قراءة في كتاب

عرض لبعض أفكار "مصطفى صفوان" من كتاب ما بعد الحضارة الأوديبية (2)

اسعد شريف الامارة2. العائلة والتنشئة الاجتماعية

يعرض "صفوان" رأي رادكليف برون تعريف العائلة بانها وحدة البنية التي من خلالها تنبني منظومة قرابة، والتي سماها العائلة الأولية، وانتقد ذلك " كلود ليفي – ستروس" بقسوة معتقدًا بفكرة تُكون العائلة البيولوجية نقطة انطلاق أي مجتمع لتحضير منظومته في القرابة. وأتفق معظم المحللين النفسيين واسموه بـ "المرحلة التناسلية" التي لم يحتج على وجودها أول مرة إلا "جاك لاكان"؟  هذا الاعتقاد بغريزة طبيعية تدفعنا إلى الانجاب اعتقادًا أصلب أيضا من الاعتقاد بالغيب، لأنه يمتلك حقيقة أننا مُجهزون بيولوجيًا لتنفيذ هذا الهدف، وهو يضمن لنا إذا جاز القول خلودًا علمانيًا ولا يدهشني أن المحلل الذي أحتج على هذا الاعتقاد كان هو نفسه الذي بين رسوخ نرجسيتنا عبر وقوعنا في أسر شيء مُتلاشٍ إلى أبعد حد، أسر مظهر خداع، وصورة مرآوية " الإنسان ظل الظل" وإذا أخذنا في الحسبان هذا الاحتجاج فالسؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بمعرفة إن كانت المجتمعات البشرية قد شرعت في بناء نُظم قرابتها ليس انطلاقًا من العائلة البيولوجية، أيا كان المعنى الذي نخلعه على تعبير"انطلاقًا من" بل شرعت في بنائه لكي تقطع الطريق على التخريب الناجم عن لغة الأسس الغريزية الممنوحه لتلك الأسرة، والملمح الأوحد الذي يبقى مما ندعوه"العائلة الطبيعية" هو ولادة الطفل من رحم الأم، ولما كان تعيين العامل الثاني لهذه الولادة غير مُتناسب مع اليقين نفسه، فقد ارتبطت معرفته باعترافه: أب الطفل هو الذي يعترف بأن هذا الطفل ابنه، وينقل له اسمه، ففي استبدال المعرفة بالاعتراف تكمن روح الثقافة، وكل نظام قرابة يُفضي إلى نظام إعتراف بين أعضاء المجتمع، ولا نبالغ إذا قُلنا إن اسم الأب يُجسد مثال هذا الاعتراف الأصلي إن لم يكن حجر الزاوية فيه، ومع ذلك تعالوا نتمعن أكثر من مختلف أشكال العائلة.

يدخلنا "مصطفى صفوان" في هذه الصفحات بموسوعة شاملة من أنظمة تكوين الأسرة واتساع العائلة في ترامياتها المتنوعه من الأبوة والانجاب والنسب ومحورها يدور على أساس الوجود وهي المرأة ، الزوجة بصورها المتعددة، صورة المرأة المنجبة، والاب الغائب، وبديله في الانجاب أو في الأرث باستعراض كتاب "ليفي- ستروس" الموسوم "النظرة البعيدة" ومقال "العائلة" الذي يعده كلاسيكيًا، لأنه قائم على تأثير مذهب التطور البيولوجي الذي قاد علماء الاعراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وفي بدايات القرن العشرين إلى افتراض أن العائلة الحديثة القائمة اساسا على الزواج من امرأة واحدة تُمثل شكلًا من تطور على خط واحد أشد تعقيدًا، خط تُميزه في طفولة البشرية ملامح متعارضة تماما كمثل "الاختلاط البدائي" و " الزواج الجماعي". أما ما يُثبت طابع هذا الموقف غير المسموع فهو تضاؤله بالاطراد مع اغتناء علم الاعراق بالمعطيات الجديدة.

وما زال يناقش "صفوان" أراء"ليفي- ستروس" وبرأي "ليفي- ستروس" قوله: تُظهر هذه المعطيات أن نوع العائلة التي تتميز في المجتمعات المُعاصرة بالزواج الأُحادي وسكن الزوجين الشابين المستقل والروابط العاطفية بين الأبوين والاطفال ..الخ كانت موجودة أيضا بوضوح في مجتمعات بقيت في مستوى ثقافي نِصفُه بالأولي، أو عادت إليه. أتاحت هذه الحقيقة نزوعًا عاما إلى القبول غالبًا بان حياة العائلة موجودة في المجتمعات البشرية كلها" كما يذكرها كلود ليفي- ستروس في كتابه النظرة البعيدة في العام 1983 في الفصل الثالث، طبعة باريس. ويذكر"ستروس" أيضًا    قوله: أما العائلة على القران الدائم إلى حد يزيد أو ينقص لكنه مقبول اجتماعيصا، بين فردين من جنسين مُختلفين يؤسسان زواجًا، يُنجبان ويُربيان أطفالًا فتبدو كمثل ظاهرة كلية عمليًا حاضرة في نماذج المجتمعات كافة، ص67" ويناقش "ليفي- ستروس" فكرة العائلة الاحادية بانها مؤسسة حديثة ولكنه يخطئ ويطرح حالات نادرة مختلفة عن الحياة العائلية أي ما نسميه بالاسرة بالمعنى الدارج للمصطلح لا وجود لها على ما يبدو حيث يستشهد بمثال "النايار"  الذي يعدهم علماء الاعراق مثالا ممتازًا على المجتمع الأمومي. ويذكر "صفوان" سوف اعود إلى هذا المثال نفسه لتفحصه عن قرب أفضل أن استشهد نصيا بالوصف الذي يقدمه "ليفي- ستروس" لهذا المجتمع.

عند "النايار" وهم شعب هندي كبير على ساحل مالابار، لا يستطيع الرجال الذين تستغرقهم الحرب أن يؤسسوا عائلة، ولكون الزواج احتفالا رمزيًا خالصًا فهو لا يخلق روابط دائمة بين الزوجين: يمكن للمراة المتُزوجة ما تشاء من العشاق، وكان الاولاد ينتمون إلى السُلالة الأمومية، أما السلطة العائلية وحقوق ملكية الأرض فلم يكن الزوج الممحو أساسًا هو الذي يُمارسها، بل يُمارسها إخوة الزوجة. ويناقش "صفوان" فكرة ليفي -ستروس عند"النايار" بنقلها إلى مجتمعات أفريقيه حيث تسمح للبالغين من القتيان ممن تم تحضيرهم لممارسة مهنة السلاح والتفرغ لها بإقامة علاقات جنسية وعاطفية مُباحة مع فتيات من صفهم ولا يستطيعون الزواج وتأسيس اسرة إلا في نهاية هذه الفترة القتالية. لدينا هنا امثلة تتأسس فيها العائلة الزوجية مع اختلاط تكويني يُجسد النايار مثاله الأكثر تناسقًا، ومن ثم يكمن النزوع العام الذي تراعيه هذه العائلة مراعاة واضحة تقريبًا في الاختلاط الطبيعي للرغبة الذكورية التي يرى ليفي- ستروس ظهورها من جديد على شكل أولي حتى في مجتمعاتنا الحديثة. يستنتج "ليفي- ستروس" بعد أن وجد في العائلات التي يغلب فيها تعدد الزوجات حينًا، وتعدد الازواج حينًا آخر، أن العائلة الزوجية أكثر تواترًا وأنها في كل مكان يبدو أنها تغيب عنه، يتعلق الأمر عموما بمجتمعات مُتطورة جدًا ولا يتعلق كما كان يمكن أن نتوقع بعائلات أكثر بدائية وبساطة وهذا لا يمنع وجود عائلات غير زوجيه – علينا ان نضيف إلى النايار تعدد الأزواج عند التودا في القرن التاسسع عشر وهذه الحقيقة وحدها كافية للبرهان على أن العائلة الزوجية ليست ناجمه عن ضرورة كُلية، ويتسائل كلود ليفي – ستروس إذا لم تكن كُلية العائلة نتيجة قانون طبيعي، فكيف نشرح وجودها في كل مكان تقريبًا" ليفي- ستروس، ص71".

يناقش مصطفى صفوان" اراء بعض العلماء ومنهم ليفي -ستروس، ورادكليف- برون و تود وموردوك و غولييه وأخيرا يستعرض اراء جاك لاكان.

يدل مصطلح "العائلة المُوسعة " على تشكيلات تشمل عدة عشرات من الاشخاص الذين يعيشون ويعملون بأمرة سُلطة مُشتركة. ويضيف "ليفي- ستروس" ويطمئن بعض القارئات الحذرات من كونهن مختزلات إلى الدور الذي تلعبه سلع التبادل بين شركاء ذكور، مؤكدًا أن العائلة "المنحسرة" كما يصفها بالتعارض مع العائلة "الموسعه" ليست هي العنصر الأساس في المجتمع، ولا تنتج عنه أبدًا" بحسب رأيه. وبعبارة اخرى إذا كان المجتمع ثقافة، فالعائلة نفسها "هي" في صميم الحياة الاجتماعية انبثاق هذه الضرورات الطبيعية التي ينبغي التحالف معها. والكلام ما زال لــ "ليفي- ستروس" ويرى " صفوان" أن العائلة الثلاثية أو "المنحسرة" لا تصدر عن قانون كٌلي، لكن ثمة استثناءات، ومن ثم كيف نشرح وجودها في كل مكان تقريبا؟ الجواب هو انها دون أن تكون نتيجة قانون طبيعي تُمثل مع ذلك قيدًا طبيعيا وهو قيد لا تستطيع المجتمعات الموجودة في اسفل سلم الثقافات أن تنفصل عنه، بينما تعرف تلك التي توجد في أعلى هذا السلم، وهذا أقل ما نتمناه لها، كما يضيف "ليفي- ستروس". لقد تجنب "رادكليف- برون" المغالطة المعنية حيث يرى في المقام الاول أن فكرة الطبيعة هي فكرة ثقافية، وهي جزء لا يتجزأ من الثقافة، فضلا عن أن " لويس ماران" في ترجمته البنية الوظيفية، ميز بنيوية "رادكليف- برون" الواقعية عن بنيوية"ليفي- ستروس" المتعلقة بعملية تعقيد، وتكون النتيجة الملموسة أكثر لهذا الاختلاف في أن المُعَلم الانكليزي يميل إلى تفصيل التناقضات والتشديد على تكاملها بينما يدفعها تلميذه الفرنسي إلى الحد الأقصى، ولا ننسى وصفه لشعب "النايار" الذي كما يرى العائلة فيه أحادية الزوجة، وتكون عمليًا غير موجودة عنده، حيث يتضمن هذا الوصف تمييزًا حاسمصا ايضا بين أشكال انتقال النسل الأبوي والأمومي، إلا ان التمييز بين مجتمعات النسل الأبوي والنسل الأمومي كما يعتقد "رادكليف- برون" ليس مطلقًا، بل هو نسبي، رغم أن حتى المجتمعات الأبوية الأكثر صرامة، توجد أهمية اجتماعية مؤكدة للجانب الأمومي من القرابة، كذلك يحفظ الأب وقراباته في المجتمعات الأمومية الأقوى دومًا الأهمية في حياة الأفراد. يؤكد "رادكليف- برون" أن اقتران المرأة النايار بعشيقها اقترانا عاطفيًا متينا يدوم طيلة الحياة، واظهار العاشق شغفه القوي بالاطفال. ويرى "إيمانويل تود" الذي يضع وجود العائلات الثلاثية بحسب رأيه حدًا "للتفكير بالبنية" سواء أكانت هذه العائلات في اوروبا الغربية أم على الطرف الآخر للعالم القديم، أم عند الآغاتا" وهم بقية شعب من الصيادين جامعي الثمار في جزيرة لوزون في ارخبيل الفلبين.

يرى "صفوان" ان المسلمة الأساسية في البنيوية هي ضرورة العلاقات بين مختلف عناصر البنية الاجتماعية: على العائلة، والقرابة، والدين، والاقتصاد، والتربية، والسياسة أن تتوافق لتشكيل كُل منسجم، أما "دوركهايم" فيرى وجوب ربط تصور ديني معين من التشابك الاجتماعي. أما "تود" فيتبنى شكلا منطقيا ىخر: شكل تقليدية المناطق الهامشية أو المعزولة التي أقامها علماء اللغة منذ الفترة الواقعة بين عامي 1915 و 1920 لشرح الخرائط التي تمثل اختلاف اللهجات.

تقود القطيعة مع المُسلَمة البنيوية "تود" إلى الموافقة الأكثر حسمًا من موافقة "ليفي- ستروس" على التصور الذي يُوصي به "روبير لوي" في كتابه مقال في علم الاجتماع البدائي. وفيه نجد ثبات الطابع الكوني والأولي تقريبا في العائلة الثلاثية المتكونة فقط من زوجين واطفالهما التي تظهر في هذا العمل بأسم العائلة الثنائية. يتطرق "تود" على نحو خاص إلى تناول هذا الاستنتاج من جديد في كتاب "موردوك" في البنية الاجتماعية إذ يرى هذا المؤلف أن العائلة الثلاثية تراكم اجتماعي شامل، ولأنها نموذج وحيد للعائلة المعمول بها، أو لأنها وحدة اساسية في الاشكال العائلية المُعقدة فهي تكون في المجتمعات المعروفة كلها مجموعة متميزة ذات وظيفة عالية، ويؤكد عدم وجود أي استثناء في عينة 250 ثقافة تفَحصها، وهو ما يؤكد استنتاج "لوي". وعليه ما ندعوه "1اسرة" بالمعنى الدقيق للكلمة الذي يتضمن زوجين وأطفالهما، إنما هو ظاهرة موجودة، وطالما وجدت في المجتمعات كافة. يعد "تود" أن كل كا بامكانه تأكيده على المستوى الذي  بلغه في بحثه هو توافق الوقائع التي تفحصها مع مجموع من الافتراضات وأولها الافتراض الآتي: كانت العائلة الأصلية من نمط ثلاثي، نواته الأولية القِران الزوجي. ويتابع "تود" شارحًا رأيه حيث يقول: على العكس سوف تظهر الأشكال التي سبق أن عَدها علماء الأعراق الأوربيون قديمه"العائلات الكبيرة، وأصل العائلة" كانها من بناءات التاريخ، ولن تظهر في أية حالة بأنها من بقايا البدائية. ويناقش "تود" ايضا في المحل الأول آخذًا في حسبانه الواقع التاريخي، وهي الحركة العامة في اوراسيا التي تنطلق من الثلاثية إلى الذرية الأبوية حيث يرى أن تعاقب ثلاثة مستويات من النسب الأبوي "بروز البكورة الذكرية، والعائلة الأهلية الأبوية، والانحطاط الجذري لوضع المرأة" وهو تسلسل ملحوظ في الشرق الأوسط والصين والهند الشمالية.

يرفض "غودولييه" رفضًا شاملا تصور العائلة بأنها أساس المجتمع، كما يرفض الرأي المتضمن في هذا التصور والذي بمقتضاه يتكون المجتمع من مجموعة وحدات عائلية، حيث يقول: في رأيي لا يُمكن لأي مجتمع بما هو مجموعة إجتماعية من شأنها أن تتمثل لأعضائها بوصفها كلا وبأنهم يولدونها كما هي، أن يتأسس على القرابة. إنما القرابة ضرورية وإن لم تكن أساسية: فلا تخلو أية لغة حية من لفظة تتعلق بالقرابة. ويضيف "غودولييه" ليست علاقات القرابة قليلة الشان في العلاقات الاجتماعية. ويطرح مثال على ذلك شعب البارويا الشعب الذي درسه عن قرب حيث قضى بينه عدة سنوات قوله: سيكون من العبث تحديد الاقارب من جهة الأم بلفظة قرابات الدم التي قد توحي بأنهم يتقاسمون دمهم مع الطفل على حين أن دم الطفل وعظامه يأتيان من مَني أبيه، بينما يأتي روحه وعقله من أحد أجداده الذكور، أو الاناث بحسب جنس الطفل المنتمين أيضا وحصرًا إلى ذرية الأب. ويرى "غودولييه" لم يستطع الرجال في أي مكان أن يعترفوا ولم يريدوا الاعتراف أصلا بأنهم منبع المحظورات والتعليمات التي فرضوها على أنفسهم، ولم تستطع البشرية في أي مكان وخلال آلاف السنين أن تكتشف نفسها في أعمالها. تكثر التساؤلات والاعتراضات عند أولئك الذين يُثبتون كون القرابة علاقة اجتماعية خالصة، ولا شيء في مضمونها يرتبط بالجنس وبعملية توليد الحياة البيولوجية، وأي عالِم إناسة يعرف هذه الاعتراضات وعليه يجيب عليها: نلامس هذا السؤال الوجودي الذي ارادت الاعتبارات السابقة أن تُجيب عليه: هل توالد المجتمعات البشرية مُجرد ظاهرة ثقافية، أم أنه ثقافي بكلية بحسب عبارة مارشال سلنس؟ وتطرح الاجابة بالاستشهاد القرابة والعائلة عند "البارويا" الذي يقدمه "غودولييه"، فالكلمة التي تدل على العائلة في لغة البارويا هي كومينيداكا التي تعني الكل المتكون من الأب وزوجته وأولاده، ولفظة "كومي" تعني الحميع. العائلة إذا هي هؤلاء الناس في كليتهم. وظهور التضامن الواضح في هذه العائلة، ومن الصفات الواضحة لديهم ايضا منها لا توجد هيمنة الذكورية ولا سيطرة رجل على امرأة، ولا وجود مختلف، أو أنواع القيود على الاجساد، ومن المظاهر المعلنة في حالات الحزن الشديد أن يشنق الرجل نفسه حزنًا على موت زوجته، أو تشنق الزوجة نفسها حُزنًا على موت زوجها، وليس نادرًا أن يحمل أرمل حول العنق شعر زوجته الراحله وبعض عظامها، أو أن تحمل أرملة شعر زوجها وبعض عظامه المأخوذة خلال المأتم الثاني حينما تٌجمع عظام الميت لكي توضع في اشجار غابة الاجداد.

يناقش"صفوان" وضع العائلة الثلاثية التي يدافع عن جانبها الثقافي بحزم دفاع "ليفس -ستروس" لكن ليس دون أن نشاركه داعمين رأيه القائل بأن هذه العائلة تدين للطبيعة" باختراع البشر العاديين" كما يستنتج في نهاية تحليله بعض المعتقدات الاجتماعية التي تتعلق بحمل الطفل، يفترض إذًا بصورة عادية العلاقات الجنسية في كل مكان. وحين العودة الى ما يمكن تسميته بنقاش"مالينوفسكي -فرويد" يُعطي فرويد الحق لأن "عقدة أوديب" كما يقول مستشهدًا بأندريه غرين ليست مبنية حول علاقات سلطة، بل حول علاقات الطفل مع ذاك الذي يُضاجع أمه. ولكن فاتته ملاحظة العكس: اذا كان الأب الحقيقي يُضاجع الأم، فإن من يضاجع الأم ليس الأب بالضرورة، ونحن نعرف الآثار المُزمنة التي يتحملها طفل يُشارك في تجربة لا يعرف أن يستشعر خلالها الدلالات التي يعنيها عدم الاخلاص والخيانة، وبعبارة أخرى ما يتركه "غودولييه" جانبًا في تحليلاته الضيقه، هو ببساطة المعنى الذي يستمده اسم الأب ليس من معرفتنا البيولوجيه، بل من نظام الاعتراف الرمزي الذي تقوم عليه الثقافة.

ويطرح التساؤل فكرة التقارب بين الجنسية عند البشر وكذلك الجنسية عند الكائنات الحية الاخرى، إنما هو ضرورة الاتحاد الجنسي بما هو شرط تجديد الحياة، وهو بحد ذاته تتكفل به الطبيعة، ومستمرة حتى تهيئة فصل للشبق بين الجنسين، والحال أن ليس للشيق فصل عند البشر، هذه الحقيقة لم تمنع " كارل ابراهام" من صياغة نظرية عن تطور الشهوة- الرغبة  الجنسية "اللبيدو" ، التي تبلغ ذروتها في المرحلة التناسلية، وأثبتت التحليلات هذه النظرية بوصفها التعبير حتى عن الواقع، أي ما كان يعرف أو يعتقد أنه كان يعرفه أصلا. لم يرَ أي محلل نفسي باستثناء "لاكان" أن الأكثر ثورية مما حمله التحليل النفسي لم يكن اكتشاف الجنسية عند الطفل، بل اكتشاف طابع الجنسية البشرية غير التناسلي، لا بل الرمزي.

وجد "لاكان" زيف كل زعم بدراسة الإنسان لا يُراعي انغماس "انصهار" إندماج" الإنسان في اللغة، ووجد أيضًا زيف اقتصار آثار هذه المراعاة في اللغة على توليد عقلانية منطقية.

اللغة وسيلة اتصال بين البشر وجميع الناس يقرون بذلك، فضلا عن أن اللغة تنقل قضايا إيجابية وسلبية، وهي تنقل طلبات وحاجات مقابلة، حيث يميز "لاكان" ما تحت الطلب" يقصد هنا ما تحت الطلب هو الطلب غير المٌعبر عنه، الخاص بالرغبة في الجسد"، يقصد هنا هو طلب مختلف عن الحاجة وما فوقها من حيث هو طلب حب، من غير شروط، لا يستجيب له أي موضوع مع انه قد يجعلها رمزًا، لكن اي شريك جنسي لا يكتفي بأن يختزل إلى موضوع حاجة ولا بأن يعاد وضعه ببساطة على قاعدة تمثال الحب.

تقتضي الاجابة على هذا السؤال إعادة النظر في مسألة اللغة من زاوية أخرى غير زاوية علاقتها بالطلب، أعني انها تفتح الباب على سؤال الكينونة فتدخله بطريقتين: أولا من جانب الاختلاف بين الاثبات والنفي، إذ يرجع كل من هذين المصطلحين إلى ثنائية أخرى، ثنائية الصح والخطأ، وتعرف كلتاهما بالرجوع إلى ما تكون الحالة وما لاتكون، إنه المعنى المسمى"وجوديًا" وهو مصطلح غير ملائم، لأن الشيء الذي لا يوجد يجب أن يمر عبر اللغة مع احتمال تأثره فيها بالنفي، أما الجانب الآخر فيتعلق بما يدعى بالمعنى الإسنادي لفعل الكون، ويمكن في ارجاع الدلالة إرجاعا لا نهائيا إلى دلالات اخرى، فليس ثمة من دلالة لا نهائية حتى إن على نظام بديهي أن يترك هامشا لبعض الدلالات غير الموصوفة، وينطبق الأمر نفسه على الذات الناطقة: فالبحث عن معنى أو هوية تمنح كينونتها معنى، إنما ينتهي دوما بتعيين، والجزء الاكثر مادية من الكينونة يفلت من المعرفة وهذا لا يعني انه يفلت من الوجود، وإذا كانت الحالة كذلك ينقلب النقص إلى نقص لاشيء، والحال أن فرويد بدون فلسفة اللغة لكن بصدق نفسي مدهش، اكتشف في نقص الكينونة الموضوع المفقود في حد ذاته الذي  هو سبب الرغبة. يجيب "لاكان" مبينا أن القضيب الرمزي لكونه دلالة على الاستعارة الأبوية، هو في الواقع موضوع مفقود في حد ذاته، بمعنى عدم ظهوره في الصورة المرآوية إلا بصفة نقص ويشار له برمز خاص عند لاكان. وأزاء ذلك تصبح الذات من دون هذا النقص معلقة بهذه الصورة الهاربة، لكنها لا تخدمه بأقل مما يُفكر الآخر، انه الخصاء الرمزي من خلال هذا الحرف الأول من الكلمة الذي يُحيي في المتكلم "الماهوي" أيا كان جنسه، رغبة غيرية. وخلاصة القول أن الرغبة إذ تطبع على الجنسية البشرية توجها إلى ما بعد صورة الجسد الخاص، أو الموضوع المنشود "يذكر اسفل الصفحة مثال الذات ، فالفرق بين الأنا الواقعي والأنا في المرأة، أن "الانا" في المرآة هو المكان الذي تتخيل فيه الذات أمثلة من العظماء والزعماء ترغب التوحد في الزعيم من حيث هو الموضوع المرغوب.

ويؤكد "صفوان" مثلما قلبت اللغة نظام الحاجات بتمريرها عبر عُروض الطلبات، شكل الأوديب المُواربة التي يفضلها يُقاد المتكلم الماهوي" أعتقد يقصد المترجم بترجمته المتكلم الصامت" إلى توظيف شخص آخر من الجنس نفسه، أو من الجنس الآخر بوصفه موضوعًا سببًا لرغبته، الموضوع الذي يجد فيه كينونته. ويقول"صفوان، ص 54" لم تنجح عملية تخطي الأوديب النجاح المرغوب ولم نتعامل في التحليل سواء أكان مَرضيًا أم تربويًا، إلا مع حالات أوديبييه غير ناجحه، يقول "فرويد" إن التوتر بين الأبن والأب لم ينته أبدًا نهاية تامة، وما لم ينته أبدًا فيما أحسب هو الخلط بين الرغبة والطلب، لأن الرغبة ليست سوى إخفاء الطلب، وما الطلب سوى نقص تملؤه موضوعاته الموصوفة بأنها جيدة. يقودنا الرأي هنا إلى أن الشخص المنتمي إلى الجنس القوي، المتمكن ، والمعتقد انه تخطى بانتمائه نقص الكينونة، هو عضوه الجنسي إلى حد تحويل نرجسيته إلى نرجسية قضيبية، ذلك أن هوى السلطة والقوة الذي يمنحه امتلاك الهبة، والهبة المقابلة الذي يملأ مجال رؤيتنا وكذلك امتداد دال "الهبة" الاستعاري إلى أجزاء الجسد الخاص، يثبت كما هو لغات الأرض قاطبة أقول هذا الهوى هو توأم النرجسية، حيث تمتد قوة هذه الاستعارة حتى الجسد الخاص الذي نتحدث عنه كما لو أنه ملكيتنا ، "تملك" جسدًا وفي الحقيقة نحن لا شيء من دون هذا الجسد، وبقدر ما تستلم البنت أيضا لهذا الخلط بين الكينونة والتملك، بين الرغبة والطلب، حيث تثير الرغبة في القضيب الذي يظهر أن جماعة الذكور مُزودة به، أو على الأقل تُعوض عن غيابه بما تمنح صورتها أمام المرآة من عناية خاصة، فالنرجسية النسائية المشهورة نظير النرجسية القضيبية الذكورية الأقل وهمًا. يسأل "موريس غودولييه" مشيرا في خاتمة كتابه إلى ما يحدث في أيامنا " ثقافة الطلاق، ومراقبة الولادات، والزواج المثلي، والانجاب بالمساعدة..الخ عما يُمكن أن يكون رأي "فرويد" و "لاكان" في ذلك، أتخيل أن فرويد كان سيجيب بأن عقدة أوديب تصدر عن كلية الأسرة، أو العائلة الثلاثية حيث تربي الطفل أم، حتى لو ميزها عن الامهات الصغيرات، أب حتى لو ميزه عن الاباء الصغار، انه إذا أب يعني له حتى الاسم عالم القانون حيث يتماشى المحظور والمسموح ولا يتعارضان، اما الباقي فسوف يدعنا فرويد نأخذ على عاتقنا أمر مواجهة نتائج اندثار هذه العائلة. أما "لاكان" بالتأكيد سيرى فيه إثباتًا لما قاله دومًا، أي عدم وجود علاقة جنسية.

***

د. أسعد شريف الامارة

 

في المثقف اليوم