر عمقاً وبعداً، لأنه يختزن ألماً كبيراً، وحزناً عميقاً، وشوقاً لا يقاس عمقه بالمسافات، وهذه تورية واضحة لأن الهدف من السؤال واضح، فهي تريد أن تعرف مدى شوقه وحزنه وألمه إذا ما ابتعدت عنه ورحلت، وغابت عن ناظريه، وقوله: (أقول: ومن هو هذا الذي/ سوف يفهم دمعكِ مثلي/ ويشرحه للسماءْ) يمثل الإجابة عما تحاول أن تطمئن عليه، أي هل يوجد من يفهم حقيقة مشاعرها، ورقة أحاسيسها حين تعبر عنها بالدمع المنهمر على وجنتيها مثلما يفهمه هو ويوضح أبعاده داعياً لملائكة السماء أن تكون لها عوناً، لتفرج همها وتكشف ضرّها، وقوله: (ومن سوف يحفظ،/ عن ظهر قلبٍ،/ يديك، ورجليكِ، والمنحنى/ وتلالَ الضياءْ/ ومن هو هذا الذي/ سوف يكتب فيك/ كهذا الغناءْ؟) أي ويضيف ليطمئنها إلى أنه يحفظ عن ظهر قلب ظواهر وخفايا جسدها، بأسلوب استفهامي، عما إذا أحد غيره يعرف تفاصيل جسدها، يديها الجميلتين، والتفاف ساقيها المثيرتين، وانحناء خصرها الرقيق، واستدارة نهديها البراقين، ومن مثله سيكتب القصائد التي تزدان بالموسيقا، وتتهيّأ للغناء، وقوله: (تقولُ وقد شردت لحظةً: / بعدُ ما ولدته النساءْ) يشير شرودها فيه إلى دهشتها لتحققها من أنه الوحيد الذي يمكن له أن يعرف خفايا جسدها كما يعرفه هو، لأن معرفته تتعدى المظاهر الخارجية الحسية، إلى معرفة خفاياه الوجدانية والعاطفيّة.

الفرع السادس:

يقول الشاعر:

(تسائلني:

ما شعورِ الكلامِ المحلّق

وهو يطيرْ

ما شعورُ كتابٍ تحطّ عليهِ

قصيدةُ حبٍّ

وما هو نوع الأحاسيس للعشبِ

من بعدِ يومٍ مطيرْ ؟

ما اتجاه الرياحِ

إذا عصفَ العشقُ؟

ماذا تقول الينابيعُ

حين يمرُّ غزالٌ بها ؟

وتسألُ....... تسألُ.....

حين ترى لا جوابَ لديَّ

تجيءُ إليَّ

وتتركُ راحتها فوق وجهي

كلاماً أخيرْ)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة العاشقة التي تتوالى أسئلتها للعاشق الصامت وعقدته (تسائلني) وشعابه الرئيسة هي: (ما شعورِ الكلامِ المحلّق/ وهو يطيرْ) و(ما شعورُ كتابٍ تحطّ عليهِ/ قصيدةُ حبٍّ) و(وما هو نوع الأحاسيس للعشبِ/ من بعدِ يومٍ مطيرْ ؟) و(ما اتجاه الرياحِ/ إذا عصفَ العشقُ؟) و(ماذا تقول الينابيعُ/ حين يمرُّ غزالٌ بها ؟)، أما شعابه الثانوية فهي: (وتسألُ....... تسألُ...../ حين ترى لا جوابَ لديَّ/ تجيءُ إليَّ) و(وتتركُ راحتها فوق وجهي/ كلاماً أخيرْ).

في المعنى:

في هذا الفرع يجمع الشاعر بين الأسلوبين الخبري والإنشائي، وفيه يظهر صورة العاشقة التي تتساءل عن حالات الحب السامية، وكيف يتجلى شعور الأشياء الحية والجامدة بها، فقوله: (تسائلني:/ ما شعورِ الكلامِ المحلّق/ وهو يطيرْ/ ما شعورُ كتابٍ تحطّ عليهِ/ قصيدةُ حبٍّ/ وما هو نوع الأحاسيس للعشبِ/ من بعدِ يومٍ مطيرْ ؟) أي هما في حديث مستمر، لذلك يستخدم الشاعر الفعل (تسائلني) بدلاً عن تسألني، وتريد أن تعرف ما حقيقة شعور الكلام في الغزل والحب وهو يطير ويتلاشى مع النسيم؟، وتريد أن تعرف شعور الكتاب الذي تطبع على أوراقه قصائد في الحب والغزل؟، وتريد أن تعرف أي إحساسٍ يشعر به العشب بعد يوم انهمرت فيه الأمطار الغزيرة وسقت الأرض العطشى فانبعثت الحياة فيه من جديد؟!، وقوله: (ما اتجاه الرياحِ/ إذا عصفَ العشقُ؟/ ماذا تقول الينابيعُ/ حين يمرُّ غزالٌ بها ؟) أي تريد أن تعرف اتجاه الريح حين يعصف العشق في محيط القلب؟ وتريد أن تعرف ماذا تقول الينابيع في الأودية البعيدة حين يمر بها أنهكه العطش فشرب منها حتى ارتوى؟، وقوله: (وتسألُ....... تسألُ..... حين ترى لا جوابَ لديَّ/ تجيءُ إليَّ / وتتركُ راحتها فوق وجهي/ كلاماً أخيرْ) أي حين تُكثِر من الأسئلة التي ليس لديه الإجابة عنها، تقترب منه وتضع راحة كفها على وجهه، وكأنها تجيب: إن شعور الكلام المحلق وهو يطير، كشعوره، وإحساس العشب كإحساسه حين تضم راحتاها وجهه المستجيب.

 الفرع السابع:

يقول الشاعر:

(تقول:

مضى زمنٌ يا صديقي

ولم أرَ في الكلمِ العذبِ

حالي

مضى زمن لم أشاهد بهِ

بهو نفسي

ولم أرَ بالي

أليس له من طريق إليَّ مجازك

ألم ينزل الوحيُ خلف مجالي؟

سأزعلُ

خلِّ ببالكَ هذا..

فقلت: أُخلّي ببالي

أمامكِ

لا بد من وقفةٍ متأنيةٍ

للخيالِ

**

أقولُ:

خذينا بحلمكِ

لم يبقَ عند صديقك

متسعٌ

كي يحطَّ بهِ وجدهُ

تقول: وكيف ؟!

وتفاحنا لم يقل بعدُ

آخر ما عندهُ؟)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة العاشقة وهي تذكر صديقها الشاعر بالكتابة عنها، وعقدته (مضى زمن يا صديقي) وشعابه الرئيسة هي: (تقول: / مضى زمنٌ يا صديقي/ ولم أرَ في الكلمِ العذبِ/ حالي) و(مضى زمن لم أشاهد بهِ/ بهو نفسي/ ولم أرَ بالي) و(أليس له من طريق إليَّ مجازك) و(ألم ينزل الوحيُ خلف مجالي؟)، أما الشعاب الثانوية فهي: (سأزعلُ/ خلِّ ببالكَ هذا..) و(فقلت: أُخلّي ببالي/ أمامكِ / لا بد من وقفةٍ متأنيةٍ/ للخيالِ) و(أقولُ: / خذينا بحلمكِ/ لم يبقَ عند صديقك/ متسعٌ / كي يحطَّ بهِ وجدهُ) و(تقول: وكيف ؟ / وتفاحنا لم يقل بعدُ/ آخر ما عندهُ؟).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري وإنشائي، وفيه يرسم الشاعر صورة عتب العاشقة على عاشقها الشاعر بعد أن مضى زمن طويل لم يكتب فيها شعراً، فقوله: (تقول: / مضى زمنٌ يا صديقي/ ولم أرَ في الكلمِ العذبِ/ حالي/ مضى زمن لم أشاهد بهِ/ بهو نفسي/ ولم أرَ بالي) أي إنها لم تجد ما يعنيها من الكلام الجميل الذي اعتادت على رؤيته في كتاباته الشعرية، وقد مضى زمن طويل ولم يتغزل بها ولم تشاهد الصور البهية التي يعبر من خلالها اتساع حضورها لديه، ولم تشاهد تعابيره المجازية التي تتحدث المعاني التي يمكن أن تخطر على بالها، وقوله: (أليس له من طريق إليَّ مجازك/ ألم ينزل الوحيُ خلف مجالي؟/ سأزعلُ/ خلِّ ببالكَ هذا..فقلت: أُخلّي ببالي / أمامكِ/ لا بد من وقفةٍ متأنيةٍ/ للخيالِ) أي لقد رابها هذا الزمن الذي مضى من غير أن تكون موضوعاً لأيّ من قصائده، وهي تتساءل باندهاش: هل المعاني المجازية التي لم تجد سبيلاً إليها؟!، وهي الوحي الذي يلهم الشاعر على إبداع القصيدة لم يستطع أن يخترق مجال حضورها؟ فيثير الخيال ويحرك المشاعر، وتضيف: إنها ستزعلُ منه إذا ما استمر بهذا الانقطاع عن الكتابة عنها، وعليه أن يتذكر ذلك جيّداً وباستمرار، وهو يطمئنها بأنه سيفعل، لأنه لا بد من وقفة متأنية للخيال من أجل أن يحسن الوصف ويبدع في الكتابة، وقوله: (أقولُ: خذينا بحلمكِ/ لم يبقَ عند صديقك متسعٌ/ كي يحطَّ بهِ وجدهُ/ تقول: وكيف ؟/ وتفاحنا لم يقل بعدُ/ آخر ما عندهُ؟) أي يطلب منها أن تعذره لأنه لم يعد لديه متسعٌ كي يقول فيها، لأنه لم يترك فيها شيئاً لم يقل فيه، أما هي فتذكره أنها ما زالت تملك فضاءات جديدة للوجد وفي المقدمة تفاحها الشهي الذي لم تظهر له كل ما يكتنزه من الجمال والجاذبيّة.

الفرع الثامن:

يقول الشاعر:

(أقول:

إلى أين يمكنني أن أطيرْ؟

علوتُ... علوتُ...

ولست أرى من فضاءٍ

أخيرْ

تقول:

تدبّرْ أموركَ،

إن لم تكن عالياً

ما يناسبُ،

خفّضْ سماءَكْ

أنا ما ركضتُ وراءكْ!

**

وقالت:

أأعجبك النهد. قل لي

أراقتكَ تلك الحرارة فيهْ ؟

فقلت:

امنحيني القليلَ من الوقت ...

إذْ، بعدُ، لم أَتَعرّفْ تماماً

عليهْ!

**

أقول:

مضيتُ بعيداً بعينيكِ

يظهرُ أن رجوعي صعبٌ...

ومهما أحاولْ

فقالت:

لتبقَ هناك حبيبي....

لطيفٌ هناك المكانُ.

ولا تنسني بالرسائلْ

**

تقول:

يخامرني الشكُّ أنك تكذبُ

قل لي إذا كنت تكذبُ ؟

لا أثرٌ في عيونِكَ

لا لونَ ينظر نحوي...

سأخنقُ شِعركَ هذا

بكلتا يديَّهْ

فقلت:

رويداً... رويداً عليّهْ

أخبئُ حبكِ في القلبِ

في الجيبةِ الداخليّهْ)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الشك المتبادل في الحوار بين العاشقين وعقدته (إلى أين يمكنني أن أطير؟) وشعابه الرئيسة هي: (أقول: / إلى أين يمكنني أن أطيرْ؟) و(علوتُ... علوتُ... / ولست أرى من فضاءٍ/ أخيرْ) (أقول: / مضيتُ بعيداً بعينيكِ/ يظهرُ أن رجوعي صعبٌ... / ومهما أحاولْ) و(فقلت: رويداً... رويداً عليّهْ / أخبئُ حبكِ في القلبِ/ في الجيبةِ الداخليّهْ)، أما شعابه الثانوية فهي: (تقول: / تدبّرْ أموركَ،/ إن لم تكن عالياً/ ما يناسبُ،/ خفّضْ سماءَكْ/ أنا ما ركضتُ وراءكْ!) و(وقالت /: أأعجبك النهد. قل لي/ أراقتكَ تلك الحرارة فيهْ ؟) و(فقلت: / امنحيني القليلَ من الوقت ... / إذْ، بعدُ، لم أَتَعرّفْ تماماً عليهْ!) و(فقالت:/ لتبقَ هناك حبيبي.... / لطيفٌ هناك المكانُ. / ولا تنسني بالرسائلْ) و(تقول: / يخامرني الشكُّ أنك تكذبُ) و(قل لي إذا كنت تكذبُ ؟ ) و(لا أثرٌ في عيونِكَ/ لا لونَ ينظر نحوي... سأخنقُ شِعركَ هذا/ بكلتا يديَّهْ).

في المعنى:

يجمع الشاعر بين الأسلوبين الخبري والإنشائي، وفيه تتجلى صورة الشك لديها، فقوله: (أقول: / إلى أين يمكنني أن أطيرْ؟ / علوتُ... علوتُ... / ولست أرى من فضاءٍ/ أخيرْ) أي إنه يعلو بالانجذاب والحب إليها، ثم يعلو باطراد من دون أن يرى نهاية لذلك العلوّ، وقوله: (تقول: / تدبّرْ أموركَ،/ إن لم تكن عالياً/ ما يناسبُ،/ خفّضْ سماءَكْ/ أنا ما ركضتُ وراءكْ!) أي مادام اختارها في طلب السمو بالحب فعليه أن يكون عالياً بما يناسب ويكفي، وإلا كان من المفترض أن يختار ما يناسب قدراته وإمكاناته ويخفض سقف أحلامه وأمنياته في العلو، لأنها باختصار شديد لم تجبره على اختياره لها، ولا بد له أن يتدبر الأمر ويكون على قدر تحمل المسؤولية في الاختيار، وقوله: (وقالت: / أأعجبك النهد. قل لي/ أراقتكَ تلك الحرارة فيهْ ؟ / فقلت: / امنحيني القليلَ من الوقت ... / إذْ، بعدُ، لم أَتَعرّفْ تماماً/ عليهْ!) أي إنه سؤال افتراضي ليجعل الأمر عادياً، وكأنها تريه نهدها كما تريه أي شيء آخر لتعرف ما إذا كان قد أعجبه أم لا، فيجيء رده طبيعياً، في أنه يحتاج إلى مزيد من الوقت حتى يمتلئ تماماً من التمتع فيه، وبهذه الصورة، يستطيع الشاعر أن يكشف عن أكثر الأحاسيس والمشاعر عمقاً في حالات الحب بين عاشقين والتي تبقى عصية على البوح، ليجعلها موضوعاً عادياً، كأي موضوع اعتيادي يحصل بين شخصين، وقوله: (مضيتُ بعيداً بعينيكِ/ يظهرُ أن رجوعي صعبٌ/... ومهما أحاولْ/ فقالت:/ لتبقَ هناك حبيبي.... / لطيفٌ هناك المكانُ. / ولا تنسني بالرسائل) يشير إلى حرص الشاعر على إحداث تقابل بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، بين الحسي والعقلي، بين الواقعي والمتخيل، فالجملة الأولى: (مضيتُ بعيداً بعينيكِ) تحمل معنى مجازي، أي أنه أطال النظر فيهما حتى أخذه الغرام بهما بعيداً، حتى توقع أنه من الصعب عليه الرجوع بعد هذا الابتعاد الكبير على الرغم من محاولاته المتعددة من شدة الدهشة والإعجاب، والمعنى مجازي، أي يتوقع أنه من الصعب عليه أن يخرج من حالة الإعجاب والانجذاب إلى عينيها الجميلتين، فيجيء ردها بما يشبه الدعابة على اعتبار المعنى المجازي معنى حقيقياً، فتطلب منه أن يبقى حيث مضى بعينيها لأن مكان لطيف، ولكنها تذكره ألاّ ينساها من الرسائل، لأن الحبيب إذا فرض عليه الابعاد عن حبيبته، تكون الوصية للحبيب أن يواصل حبيبته بالرسائل على الأقل. وهذا التقابل أو الدمج بين المعاني الحسية والمجازية يحدث خلخلة في بنية التركيب الشعري حتى يبدو الأسلوب ينطوي على دعابة لطيفة أو سخرية مبتكرة تكشف عن البساطة التي تصل أحياناً إلى درجة السذاجة، وقوله: (يخامرني الشكُّ أنك تكذبُ/ قل لي إذا كنت تكذبُ ؟/ لا أثرٌ في عيونِكَ/ لا لونَ ينظر نحوي/... سأخنقُ شِعركَ هذا/ بكلتا يديَّهْ/ فقلت: / رويداً... رويداً عليّهْ/ أخبئُ حبكِ في القلبِ/ في الجيبةِ الداخليّهْ)، يبين حالة مشابهة لما جاء في التركيب السابق، إذ أنّ العاشقة يراودها الشك في أنه يكذب عليها في ما يكتب من الشعر، لأنها لا ترى في عينيه آثار الحب الذي يعبر عنه، كما أنها تشعر بنظرات العشق منه نحوها، ثمّ تضيف بأنها سوف تمزق أشعاره إذا تأكدت أنه لا يكتبه لها، فيجيء تبريره بارداً بسيطاً ساذجاً كما كان ردها في التركيب السابق، بأن سبب عدم ظهور علامات الحب في عينيه هو بسبب أنه يخبّه في المكان الأغلى وهو قلبه، لا بل ويخبئه في المكان الأكثر استتاراً فيه، كما يخبئ المرء الشيء الأغلى عليه في الجيبة الداخلية من سترته، ولا أثر يدل على وجود هذا الشيء فيها.

الشاعر السوري صقر عليشي.

***

مفيد خنسه

 

في المثقف اليوم