قراءة في كتاب

الرواية العربية من النشأة إلى التجريب.. قراءة في كتاب د. يوسف نوفل

4106 يوسف نوفليتابع الدكتور يوسف نوفل في كتابه "من نافذة السرد"* بدايات الرواية العربية، وأهم سماتها . ويوظف لهذه الغاية اسلوبا جغرافيا. فيصنف الاعمال المبكرة حسب تاريخ ومكان صدورها . ثم يتوقف مع نوع بحد ذاته وهو الرواية التاريخية دون اعتبار لبلد المنشأ. وفي النهاية يجد نفسه حائرا. ويتساءل: هل الريادة تاريخية ام فنية؟..

وبالفعل يصعب الاتفاق على تحديد معنى الريادة في فن عربي طارئ وليس له أشكال تراثية متبلورة. وترتب على ذلك عدم وجود اتفاق على حدود وتوجه النوع بشكل عام. فقد تداخلت المسميات لدرجة مخيفة. وأمكن للرواية الحكاية والرسائل والمسرح أن تحمل اسما واحدا. وكل هذا التداخل يدل على مشكلة في الوعي الفني. ومن وجهة نظر شخصية أعتقد أنه علينا تبني 4 محطات أساسية.

الأولى هي "غابة الحق" لفرنسيس المراش، وهي الأسبق من الناحية التاريخية. فقد صدرت لأول مرة عام 1865، ولكنها لا تبتعد كثيرا عن الأعمال التعليمية التي تأتي بصورة إشراقات. غير أنها تميز بين الوحي والأحلام، وتقر أنها ليست وسيطا بين الصورة الكلية والروح، مثلما فعل من قبل جورج بونيان في "رحلة الحاج" الصادرة عام 1678. وسيكرر جبران وبعده نعيمة هذا الأسلوب في "النبي" و"مذكرات الأرقش". وهذا دليل آخر على المصادر الغربية للمراش في شكل الكتابة واتجاه الخطاب. وإذا خيمت على "غابة الحق" أجواء حالم ومفكر فقد اختار نعيمة وجبران أشكالا نصف حلمية ونبوئية يغلب عليها التفكير الذاتي واستنتاج المعرفة من مصادر شخصية هي الخبرة والتأمل.  وببساطة كان المراش يبحث عن المبادئ الأساسية لتحرير المعرفة من شرط الوحي والإلهام، ولإعادتها إلى مكانها الطبيعي وهو التجريب والعقل. حتى أنه يبدأ مقدمته للرواية بصورة لعلم خفاق يحمل عبارة العلم يغلب. ولا يفوته الذكاء ليشير إلى العالم الجديد (يسميه باسمه الصريح وهو أمريكا) وحروبه ضد الشرائع القديمة.

ومهما حاولت لن تسجل أي رواسب للتراث العربي. وأي مقارنة مع مذكرات ثقافية من نوع "المنقذ من الضلال" للغزالي مثلا تؤكد هذه القطيعة. فأسلوب المراش ذاتي وتجريبي بوقت واحد. بينما أسلوب الغزالي ذاتي وحجاجي.

المحطة الثانية هي "مرشد وفتنة" لنعمان عبده القساطلي، وقد صدرت عام 1881، وأرى أنها كسبت قصب السبق من ناحية المضمون. فقد كانت أقرب لجونا المحلي، وتتقاطع مع سيرة أبي الفوارس، ومع جزء هام من الذاكرة الشعبية للراوي المجهول الذي ساهم في ترقية "ألف ليلة وليلة" من مجرد تسلية باردة في جلسات المنادمة والسمر إلى حبكة عجائبية غريبة تساعد الإنسان البسيط على تحمل ومقاومة ظروف الحياة الصعبة وما يتخللها من تقشف ومجالدة ضد الطبيعة. وقد استعمرت تقتنية الأدراج والجيوب هذا العمل البسيط وتفرعت حكاية الإطار إلى كثير من قصص العشق المكبوت والحريح وإلى حكايات حافلة بالدسائس ومواجهة المخاطر والجهاد الدنيوي لأجل غايات أسمى وأرقى. وتستطيع أن توجز ما سبق بنقطتين.

هذه الرواية تعريب لروايات الفروسية الغربية مع استبدال للغابات والأنهار والجبال بالرمل والصحراء ومضارب البدو.

وهي تصعيد للأنا المفردة والنرجسية والمغرورة إلى أنا نرجسية تقتدي بمثال أعلى. وغالبا ما تحرض الغرائز والمحاكاة على تكوين عناصر هذا المثال. ولذلك كان الصراع دراميا وأصيلا ويدور بين أجزاء أساسية -مكونات أولية في البناء بتعبير لاكان، وهما اثنان: موضوع الرغبة وصورة الأب. وبتتعبير آخر يتنازع توجيه الحبكة محور شخصي يتغلب عليه الابتكار وضمان أفضل طريقة كي تشبع الذات المفردة ميولها الخاصة. ومحور شمولي يلعب دور الرقابة التي تفرض قانون الأب وتحدد المسموح به والممنوع. وأعتقد أن هذا البند هو اختصار لخلاصة التجربة الفنية والذهنية مع الماضي أو التاريخ اللاتاريخي. وهو ما أفضل تسميته بالجانب اللاهوتي من التجربة.

المحطة الثالثة هي "المملوك الشارد" لجرجي زيدان. وصدرت عام 1891، وسبقت "17 رمضان" الصادرة بعدها عام 1899 والتي يعتبرها الدكتور نوفل محطة رائدة ومبكرة في فن الرواية. وأرى أنها مثال رائد ومبكر على النضج والوعي الفني لحدود النوع. فقد قدمت جرعة متطورة تحقن الواقع بالخيال. وكان موضوعها سيرة أمين باي وفراره من مذبحة القلعة. ولا يمكن أن تعزل فيها الجانب التاريخي عن الإضافات. وكانت شخصياتها صامتة، بمعنى أنها تعيش وتتطور في داخل البنية، وتترك لنا استنتاج معناها. ويتآزر في إنتاج المعنى الحوار والوصف الخارجي. ولم تكن تخلو من المونولوجات، ولكن ليس بأسلوب تيار الشعور، ولكنها كانت أقرب للتفكير والتأمل. وهو جزء أساسي من أي مونودراما مع فارق واحد أن أبطال المونودراما يفكرون بصوت مسموع، بينما كنا نشترك مع أبطال زيدان برؤية أفكارهم. بمعنى أنه اعتمد على التشارك بالإبصار. وهو ما مهد الطريق لاحقا لما نسميه نشاط الرؤيا. وبودي أن أضيف إن روايات تاريخ الإسلام ليست أقل بأي شيء عن روايات محفوظ الفرعونية. وربما كانت أقرب للمنطق ولديالكتيك الرواية، بينما اختبأ محفوظ وراء أسماء ميتة مفصولة تماما عن حركة المجتمع المعاصر، مع لغة مبالغ فيها، وهو ما تخلى عنه لاحقا في أعماله الاجتماعية التي أعاد بها تركيب الحارة المصرية. ومهما كانت الاتهامات التي واجهها جرجي زيدان فإنها عاجزة عن انتزاع الريادة منه. وبالأخص أن مشروعه تواصل باتجاه واحد وهو قصص الفروسية التي تخللها حكايات غرام رومنسي ومأساوي. كما أنه عمد لترتيب أحداث المدونة وانتخب منها الخفايا والأسرار، وانتقى الشخصيات المعروفة. ومثل هذا الأسلوب كان أفضل طريقة لفتح الصندوق الأسود من تاريخنا المسكوت عنه، ولذلك لعب دورا تنويريا حرك العقل العربي النائم. ولا أستطيع أن أقارن هذا المشروع إلا بكتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، وكتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين. وإن لم يصحح الوقائع فقد صحح المسار، وقدم خدمة لا يستهان بها لوظيفة التأويل على حساب القراءة السكونية. وبتعبير الدكتور نوفل لم يكن زيدان تبريريا ولم يحاول أن يغطي السلبيات، وتحلى بروح المسؤولية التاريخية دون أن يضحي بروح المسؤولية الفنية. وبذلك يكون مثل عميد الرواية التاريخية والتر سكوت، قد توقف عند لحظات تازيم واختتاق شهدتها الذاكرة الوطنية - بمعنى الماضي الذي يلعب دورا جوهريا في صياغة الواقع. وليس الذاكرة المنهوبة (الوسطية بلغة عبد الحميد إبراهيم). وهي ذاكرة مسلوبة الإرادة وتوفيقية ويغلب عليها الخوف من مواجهة الذات وأخطائها مع التستر وراء المشاعر والأوهام والإشاعات غير الثابتة. والحقيقة أنه لا يوجد في الفن ولا التاريخ أنصاف حلول أو حقائق وسطية. وبتعبير آخر لم يرتكب زيدان جناية ضد التاريخ الإسلامي، بل كان مخلصا لمبدأ العدالة الفنية. والرواية أصلا مولود غربي، ولا بد أن يكون أسلوبها مشحونا بالعقلية المنتجة لها. والقانون رقم واحد في أي رواية أن تبحث عن عقدة، وتترك للشخصيات مهمة تطويرها حتى تصل إلى حل، وهذا هو مبدأ كل الأعمال الخالدة ابتداء من "الحرب والسلم" 1867 لتولستوي وحتى ثلاثية "قصر الذئاب" 2009 لهيلاري مانتيل. فهي كلها تتابع جدلية دامية بين الميول الطبيعية للرخاء والميول الانتهازية التي تحض على العداء والتنازع. ولو لا فهم زيدان لعقلية مصادره لما أتقن لعبة إسقاط الفكرة على الصورة.

تبقى لدينا ثلاث نقاط بمنتهى الحساسية.

الأولى أنه خدم في الاستخبارات الإنكليزية. وهذا لا يكفي لاتهامه بالتجسس والخيانة ومحاولات تخريب سمعة المسلمين. فقد عمل سومرست موم وغراهام غرين مع المخابرات. ومع ذلك كتب كلاهما عن قلق ومآسي الشرق، مع دعوة صريحة لتحرير الإنسان الضعيف من سيطرة وتنمر الحضارة الأقوى. وكان غرين يعد خصما للإمبريالية الغربية، وهو ممنوع من دخول أمريكا.

 الثانية أنه ماسوني خدم الدعوة اليهودية المشبوهة. وكانت الماسونية موضة عند جميع المثقفين، وهي لا تختلف عن النوادي والحلقات - المنتشرة في جميع أرجاء أوروبا بدءا من نوادي الكتاب وحتى النوادي الرياضية. وإذا كانت هذه التجمعات تشكل بؤرا تجذب انتباه ويقظة السلطات فهي بنفس الوقت يمكن أن تكون هدفا أو غطاء للجواسيس. عموما طاردت تهمة التآمر كل رواد حركة الإصلاح. وهذا يساوي بين شيخ معمم مثل الأفغاني والكواكبي وبين مسيحي متأورب على شاكلة جرجي زيدان.

النقطة الثالثة والأخيرة أنه ضعيف الإحساس بالروح الوطنية، وفضل التفسير الحضاري لمحنة الأندلس على التفسير القومي. وربما المقصود هنا أنه قرأ حروب الأندلس بمنطق صدام الحضارات وليس على أساس عرقي أو ديني. وهي تهمة عانت منها جامعة الدول العربية (باعتبار أنها مؤسسة تخدم الدول وليس دين الدولة)، وكذلك جميع الحركات العسكرية والانقلابية التي استبدلت حكومات الاستقلال بجمهوريات. وبالتأكيد هي تهمة ليست في محلها وتدخل في استراتيجية الحرب الباردة. وهذا لا يعفي الانقلابيين من التورط بالفساد وعدم الكفاءة في إدارة مجتمع قانون الطوارئ. ولكن هذه حكاية مختلفة وهي أصلا امتداد لحبكة فساد العثمانيين وما ترتب عليه من مظالم وانتشار للخطيئة والحب الزائف (موضوع خصص له زيدان روايتين هما "الانقلاب العثماني" و"جهاد المحبين"). ثم إن أي كلام عن مضمون قومي ستكون له مرجعية أوروبية. فالقوميات اختراع أوروبي وأتى ليعبر عن تضخم الذات وصعود التفكير الرومنسي وانقسام الكنيسة بين أصوليبن وإصلاحيين. بينما كانت فكرة العروبة جزءا لا يتجزأ من الصراع على الدولة. في أول الأمر لتحويل الحكم من عسكري إلى مدني، ثم لتحويله من نظام إقطاعي إلى بورجوازي. وإذا كانت أول نظرية من إنتاج المثقفين العرب في بلاد الشام فالثانية كانت بتحريض من البورجوازية الغربية، ولتقليم أظافر العثمانيبن قبل خنق بقايا دولتهم القديمة واستبدالها بجمهورية أتاتورك. ومع أنها وضعت عمليا حدا لحركة الإصلاح والتحديث وأقامت على أنقاضها حركة علمانية نهضوية تبقى صوت دولة مهزومة خسرت الحرب عام 1915 (الموضوع المفضل لروايات التركي أورخان كمال Orhan Kemal ).

إن الجانب الرسالي عند المسلمين قد انتهى في حقيقة الأمر بعد حسم مشكلة التوحيد والدخول في مشكلة الفتوحات، وما رافقها من نزاع على الدولة ابتداء من فتنة عثمان. وهو موضوع قالب الرواية للتاريخية، لأنه يتكئ على نقطتين: في المركز خبايا ودسائس البلاط، وفي المحيط البطولات الخارقة والسهر على سلامة الأمة. ويربط بينهما بالتبادل حكايات الغرام العفيف والخطيئة، وما ينجم عن ذلك من صدام بين المبادئ ومعنى الأخلاق في عالم يتعرض للتبدل وللانتهاك باستمرار. ولذلك لم يكن زيدان من اختار حبكة القتل والتآمر، بل هي من اختارته.

المحطة الرابعة والأخيرة هي "زينب" لمحمد حسين هيكل الصادرة عام 1913. والحقيقة لدينا إجماع عليها، ولكن أعتقد أن الفضل يعود لاتكالنا على جهد الدكتور عبد المحسن طه بدر. فهو أول من عقد لها الريادة في كتابه التأسيسي "تطور الرواية العربية في مصر" الصادر عام 1963، وتبعه الدكتور سيد حامد النساج - غير أن الدكتور نوفل يشير عن وجه حق أن النساج عقد لواء الريادة -بمعنى التبكير والأسبقية وليس الجدارة- لحميد خضر البوقرقاصي مؤلف "حكم الهوى" الصادرة عام 1904. والحقيقة أن النساج لم يخالف الدكتور بدر بوجه عام، واتفق معه بكل ما يتعلق بعلامات النضج وبلوغ سن الرشد. وسار البقية وراءهما دون تمحيص أو مراجعة. وربما كان وراء ذلك سببان، الأول أن هيكل مصري. وكتب بأسلوب مباشر ومبسط عن رموز إسلامية هامة من بينها كتبه "حياة محمد" و"حياة أبو بكر" وبقية الخلفاء الراشدين باستثناء علي (وأرى أنها مسألة جوهرية إذا أضفنا لها انتماءه السياسي وهو حزب الأحرار الدستوريين)، وكان الشارع يميل لأسلوبه العاطفي المدعوم بالتمجيد والتجسيم. بينما لا يخفى على أحد أن زيدان مسيحي مهاجر من بلاد الشام. وأية قراءة في رواية "زينب" ستسجل مباشرة اغتراب الشخصيات عن الواقع، حتى أن الريف المصري كان يبدو إلى حد كبير صورة عن الريف الأوروبي. ولا يمكن أن تجد أية شبهة لفكر طبقي أو تحرري إذا استثنينا موقف الأخلاق الريفية من مشكلتين هما الحب وحرية النساء. والبند الثاني يتضمن عمليا تعليم البنات. وبشكل عام كان هيكل أحد رموز الجيل المتحول الذي طرأت عليه طفرة تحضير الثقافة العربية بطريقة هجينة ومعولمة (إن صحت العبارة). حتى أنه بشر بظهور شريحة التكنوقراط وتبنى نفس دعوات المراش لتطبيق ثمار العلوم الغربية (كما تقول ون جين أويان في كتابها عن نوستالجيا الرواية عند العرب). وقد اتبع أجندا إدارية وليس تربوية. وهذا أهم فرق بينه وبين رائد اجتماعي آخر كالمنفلوطي من جهة والشرقاوي من جهة معاكسة. فقد كان يدير موضع الشخصيات من شبكة أفكار خارجة عنها. ولذلك تطور أبطال روايته "زينب" بشكل صوري. بتعبير آخر كانوا مساحة حرة ومفتوحة لإسقاط ثقافته الغربية عليهم. وكانت مصر مجرد خشبة مسرح أو ديكور مستعار لشخصيات وأذهان وافدة. ولا يمكننا أن نطالب هيكل برواية "عرقية" - أدواتها غير مستعارة، لسبب بسيط وهو أننا لم نبتكر فن الرواية، واقترضناه من الآخر -الغريب - حتى أن العربي في نتاجه الروائي لا يختلف عن عطيل بشيء، وهو قشرة، أو قناع، ليمرر أدوات نكتب بها أنفسنا ونعيد تركيب خبرتتا مع الواقع والتاريخ.  ولا تخلو القصة من هذا الإشكال، فالعجيلي، أحد رواد القصة العربية، كان يحمل هذا الانقسام الهوياتي.. المضمون عروبي وبدوي وتغلفه نوستالجيا عميقة وقوية لماضينا في الأندلس ولحاضرنا في نكبة فلسطين، لكن الأدوات فرنسية. ويوجد صدع داخل المنظومة - التفكير والبنية - الشكل. وكان مخاض القصة لديه أشبه بطفل الأنبوب، التخصيب خارجي وبتدخل طرف ثالث third party.

ويمكن أن نكرر نفس الكلام عن من سبقه من الرواد، وبالأخص المصري محمد تيمور الذي بدأ بالنشر في مجلة السفور عام 1917 والسوري فؤاد الشايب مؤلف "تاريخ جرح"، وهي مجموعة قصص صدرت عام 1944. وقد حملت التجربتين بصمات القصة الروسية المشوبة بكثير من الدسائس والتأملات الموباسانية. وأعني بالدسيسة والتأمل الانطباع الكئيب والأسود والذي تغلب عليه روح الهياج النفسي. وبوجيز العبارة كان فجر القصة العربية مدينا بكل شيء لبطل تشيخوفي وضعته الأقدار أمام مرآة الطبيعة، ولعلاقات موباسانية تعاني من رهاب العجز والسقوط. ويمكن أن تلاحظ أن هؤلاء الأبطال لم يكونوا جوهرا مستقلا لذواتهم وتطلعاتهم، ولكنهم وحدات ذهنية مرشحة للتجزئة والانشطار ولبلوغ نهاية تراكمية وليس تكاثرية. وهذا يضع القصة العربية على مفرق الطرق. فالتراكم يعني الجوهر الواحد الذي يستعمر ذاته، والتكاثر يعني التعددية. ولم يكن يخلو أحد من هذا الخلل الوضعي. وتوجب علينا أن ننتظر جيل الخمسينات لتحويل البنية من قالب صلب إلى إيقاع. وأجزم أن الفضل بهذا التحول النوعي يعود ليوسف إدريس في أولى أقاصيصه وهي "لعنة الجبل" المنشورة في روز اليوسف عام 1950. وهو توقيت متأخر بكل المقاييس. وقد أكدت على هذا الاتجاه لاحقا إضافات نجيب محفوظ، وبالأخص في مجموعة تعتبر معجزة في فن القصة، وهي "دنيا الله" الصادرة عام 1962.

ولكن بالنتيجة لا يوجد فرق فكري أو إيديولوجي بين هذه المحطات على اختلاف منشأها وتوقيتها. فهي لحظة مفارقة لا تصل لدرجة القطع المذهبي لمشكلتنا مع المعرفة، وتجمع كلها على مبدأ واحد وهو الرياء الإيجابي. بمعنى أنها تهادن الأصول ولكن لا تدين لها بأي شيء. وإن شئت الحقيقة لا يوجد سرد ولا خيال فني عربي. وحتى بالنسبة للسير الشعبية فهي لا تخلو من الأفكار الوثنية العجيبة ومن تصورات تضع البطل موضع الإله. ولا يمكن أن لا تنتبه للتشابه الغريب بين شخصية أبي الفوارس أو عروة وأبناء الآلهة في اليونان القديمة. بتعبير آخر مثل هذه المبالغات كانت تخدم الخيال أكثر من أساليب التعبير عنه لغايات واقعية.

ولذلك لا أجد أية علاقة بين الخيال الناطق بالعربية والوجدان العربي. والمسألة هي مسألة دوبلاج. ولو نظرنا لتاريخ انتشار ظواهر السرد ثم الدراما عند العرب ستلاحظ أنها بدأت في وقت متأخر، بعد أن خبا الشعر التاريخي.. أقصد لحظة صعود الحساسية الشعرية وانحدارها لتفكير وتصورات نثرية. ويمكن أن تقول نفس الشيء عن الرواية الحديثة. فهي قد بدأت بشكل حركة تعريب وتحولت إلى استعارة وإسقاط. ونحن نستعمل أدوات الرواية الغربية مثلما نستعمل الكومبيوتر والطائرة والسيارة. وبلغة أوضح هي تجميع لأدوات ثقافية من أجل غايات خطاب نوعي وذاتي. ولذلك يغلب عليها الإعراب عن فكر جزئي وغير شمولي. وأعتقد أن رواياتنا بدأت من نقطة تجميع وانتهت إلى نقطة تجزئة. وحاليا نحن في لحظة تجزيء المجزأ. وأهم الأعمال المعاصرة مبنية على التكرار -نسميه تفريع الحكايات والأفكار. إنها مجرد محاكاة تنعكس في مرايا متقابلة حسب المبدأ المعروف في تكرار الصورة لصورة مثلها. وهو أساس فكرة خطوط الإنتاج وتحول الإنسان إلى آلة بشرية ترعى الآلة غير العاقلة وتخدمها. وتحول ذلك لاحقا بضغط من حركات ما بعد الاستعمار إلى وهم بالتأصيل. لكنه وهم حقيقي يعبر عن أجندا جديدة.

والسؤال الذي يخطر لي دائما كيف نؤصل فنا ليس له جذور ملموسة في ماضينا الفني. وما علاقة فانوس علاء الدين والبساط السحري بالثورة الإسلامية أو أوثان الكعبة وشبكة العلاقات المرتبطة بها. لقد لعبت تلك الحكايات دورا أساسيا في تنويم العقل العربي وتوسيع الفجوة الحضارية، بعكس الرواية الحديثة فقد لعبت دورا تنويريا. وفتحت نافذة في جدار الرجل النائم، وبلغة أوضح فاقمت من دراما الحلال والحرام. وهو ما تحول الآن إلى دراما الممنوع والمسموح.  ولذلك لا يمكننا الحديث عن أجناس دخيلة. فالجذور من ناحية عرقية وحضارية من الدخلاء أيضا. وإلا ما معنى أن يكون اسم بطلة ألف ليلة هو شهرزاد واسم البطل هو شهريار؟.

لا أتردد لحظة بالقول إنه استعمار ناعم. وقد أدى دوره في تعميم ثقافة اتكالية وعاجزة كما فعلت السير من قبل. فهي بالمثل نشرت ثقافة خرافية تؤمن بدور الشياطين والملائكة في تبديل المصائر. إن الكلام عن حدود سائلة للنوع يخص المصادر الغربية. بينما نستطيع أن نتكلم في مجالنا عن غياب للنوع. وعن نوع جامع ناطق بالعربية يعبر عن ألم نوعي ولكن بتوجه عابر للحدود والأجناس. ويؤكد الدكتور نوفل على هذه الحقيقة حين يعترف أن جيل الستينات أرسى فن السرد وبمقاييس إنسانية تختزل المستويات التي بلغها هذا الفن في العالم. وإن كان هم الرواية الأوروبية المعاصرة يركز على علاقة الإنسان النظري ببيئته العملية - هم الرواية العربية هو حل علاقة الإنسان بالإله، وشكل الإله متعدد، ويمكن أن تقول إنه تحول إلى آلهة تبدأ من جزئيات الواقع المحلي كالأب والسلطة وتصل إلى عموميات حضارية مثل المعرفة وآلة الحرب والمؤسسات الدولية وغير ذلك.

وربما هذا هو سبب نهاية وموت رواية الحبكة الثقيلة -أعمال جيل نجيب محفوظ وحتى جبرا جبرا والدخول في حقل الرواية المضادة - ما يخلو من العقدة المركزية ويتابع تصدع ومعاناة أفراد متشابهين في أرض متكررة. وهنا يكون قانون الاختلاف داخليا. الشيء يختلف مع نفسه لتبديل حقيقته وليس مصيره أو اتجاهه فقط (في الذهن "مجمع الأسرار" لإلياس خوري و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح). والمعاناة موزعة وتشبه أسبابها مثل أي عصاب. بمعنى أن السبب هو أعراض الداء نفسه (والتعبير للاكان).

وبالنتيجة أرى أن الخيال الفني مر بلحظتين. الأولى في العصر الوسيط، والثانية في منعطف القرن العشرين. وكلتاهما لمواجهة هبوط في حالتنا الوجودية، ولسيطرة العجم -ثم البورجوازية الأوروبية على مفاصل أساسية في حياة الدولة والمجتمع. لكن أول لحظة بشرت بتعتيم وإظلام شامل، والثانية بشرت بنخبة. ودراما هذه النخبة وخياراتها سيكون هو قالب ومحتوى الرواية، ونحن نعيش في هذه اللحظة حتى الآن. وأبرز ما يميزها أمران.

خطأ في التفسير. وسببه المكابرة وعدم الاعتراف بدور الليبرالية الغربية في كبح جماح ثورتنا ثم في محاولة تدجينها لتكون ثورة ناقصة.

وخطأ في الاتجاه. وسببه الخوف من الحقيقة، والانفتاح على الأمية الثقافية. ولا يوجد أي عتب على الغرب في هذا المضمار، فهو خطأ محلي، وناجم عن إيمان المثقف بالأمر الواقع وليس باتخاذ موقف جدلي منه. وهنا أود الإشارة لفرق أساسي بين القبول والإيمان. أول حالة لا تدل على وجود تعاقد ولكن مساكنة، وثاني حالة تشترط العقد الشيطاني والمذل الذي وقعه فاوست، وبعده دوريان غراي (بطل أوسكار وايلد المعروف)، ولاحقا بطل مسرحية "قارب بلا صياد" لأليخاندرو كاسونا. وهاجم هذه التراجيديا صدقي إسماعيل بوقت مبكر في كتابه الصغير والهام "الله والفقر"، وتناول ازدواجية الثائر الذي يرهن حياته لشيطان يأتي بصورة قدر أو صدفة أو فرض.

ومنعا لأي التباس أجد أن الشعر العربي كان أوليا، بمعنى أنه جزء من التكوين ولا يمكن اختزاله لشيء قبله. في حين أن الرواية فن قبلي priori. وتستطيع أن تفككه لمكوناته، ومن ضمنها الأفكار. ولا أعتقد أن اهتمامات المقامة وألف ليلة هي نفسها اهتمامات "زينب" أو "المملوك الشارد"، فقد تغلب الخيال العلمي والنكتة السوداء (في الأصول)، بينما كانت الرواية الحديثة تراوح بين نوعين من أنواع الألم: جراح الذاكرة والواقع. ولا يوجد برأيي فن مغدور به مثل الرواية، فالشعر تفرع إلى تحت أنواع، بينما تفرع السرد إلى أنواع مستقلة ومنها القصة والمسرح. وكان من المفروض للرواية أن تعبر عن روح المدن الناشئة ولكنها سرعان ما تدهورت للتعبير عن المحن والمآسي حصرا. وأصبحت الفن التراجيدي الأول عوضا عن المسرح. وفرضت عليها التحولات الاجتماعية أن تمنح نفسها لجدل الفلاح وأرضه. وأعتقد أن هذه الخدعة عملت على تفريغ الإنسان -بطل الرواية من مضمونه. فقد صورته بصورة إنسان رمز - ومعادل موضوعي لشقاء الأرض وعناصرها - تراب وحجارة، وكأنها أرادت أن تغطي على خسارة الفلسطيني ثم العسكري لأرضه في فلسطين ودول المحيط. ولذلك جاءت كل الروايات العسكرية حافلة بالمرارة الممزوجة بعناد أسطوري قد لا يكون حقيقيا. ومن هنا جاءت علاقة الشك وانعدام الثقة بين جميع الأطراف -الفلاح والجندي والأرض. ولم تكن حالة نادرة أن تتحول هذه العناصر إلى أطراف أوديبية:الأب الفلاح والابن المقاتل والأم الأرض. وهي صيغة رمزية ليست أصيلة في الذاكرة. فالعربي كان يؤمن بفلسفة الحركة، ويدور مع الأرض مثل دوران الشمس في السماء (وهي صور شعرية كلاسيكية). ثم ورثنا عن الرومان خيالهم الأوديبي الذي أخذوه عنوة عن الإغريق. وهذا التسلسل بحد ذاته حلقات في سلسلة التحول التاريخي للحضارات: من القلق الذهني إلى اضطراب الغريزة وأخيرا إلى تشريعها. وهو نفس الخط الروحي الذي بدأ من دراما قتال الأرباب وتحول إلى عذاب الجسد لخلاص الروح وانتهى بالاستيلاء على الروح والجسد معا في ما يسمى بأطروحة دولة -الأمة.

وعلى الأغلب كسب نجيب محفوظ مكانته السامية لهذا السبب فقط. فهو بعكس بقية أبناء جيله دخل في معترك تطوير فن الرواية، ولم يتوقف عند إنتاجها فحسب. وانتقل بين المراحل التي تختصر تطور الفن كله. فقد بدأ من الذاكرة (في رواياته التاريخية) ثم تحول إلى عالم الشهود (أو مجالدة الواقع الاجتماعي والبيئي ليكون شاهدا عليه). وانتهى بمرحلة ذهنية تعيد برمجة العلاقة بين الشخص وعالمه (ولا أريد أن أقول مركزة الذات من موضوعها - منعا لأي إبهام أو غموض في المعنى). وسن في هذه المرحلة تقاليد أدب طليعي ولامعقول وعدمي يتابع الجانب البارد والمتكرر من حياتنا الواقعية، وهي حياة متصلة بالقوة بعالم مجزأ يغطي كل حالات القيد البشري: الرغبة والشيخوخة والسبات. وقد تابع هذه الظواهر بكثير من التأني في رواياته الذهنية (منها "أولاد حارتنا" و"الطريق"). وبكثير من الاختزال والترميز أو الجدل (في "أحلام فترة النقاهة" و"قلب الليل" و"التنظيم السري") وغيرها. وهذا ما ضمن له خصوصيات ميزته عن رموز مضيئة ومتفوقة من الأجيال التالية أمثال يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس. فقد اكتفى كلاهما برواية حبكة ثقيلة -تخاطب العواطف والوجدان، وغالبا ما تكون مغلفة بالوطنيات وحكايات الغرام. وإذا كان نجيب محفوظ يحتاج لقارئ صبور ومفكر، لم يكن السباعي وعبد القدوس بحاجة لهذا الشرط، فقد اختار كل منهما لرواياته ثلاثة أركان هي:اللغة المبسطة (لغة صحافية قريبة من لغة الصحافة والكلام المحكي). والوجدان الحالم (وكل ما يلمس شؤون قلب وذهن الطبقة المتوسطة الصاعدة كصغار الضباط وطلبة الجامعة والموظف البسيط والعادي). والحبكة المسلية التي يتخللها ما يساعد على الاندماج بالتأزيم والتطهير (دراما العقبات وحلها). ولذلك ابتعدا كما يقول الدكتور نوفل عن الأدب الهادف. وبهذا الخصوص يمكننا تشببه محفوظ بآدم العصابي nerve based learning والسباعي وعبد القدوس بآدم النمطي gene based system. والفرق بينهما هو في الاتجاه. الأول يتابع رحلة البحث عن المعرفة بعد ضبط إيقاع ساعته البيولوجية، وهذه منحة امتلكها عبر تطوير قدراته في الانتخاب والتطويع. والطرف الثاني يلبي نداء غريزته، ولكنه يغلفها بحزمة من المبررات على طريقة وجدان النخبة الرومنسية (كما ذكر عالم البيولوجيا الأسترالي جيريمي غريفث jeremy griffith **

لقد كان الظرف هو الذي يحكم وليس الظاهرة -الفينومينو. وبتعبير غريفث نفسه الإجابة على سؤال المعرفة تحدده العلاقة بين نشوء الوعي وظهور الذهان التراكمي للنوع. وهو تعبير مؤكد عن ذات الغريزة الأصلية وإدارة العقل الواعي لنفسه أوتوماتيكيا.

وبشكل عام لبى السباعي وعبد القدوس مطالب شريحة الشباب في مصر. من ناحية توسيع رقعة الأحلام وشحنها بالحب الممكن، ولكن ليس الميسر. والتركيز على صورة الحبيبة الحزينة والتفكير الرومنتيكي (والتعبير للدكتور نوفل). وهذه هي العقدة التي كانت تحرك الأحداث نحو أزمتها، ثم باتجاه البحث عن حل مشرف (مخرج للنجاة من السقوط). ولم يغامر أحدهما بملامسة التابو الديني أو السياسي شأن محفوظ في عمله الإشكالي (أولاد حارتنا)، وهو بناء بارد لللاهوت غير الميتافيزيقي أو لاهوت الخليقة الضائعة ببن السماء والأرض. ثم في عمله الغروتسكي (الكرنك) وهو أنشودة غروتسكية عن أخطاء الثورة. ولا أستطبع أن أدين محفوظ بالنفاق أو الخيانة لمجرد انقلابه على التجربة الناصرية. فالتجاوزات وعزل النخبة العسكرية عن قواعدها الضامنة كانت موضوعا للعديد من التجارب التالية - سواء بالاختباء وراء حبكة تاريخية (ثلاثية "غرناطة" لرضوى عاشور) أو باستعمال صوت الضمير الثالث ولغة الغائب -الميت أو المهاجر (وهو شأن شريف حتاتة وبقية أبناء جيله). وأضيف عملا حديثا للعراقي نجم والي وهو (سعاد والعسكر). ويستفيد فيه من مأساة النجمة السينمائية سعاد حسني، وتراجيديا صعودها ثم سقوطها، وما رافق ذلك من اختراق للمحرمات وعلى رأسها الحرية الشخصية وجدران السلطة وخفايا المخابرات. وفي هذا العمل تندمج الحقائق مع تفسيرها بطريقة تذكرنا بجو رواية الرعب والقتل الامريكية التي انتشرت في نهايات القرن التاسع عشر، وبالأخص أعمال هوراس والبول.

ولكن لا أفهم لماذا ربط الدكتور يوسف الثنائي عبد القدوس والسباعي بالأحياء الشعبية دونا عن نحيب محفوظ. فجمهور القراء يحكم بفوز محفوظ بقلب الطبقة الشعبية وبكسب الثنائي لقلب شريحة الشباب وبشكل خاص الإناث. فقد قدما وجبة عزاء مسكنة لمجمل النساء المصريات الصغيرات، ولكل من لديها أوهام بحب فردوسي يخلو من المنافع المادية ويخلص لدافع الحب الطاهر فقط. بينما كانت نساء محفوظ من نوعين لا ثالث لهما: أمهات أو عاهرات. وهذا واضح منذ "القاهرة الجديدة" وحتى "الطريق". فقد كانت دراما الصعود ثم المصير الأسود معبدة بواسطة الرذيلة والعاهرات. ولذلك أيضا لا أفهم لماذا عقد الدكتور نوفل دور البطولة لنساء محفوظ. لقد وضع محفوظ المرأة وراء جدار زجاجي، ولم يسمح لها بالخروج على طقوس تراجيدية نوعية تخص المرأة بلحظة الهزيمة والابتزاز حصرا. في حين منحها السباعي وعبد القدوس شرف التبرئة - وقاما ببناء واجتياح مجتمعات مخملية كان قلب المرأة فيه مثل جسدها، مجرد وجهان لعملة واحدة، وهما السعادة والعذاب. ولا يمكن أن تكون هذه الرؤية إلا نتيجة نشاط حلمي أو أمنيات عن يوتوبيا هذا ليس وقتها. وفيما أرى لم تكن المرأة مؤهلة إلا للابتزاز أو لفلسفة المظالم والخديعة. ولا يمكن أن تقبل بهذه التصورات كاتبة مكافحة مثل نوال السعداوي. فنساؤها في "أوراق حياتي" فدائيات وانتحاريات وتعبرن عن منطق امرأة قضيبية لا تعاني من أي رهاب بالخصاء. ومثلها حسيبة بطلة ثلاثية "التحولات" لخيري الذهبي. ونفس الشيء ينطبق على "وردة" بطلة رواية صنع إبراهيم التي تمثل المصير المشؤوم لحركة تحرير ظفار.

و بغض النظر عن الخلفيات السياسية لهذه الأعمال، وما تشكله من خطورة على جو الركود العربي أو حتى جو نشوء الدول العربية وفلسفتها في إلغاء نفسها والدخول بطفرة ذهنية (اعتاد الإعلام المعاصر على تسميتها بالمعجزة) فإنها تحرر المرأة من جانبها النسائي، وهو منحة من الرجل الشرقي.

ولا أستطيع أن أؤكد أن أحدا من جيل محفوظ أو من جاء بعده قد أنصف المراة. وضمنا سناء أبو شرار التي توقف الدكتور نوفل مع روايتها "أن تكوني امرأة" الصادرة عام 2009. وكذلك قاسم أمين مقاول ومتعهد فكرة تحرير المرأة. فقد تعاملوا جميعا مع الموضوع انطلاقا من أفكار بيولوجية مسبقة، لا ترى إمكانية لشيء فوق الصدفة contingency. وهي فكرة باردة وتخطاها التاريخ. ولا يسعني اعتبارها إحدى تجليات عصر غزو الفضاء. فالجندر حل محل البنية، ولم تعد الأمومة تفترض حصرا منطق أحزان الأسرة السعيدة عند محفوظ أو مفهوم قشعريرة الجسد عند عبدالقدوس والسباعي. وأصبح من الوارد أن تكون الأم هي ظل الأب الغائب أيضا (في روايات الأبوة المنفردة single parent). ناهيك عن الإنجاب بتخصيب خارجي أو من إكثار الخلايا بلا تلقيح (موضوعات مفضلة عند البريطانية جانيت ونترسون).

ويبدو أن العقل العربي يكيل بمكيالين. فقد تحفظ بطرح مضمون الخبيئة، إنما تعامل بحرية مطلقة مع الأسلوب. وتابع الدكتور نوفل ثورة الأساليب والعي -أو حبسة المضامين (والتعبير لياكوبسون) من خلال نماذج شبابية طبقت سياسة الأرض المحروقة أمثال مرعي مدكور ويوسف القعيد (في نماذج مبكرة من رحلته) وحسام المقدم ونبيل عبد الحميد وقصي الشيخ عسكر، وأصبح من الممكن -وأحيانا من المحتم تغريب النص، بحيث يتحول الكاتب إلى ملقن والشخصيات إلى ممثلين وكأننا أمام خشبة مسرح ملحمي يلفت انتباهنا أن النص هو رواية، وأن الواقع موجود خارج النص وليس بداخله، وأن القارئ لاعب أساسي في الحبكة (وتذكرني هذه الفكرة بنص للروسي تورغنيف وهو "خبز الآخرين"). ويتفق الدكتور نوفل مع الناقد أيمن تعيلب على تصنيف كل هذه الاختراقات والفوضى التي يقتضيها التجديد تحت اسم واحد وهو "العابرون"، ولكنه لا يرى أفضل من تفكيك أي رواية إلى ثنائيات (أحيانا تبلغ عشر وحدات) لتفسير الظواهر الأساسية التي تحكمها (وهذا هو منهجه في قراءة "919 هحرية" لإبراهيم صالح وقراءة "عندما غرد البلبل" لمحمد قطب).

***

د. صالح الرزوق

............................

* من نافذة السرد اصوات وأطياف الدكتور يوسف نوفل. دار النابغة. 271 ص. مصر. 2022.

**Adam & eve without the guilt. Jeremy griffith.Books. Irish times. Monday. 30 May 2016.

وأشكر الأستاذ صالح البياتي الذي تفضل بلفت نظري لهذا الكتاب الصادر عام 2016.

 

في المثقف اليوم