قراءة في كتاب

عرض لبعض أفكار كتاب: ما بعد الحضارة الأوديبية للعلامة مصطفى صفوان

مقدمة الكاتب: ان تشظي التحليل النفسي بأفكاره ونظرياته إلى اتجاهات جديدة فيه، هو بحد ذاته يبين عمق النفس البشرية، وكل من يتناولها يتناول التحليل النفسي عن ما بداخله فيشطح ويخرج عن النص الفرويدي، هو يشطح لما بنفسه من؟، إلا جاك لاكان، لم يشطح بالظواهر الفرويدية أو يتشظى بقدر ما تعمق بها وَسبر سِبر أغوارها بالعمق، فلم يلوذ بها وإنما دخل في عُمق العمق، فولج فيها وأضاف، إضافة نوعية غيرت التصور الكلاسيكي إلى تصورات معاصرة، وكان مصطفى صفوان من الرواد الاوائل ممن سار في هذا الخط الفرويدي – اللاكاني.

تعد الكتابة عن عالمٍ من علماء التحليل النفسي المعاصرين هي بحد ذاتها مدخل صعب الولوج له لكثرة مطبات الأفكار التي يعرض لها وثنائيات التداول بين التحليل النفسي الكلاسيكي وتحولاته المعاصرة لا سيما أنه عاصر عدة أزمان منذ أختياره لعالم البحث في التحليل النفسي، لأنها مدخل غائص في عمق النفس البشرية، فكيف نبحث في فكر عالم مثل "صفوان" تربى على الفرويدية الكلاسيكية بكل عمقها مذ وصوله إلى باريس في العقد الرابع من القرن العشرين واستمراره فيها متداولا مع أستاذه العلامة "مصطفى زيور" فِكر عالمٍ غير وجه عميق في النفس البشرية بإكتشافاته وفتوحاته ومعرفته الحقة بخبايا النفس البشرية، وهو "سيجموند فرويد" الذي يدين له كل من قرأ فكره وتعمق فيه وبحث بما طرحه ليجد نفسه يغرق في معرفة نفسه وإكتشاف ما يمكن أكتشافه على وفق ما قرره فرويد. اننا أزاء معضلة العرض الأكاديمي لفكر متعدد ومترامي الأطراف في ثلاثة أبعاد، ولا يستطيع الفكر الأكاديمي أن يغوص في هذه المعرفة المتنوعة للتحليل النفسي، فهو فكر أكاديمي الأساس، علمي تقليدي التكوين، عميق في البحث الذي لا يتمكن التجريب أو الرصد المحدود لدراسة الظواهر في أن تضعه على طاولة الدراسات التقليدية المتعارف عليها بتقنين الظواهر التي تناولها التحليل النفسي، فكيف إذا كان الطرح وعرض أفكار التحليل النفسي هي بحد ذاتها غير قابلة لِلمها" لَم شملها" "جمعها" في إناء تقليدي من مناهج البحث المعاصرة، إنها محاولة إجتهادية نرى فيها من الصعوبة ما لا يمكن وصفها، أو تحديدها، أو الإكتفاء بعرضها، ولنا في هذا ما نستطيع إيصاله للقارئ الكريم ليكتشف ان عالم "مصطفى صفوان" فلسفة عميقه ذات أبعاد نفسية مترامية في الفكر والفلسفة والعلوم الإجتماعية والنفسية، فما نود عرضه هو قاصر بالتحديد لما نريد عرضه، وأردد دائمًا أن من يريد معرفة التحليل النفسي ودراسته لا يمكن حصر نظرياته وأفكاره في موضوع أو مقالة، أو كتاب، بل أن يقرأ نفسه من خلال التحليل النفسي ليجد المنهج النفسي الملائم لمعرفة النفس، فكتاب "مصطفى صفوان" يحتوي في أبوابه الثلاثة على موضوعات من الدقة لا يمكن إدراكها بيسر،

فالباب الأول ضم موضوعات هي:

 البارحة..

1. عن القرابة 2. العائلة والتنشئة الاجتماعية 3. البيت والمعبد.

أما الباب الثاني فضم:

اليوم..

4. من المعبد إلى المخبر، أو الأب بوصفه شيئًا جزئيًا.

5. الآباء المُقيمون في المنازل والاسئلة حول الأصول.

6. السوق.

7. فلسفة السوق.

الباب الثالث فضم:

الفردية والفرد..

8. الفردية والفرد.

9. الفرد والمجتمع.

10. الجنسانية "الجنسية" في المجتمع الليبرالي الجديد والتحليل النفسي بين الحاضر والمستقبل.4206 مصطفى صفوان

ونحن بأزاء استعراض هذه المحاور الغنية هي في الحقيقة اكتشاف معرفي بحد ذاته وليس عرض تقليدي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تَعرف أولي لاستدعاء ما يمكن استدعائه من ما خزن في الدماغ من معلومات وإن كانت بسيطة ولكنها قد "ربما" من المحتمل ان تضيف للقارئ المتعلم مثلنا شيء من المعرفة إيمانًا منا بأن المعرفة تراكمية وبالأخص في التحليل النفسي، لنقل مجازًا في اللاشعور" اللاوعي".. تحية إكبار وإجلال لهذا العملاق المفكر الذي ترك فينا ومن قرأ له أو تتلمذ بين يديه أشياء غير محسوسة ولكنها شكلت سلوكه وتعامله وأسلوب حياته.. له الرحمة والمغفرة ولنا أن نترحم له ما حيينا في كل عمل نقوم به.

من الباب الأول.. البارحة وموضوعاته:

1. عن القرابة..

يتحدث "صفوان" عن أسس البناء للأسرة ويعدها الخلية الأولى في المجتمع، وهذا الرأي من الصعب قبوله، او الاعتراف بأن المجتمع البعيد عن أن يكون مؤلفًا من عائلات، وعلى هذا الأساس يرسم قوانين الزواج وهو المشرف على تكوين العائلة، وبأن هذه القوانين جزء لا يتجزأ من قواعد القرابة. ويطرح "صفوان" فكرة طرفان يتقاسمان الآراء حول القرابة الأول يرى فيها الظاهرة الأساسية للنسيج الاجتماعي، والثاني يرى ان الاحتلافات الناتجه عن القرابة تعكس اختلافات إجتماعية وسياسية، ودينية، وقد احتفظت هذه الاختلافات في مفهوم القرابة ببعض المعالم ضمن ما يُدعى بالعائلة الملكية، أو عائلة الموُثقين، أو الأطباء. ويعرض أيضًا أهمية هذه الطرائق المختلفة في تصور مكانة القرابة في المجتمع، لكن اهتمامنا ينصب بالدرجة الأولى على تعرييف القرابة نفسها. ويعرض "صفوان" عدة دراسات بهذا المضمار منها دراسة "مارشال سلنس" في كتابٍ بعنوان: ما تعنية القرابة وما لا تعنيه. نشر في العام 2013 يركز فيه على فكرة تبدد الشك في أن الأمر يسري في الكينونة بقدر ما يُعبر عنه الأسم. وفي الوقت نفسه وفي الجامعه نفسها وهي جامعة شيكاغو نشر استاذ آخر وهو "دافيد.م. شنايدر" في العام 1968 كتابًا عن القرابة الامريكية وأعيد نشره في العام 1980 يلح فيه على أهمية القرابة وعدها بأنها تولد مشاعر التضامن والواجب، وتشكل الأبواب التي يستطيع علم الاعراق من خلالها أن يُحيط بالواقع سائلًا السكان عن طريقة عيشهم هذه المشاعر وتقييمها. أما "رادكليف- براون" هو الذي شرح بأوضح العبارات العلاقة بيين أشكال اللغة التي يستحيل من دونها أيُ اتصصال بين الأفراد الناطقين من جهة، وبينها من جهة اخرى: اللغة يجب أن تُطبق أن تزودنا بأداة اتصال منُاسبة إلى حد يقل أو يزيد، ولهذه الغاية، تخضع لبعض الشروط الضرورية والعامة. إذ تُظهر مقارنة بين اللغات كيف تحقق هذه الشروط باستخدام مختلف المبادئ الصرفية كالإمالة والإلصاق، ونسق الكلمات، والتغيير الداخلي، أو استخدام النبرات من عدمه كما ذكره "راد كليف – برون".

يرى"مصطفى صفوان" قوله لا يهتم أي مجتمع بشري اهتماما خاصًا بضمان استمرار نوعنا، ولو كانت الحال كذلك لامتنعت مجتمعاتنا عن الحرب وعلى عكس ذلك ينزع كل مجتمع إلى استمرار وجوده الخاص ووجود مناقبه وأعرافه، لكن لا يكفي مجيئ الفرد إلى العالم كي يُصبح جزءًا من المجتمع، إذ يجب أن يكون ثمرة زواج مُعرَف بأنه "ترتيب اجتماعي يتلقى الطفل بموجبه وضعية شرعية في المجتمع، تُتحددها القرابة، بالمعنى الاجتماعي للمصطلح " ويضيف "صفوان" قوله أما الطفل المولود دون زواج يعترف به المجتمع، فلن يجد مكانًا في هذا المجتمع، سوف يوصف بأنه غير شرعي، وعليه لم تنتظر المجتمعات البدائية علماء الإناسة المعاصرين كي تُفرق بين الطبيعي والثقافي، وهنا يؤكد صفوان قوله: لا يوجد مجتمع بشري لا يمنح نفسه أصلًا رمزيًا يضمن وحدته، بينما تُخفق البنية الثنائية إخفاقًا ذريعًا نتيجة غياب مبدأ أول يضمن الإيمان به إجتماع الناس عليه وبحكم صراعاتهم.

يتسائل "صفوان" هل بإمكاننا أن نميز تمييزًا أفضل بين مساهمة القرابة البيولوجية بقدر ما يدين لها الطفل بدمه وعظامه، وبين مُساهمتها الروحية، أو الثقافية، بقدر ما يجب عليه الاعتراف له بانه يُدخله في النسب الأبوي، أو يمنحه الأسم الذي يجد فيه "سلنس" تبادل الكينونة الذي يخلق الرابط بين الأب والأبن؟ إنما التمييز بين الطبيعة والقافة ثابتٌ، في الأساس وملحوظ في المجتمعات البشرية كلها، ولم يغب عن أي مجتمع أن يطرح مسألة الاختلاف بين الطابع البيولوجي الذي لا خلاف عليه للعلاقة بين الأم والطفل، ونظام القرابة الذي يرسمه، ومن خلاله يمنح المولود الجديد مكانه، وهكذا نعود إلى نقطة انطلاقنا، أي إلى الزواج من حيث هو ترتيب إجتماعي. ويناقش "صفوان" في كتابه هذا موضوع الترتيب من وجهة "ليفي – ستروس" القائلة بأن الأمر أمرُ تبادل بفرض نفسه خيارًا للمفردة الأولى من هذا التخيير: ثمة حاجتان تُمارسان خارج القرابة هما الزواج والقتل، أي بوصفه شرط تعايش المجموعات البشرية، ويطرح "صفوان" رأي "ستروس" قوله أصل تحريم نكاح الُقربى ومع ذلك نرى في البُنى الأولية للقرابة مقاطع تدفعنا إلى التفكير بالاختلاف بين المُباح والممنوع الذي يُملي على مَن يشعر به اختيار الزواج. وباختصار إن قيام تعاقب الأجيال الذي يُديم المجتمع وجوده الخاص على اقتران الجنسين البيولوجي، أمر واقع ولكن تظل الحقيقة أيضًا أن ولادة الطفل حدث ثقافي، أو ثقافي كُليًة كما يقول "سلنس" ليس فقط لأن مجيئه إلى العالم يُمثل مجيء نتيجة مضاجعه دون مشاركة طرف ثالث يُشدد "لاكان" على طابعه الرمزي كالقضيب الأولي عند شعب البوشمان، او مشاركة روح الجد الذكوري، أو الأنثوري لذرية الأب عند شعب البارويا دون الحديث عن مشاركة الآلهة العليمة. لقد جُردت هذه الاطراف الرمزية من وظيفتها البارزة بوصفها قاعدة الوجود الاجتماعي، لكن فرويد عثر عليها في حالات العُصاب العائلية على شكل أب ميت، يخصي ويستمر دومًا في الصراع بين الابن والأب الذي لا يُحسم أبدًا في رأيه. واشار "كروبير" إلى مبدأ الطوطم والتابو، المبدأ الذي يعده الاسطورة الوحيدة التي تمخضت عنها الأزمنة الحديثة، أما "لاكان" الذي أعاد نقد "كروبير" عادًا بحق أن قصة قتل الابناء أباهم في القبيلة البدائية حلم من احلام فرويد، بالمعنى الحصري للمصطلح، فقد نسي هذه القصة دون أن يترك منها إلا ما يتركه الموت، أي الأسم. ومع أن هذا الأسم يًكون في الواقع النقطة التي تنبثق منها الثقافة في انفصالها عن الطبيعة، فهو يُكثف قي ذاته وحدها ثقل هذه الثقافة الكامل بإعلانه أن عبور عالم يرتبط فيه قبول الحياة نفسه عند الطفل بالحب الأمومي، إلى عالم آخر حيث العلاقات بين البشر وعلاقاتهم أيضًا بالأملاك التي يتعلقون بها، تتجسد في الحقوق والواجبات التي يتألف منها القانون، وعندئذ ما الدور الذي يأخذه"أو كان يأخذه" هذا الأسم في تنظيم الجنسانية البشرية.

يرى "مصطفى صفوان" إن ظهور الجنسية "الجنسانية" المبُكرة عند الطفل لظاهرة يصعب شرحها، ولكنها ما أن تظهر حتى يكاد يكون من الطبيعي تقريبا أن تتوجه على نحو أفضل صوب أمه التي تُمثل في نظره، لكونها موضوع حُبه الأول، الخير الأسمى، أننا إذا سلمنا مع فرويد بأن "الانتماء إلى الأب جزء من الجوهر الأمومي" يتمخض عن ذلك أن ظهور الجنسية "الجنسانية" التافه عند الطفل غير المُستبِعد كما ينبغي يُعادل دخوله في عالم القانون ويسبق اندماجه في نظام القرابة الخاص بمجتمعه. ويضيف"صفوان" توضيحًا بناءً على هذه الفكرة استنادًا لقاعدة الرغبة بنتيجتين:

النتيجة الأولى: بعدم وجود إشباع الرغبة دون الاعتراف برغبة الآخر.

النتيجة الثانية: بأن أية رغبة هي رغبة في نزع الأعتراف بها إلى حد أن إنكارها ييًفاقم شدتها.

وقوله.. في النهاية.. ليس التحليل النفسي شيئًا آخر غير دراسة العمليات التي بفضلها تُعبر الرغبة عن نفسها، وهنا نبلغ الاكتشاف الأكثر إدهاشًا الذي أتحفتنا به تجربة المعالجة بالكلام: فمع نقل الصيغة الهيغلية إلى الصعيد الرمزي بدل ربطها بصعيد الوعي بالذات. تتجلى الرغبة وظيفًة اكثر تأسيسًا، وفي مجموعها أكثر ما يخلع الطابع الإنساني على المتكلم "الما هو"، ومن ثم نرى تفاهة تشبيه التحليل النفسي بتقنية الاعتراف.

أما "لاكان" وهو يشدد على الفعالية الرمزية التي من دونها لا يتضح أي شيء على مستويي الأوديب الواقعي والتخيلي، فَحَول اتجاه هذه العقدة التي انتقلت من النظرية الجنسية الطفلية إلى نظرية الرغبة، وتتضمن هذه النظرية ضرورة موائمة الرغبة مع المبدا القائل بعدم إشباع رغبة الفرد بمعزل عن إشباع رغبة الآخر. المبدا الذي من دونه يفقد القانون أي معنى، ويرى "لاكان" قوله: تُكَون هذه الموائمة ضمن إطار العائلة الحديثة "المعيارية الأوديبية" التي يُعين فيها وظيفة الأب الحقيقي، وهنا يَحضر وضعان لا يُمكن إبعاد أحدهما عن الآخر:

الوضع الأول: وضع الأب الذي لا يتخرط في ذرية تعود إلى قضيب أول. (راجع حال البوشمان، وكذلك حالة شريبر بالتفصيل- قصة شريبر معروفة جدًا عند المحللين، فهو كان قاضيًا كبيرًا ثم اصيب بالجنون، كان ذهاني، وهو الوحيد الذي حلله فرويد)

الوضع الثاني: الذي ميزه "لاكان" عن الوضع الاول بوضوح عدة مرات وتحديدًا في مقالته بعنوان" تخريب الذات وجدلية الرغبة في اللاوعي الفرويدي" فهو الذي لا يقوم فقط على إملاء القانون، بل على تفويض نفسه به، بكل ما يتضمن من اعتراف.

2. العائلة والتنشئة الاجتماعية

يعرض "صفوان" رأي رادكليف برون تعريف العائلة بانها وحدة البنية التي من خلالها تنبني منظومة قرابة، والتي سماها العائلة الأولية، وانتقد ذلك " كلود ليفي – ستروس" بقسوة معتقدًا بفكرة تُكون العائلة البيولوجية نقطة انطلاق أي مجتمع لتحضير منظومته في القرابة. وأتفق معظم المحللين النفسيين واسموه بـ "المرحلة التناسلية" التي لم يحتج على وجودها أول مرة إلا "جاك لاكان"؟ هذا الاعتقاد بغريزة طبيعية تدفعنا إلى الانجاب اعتقادًا أصلب أيضا من الاعتقاد بالغيب، لأنه يمتلك حقيقة أننا مُجهزون بيولوجيًا لتنفيذ هذا الهدف، وهو يضمن لنا إذا جاز القول خلودًا علمانيًا ولا يدهشني أن المحلل الذي أحتج على هذا الاعتقاد كان هو نفسه الذي بين رسوخ نرجسيتنا عبر وقوعنا في أسر شيء مُتلاشٍ إلى أبعد حد، أسر مظهر خداع، وصورة مرآوية " الإنسان ظل الظل" وإذا أخذنا في الحسبان هذا الاحتجاج فالسؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بمعرفة إن كانت المجتمعات البشرية قد شرعت في بناء نُظم قرابتها ليس انطلاقًا من العائلة البيولوجية، أيا كان المعنى الذي نخلعه على تعبير"انطلاقًا من" بل شرعت في بنائه لكي تقطع الطريق على التخريب الناجم عن لغة الأسس الغريزية الممنوحه لتلك الأسرة، والملمح الأوحد الذي يبقى مما ندعوه"العائلة الطبيعية" هو ولادة الطفل من رحم الأم، ولما كان تعيين العامل الثاني لهذه الولادة غير مُتناسب مع اليقين نفسه، فقد ارتبطت معرفته باعترافه: أب الطفل هو الذي يعترف بأن هذا الطفل ابنه، وينقل له اسمه، ففي استبدال المعرفة بالاعتراف تكمن روح الثقافة، وكل نظام قرابة يُفضي إلى نظام إعتراف بين أعضاء المجتمع، ولا نبالغ إذا قُلنا إن اسم الأب يُجسد مثال هذا الاعتراف الأصلي إن لم يكن حجر الزاوية فيه، ومع ذلك تعالوا نتمعن أكثر من مختلف أشكال العائلة.

يدخلنا "مصطفى صفوان" في هذه الصفحات بموسوعة شاملة من أنظمة تكوين الأسرة واتساع العائلة في ترامياتها المتنوعه من الأبوة والانجاب والنسب ومحورها يدور على أساس الوجود وهي المرأة، الزوجة بصورها المتعددة، صورة المرأة المنجبة، والاب الغائب، وبديله في الانجاب أو في الأرث باستعراض كتاب "ليفي- ستروس" الموسوم "النظرة البعيدة" ومقال "العائلة" الذي يعده كلاسيكيًا، لأنه قائم على تأثير مذهب التطور البيولوجي الذي قاد علماء الاعراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وفي بدايات القرن العشرين إلى افتراض أن العائلة الحديثة القائمة اساسا على الزواج من امرأة واحدة تُمثل شكلًا من تطور على خط واحد أشد تعقيدًا، خط تُميزه في طفولة البشرية ملامح متعارضة تماما كمثل "الاختلاط البدائي" و " الزواج الجماعي". أما ما يُثبت طابع هذا الموقف غير المسموع فهو تضاؤله بالاطراد مع اغتناء علم الاعراق بالمعطيات الجديدة.

وما زال يناقش "صفوان" أراء"ليفي- ستروس" وبرأي "ليفي- ستروس" قوله: تُظهر هذه المعطيات أن نوع العائلة التي تتميز في المجتمعات المُعاصرة بالزواج الأُحادي وسكن الزوجين الشابين المستقل والروابط العاطفية بين الأبوين والاطفال..الخ كانت موجودة أيضا بوضوح في مجتمعات بقيت في مستوى ثقافي نِصفُه بالأولي، أو عادت إليه. أتاحت هذه الحقيقة نزوعًا عاما إلى القبول غالبًا بان حياة العائلة موجودة في المجتمعات البشرية كلها" كما يذكرها كلود ليفي- ستروس في كتابه النظرة البعيدة في العام 1983 في الفصل الثالث، طبعة باريس. ويذكر"ستروس" أيضًا  قوله: أما العائلة على القران الدائم إلى حد يزيد أو ينقص لكنه مقبول اجتماعيصا، بين فردين من جنسين مُختلفين يؤسسان زواجًا، يُنجبان ويُربيان أطفالًا فتبدو كمثل ظاهرة كلية عمليًا حاضرة في نماذج المجتمعات كافة، ص67" ويناقش "ليفي- ستروس" فكرة العائلة الاحادية بانها مؤسسة حديثة ولكنه يخطئ ويطرح حالات نادرة مختلفة عن الحياة العائلية أي ما نسميه بالاسرة بالمعنى الدارج للمصطلح لا وجود لها على ما يبدو حيث يستشهد بمثال "النايار" الذي يعدهم علماء الاعراق مثالا ممتازًا على المجتمع الأمومي. ويذكر "صفوان" سوف اعود إلى هذا المثال نفسه لتفحصه عن قرب أفضل أن استشهد نصيا بالوصف الذي يقدمه "ليفي- ستروس" لهذا المجتمع.

عند "النايار" وهم شعب هندي كبير على ساحل مالابار، لا يستطيع الرجال الذين تستغرقهم الحرب أن يؤسسوا عائلة، ولكون الزواج احتفالا رمزيًا خالصًا فهو لا يخلق روابط دائمة بين الزوجين: يمكن للمراة المتُزوجة ما تشاء من العشاق، وكان الاولاد ينتمون إلى السُلالة الأمومية، أما السلطة العائلية وحقوق ملكية الأرض فلم يكن الزوج الممحو أساسًا هو الذي يُمارسها، بل يُمارسها إخوة الزوجة. ويناقش "صفوان" فكرة ليفي -ستروس عند"النايار" بنقلها إلى مجتمعات أفريقيه حيث تسمح للبالغين من القتيان ممن تم تحضيرهم لممارسة مهنة السلاح والتفرغ لها بإقامة علاقات جنسية وعاطفية مُباحة مع فتيات من صفهم ولا يستطيعون الزواج وتأسيس اسرة إلا في نهاية هذه الفترة القتالية. لدينا هنا امثلة تتأسس فيها العائلة الزوجية مع اختلاط تكويني يُجسد النايار مثاله الأكثر تناسقًا، ومن ثم يكمن النزوع العام الذي تراعيه هذه العائلة مراعاة واضحة تقريبًا في الاختلاط الطبيعي للرغبة الذكورية التي يرى ليفي- ستروس ظهورها من جديد على شكل أولي حتى في مجتمعاتنا الحديثة. يستنتج "ليفي- ستروس" بعد أن وجد في العائلات التي يغلب فيها تعدد الزوجات حينًا، وتعدد الازواج حينًا آخر، أن العائلة الزوجية أكثر تواترًا وأنها في كل مكان يبدو أنها تغيب عنه، يتعلق الأمر عموما بمجتمعات مُتطورة جدًا ولا يتعلق كما كان يمكن أن نتوقع بعائلات أكثر بدائية وبساطة وهذا لا يمنع وجود عائلات غير زوجيه – علينا ان نضيف إلى النايار تعدد الأزواج عند التودا في القرن التاسسع عشر وهذه الحقيقة وحدها كافية للبرهان على أن العائلة الزوجية ليست ناجمه عن ضرورة كُلية، ويتسائل كلود ليفي – ستروس إذا لم تكن كُلية العائلة نتيجة قانون طبيعي، فكيف نشرح وجودها في كل مكان تقريبًا" ليفي- ستروس، ص71".

يناقش مصطفى صفوان" اراء بعض العلماء ومنهم ليفي -ستروس، ورادكليف- برون و تود وموردوك و غولييه وأخيرا يستعرض اراء جاك لاكان.

يدل مصطلح "العائلة المُوسعة " على تشكيلات تشمل عدة عشرات من الاشخاص الذين يعيشون ويعملون بأمرة سُلطة مُشتركة. ويضيف "ليفي- ستروس" ويطمئن بعض القارئات الحذرات من كونهن مختزلات إلى الدور الذي تلعبه سلع التبادل بين شركاء ذكور، مؤكدًا أن العائلة "المنحسرة" كما يصفها بالتعارض مع العائلة "الموسعه" ليست هي العنصر الأساس في المجتمع، ولا تنتج عنه أبدًا" بحسب رأيه. وبعبارة اخرى إذا كان المجتمع ثقافة، فالعائلة نفسها "هي" في صميم الحياة الاجتماعية انبثاق هذه الضرورات الطبيعية التي ينبغي التحالف معها. والكلام ما زال لــ "ليفي- ستروس" ويرى " صفوان" أن العائلة الثلاثية أو "المنحسرة" لا تصدر عن قانون كٌلي، لكن ثمة استثناءات، ومن ثم كيف نشرح وجودها في كل مكان تقريبا؟ الجواب هو انها دون أن تكون نتيجة قانون طبيعي تُمثل مع ذلك قيدًا طبيعيا وهو قيد لا تستطيع المجتمعات الموجودة في اسفل سلم الثقافات أن تنفصل عنه، بينما تعرف تلك التي توجد في أعلى هذا السلم، وهذا أقل ما نتمناه لها، كما يضيف "ليفي- ستروس". لقد تجنب "رادكليف- برون" المغالطة المعنية حيث يرى في المقام الاول أن فكرة الطبيعة هي فكرة ثقافية، وهي جزء لا يتجزأ من الثقافة، فضلا عن أن " لويس ماران" في ترجمته البنية الوظيفية، ميز بنيوية "رادكليف- برون" الواقعية عن بنيوية"ليفي- ستروس" المتعلقة بعملية تعقيد، وتكون النتيجة الملموسة أكثر لهذا الاختلاف في أن المُعَلم الانكليزي يميل إلى تفصيل التناقضات والتشديد على تكاملها بينما يدفعها تلميذه الفرنسي إلى الحد الأقصى، ولا ننسى وصفه لشعب "النايار" الذي كما يرى العائلة فيه أحادية الزوجة، وتكون عمليًا غير موجودة عنده، حيث يتضمن هذا الوصف تمييزًا حاسمصا ايضا بين أشكال انتقال النسل الأبوي والأمومي، إلا ان التمييز بين مجتمعات النسل الأبوي والنسل الأمومي كما يعتقد "رادكليف- برون" ليس مطلقًا، بل هو نسبي، رغم أن حتى المجتمعات الأبوية الأكثر صرامة، توجد أهمية اجتماعية مؤكدة للجانب الأمومي من القرابة، كذلك يحفظ الأب وقراباته في المجتمعات الأمومية الأقوى دومًا الأهمية في حياة الأفراد. يؤكد "رادكليف- برون" أن اقتران المرأة النايار بعشيقها اقترانا عاطفيًا متينا يدوم طيلة الحياة، واظهار العاشق شغفه القوي بالاطفال. ويرى "إيمانويل تود" الذي يضع وجود العائلات الثلاثية بحسب رأيه حدًا "للتفكير بالبنية" سواء أكانت هذه العائلات في اوروبا الغربية أم على الطرف الآخر للعالم القديم، أم عند الآغاتا" وهم بقية شعب من الصيادين جامعي الثمار في جزيرة لوزون في ارخبيل الفلبين.

يرى "صفوان" ان المسلمة الأساسية في البنيوية هي ضرورة العلاقات بين مختلف عناصر البنية الاجتماعية: على العائلة، والقرابة، والدين، والاقتصاد، والتربية، والسياسة أن تتوافق لتشكيل كُل منسجم، أما "دوركهايم" فيرى وجوب ربط تصور ديني معين من التشابك الاجتماعي. أما "تود" فيتبنى شكلا منطقيا ىخر: شكل تقليدية المناطق الهامشية أو المعزولة التي أقامها علماء اللغة منذ الفترة الواقعة بين عامي 1915 و 1920 لشرح الخرائط التي تمثل اختلاف اللهجات.

تقود القطيعة مع المُسلَمة البنيوية "تود" إلى الموافقة الأكثر حسمًا من موافقة "ليفي- ستروس" على التصور الذي يُوصي به "روبير لوي" في كتابه مقال في علم الاجتماع البدائي. وفيه نجد ثبات الطابع الكوني والأولي تقريبا في العائلة الثلاثية المتكونة فقط من زوجين واطفالهما التي تظهر في هذا العمل بأسم العائلة الثنائية. يتطرق "تود" على نحو خاص إلى تناول هذا الاستنتاج من جديد في كتاب "موردوك" في البنية الاجتماعية إذ يرى هذا المؤلف أن العائلة الثلاثية تراكم اجتماعي شامل، ولأنها نموذج وحيد للعائلة المعمول بها، أو لأنها وحدة اساسية في الاشكال العائلية المُعقدة فهي تكون في المجتمعات المعروفة كلها مجموعة متميزة ذات وظيفة عالية، ويؤكد عدم وجود أي استثناء في عينة 250 ثقافة تفَحصها، وهو ما يؤكد استنتاج "لوي". وعليه ما ندعوه "1اسرة" بالمعنى الدقيق للكلمة الذي يتضمن زوجين وأطفالهما، إنما هو ظاهرة موجودة، وطالما وجدت في المجتمعات كافة. يعد "تود" أن كل كا بامكانه تأكيده على المستوى الذي بلغه في بحثه هو توافق الوقائع التي تفحصها مع مجموع من الافتراضات وأولها الافتراض الآتي: كانت العائلة الأصلية من نمط ثلاثي، نواته الأولية القِران الزوجي. ويتابع "تود" شارحًا رأيه حيث يقول: على العكس سوف تظهر الأشكال التي سبق أن عَدها علماء الأعراق الأوربيون قديمه"العائلات الكبيرة، وأصل العائلة" كانها من بناءات التاريخ، ولن تظهر في أية حالة بأنها من بقايا البدائية. ويناقش "تود" ايضا في المحل الأول آخذًا في حسبانه الواقع التاريخي، وهي الحركة العامة في اوراسيا التي تنطلق من الثلاثية إلى الذرية الأبوية حيث يرى أن تعاقب ثلاثة مستويات من النسب الأبوي "بروز البكورة الذكرية، والعائلة الأهلية الأبوية، والانحطاط الجذري لوضع المرأة" وهو تسلسل ملحوظ في الشرق الأوسط والصين والهند الشمالية.

يرفض "غودولييه" رفضًا شاملا تصور العائلة بأنها أساس المجتمع، كما يرفض الرأي المتضمن في هذا التصور والذي بمقتضاه يتكون المجتمع من مجموعة وحدات عائلية، حيث يقول: في رأيي لا يُمكن لأي مجتمع بما هو مجموعة إجتماعية من شأنها أن تتمثل لأعضائها بوصفها كلا وبأنهم يولدونها كما هي، أن يتأسس على القرابة. إنما القرابة ضرورية وإن لم تكن أساسية: فلا تخلو أية لغة حية من لفظة تتعلق بالقرابة. ويضيف "غودولييه" ليست علاقات القرابة قليلة الشان في العلاقات الاجتماعية. ويطرح مثال على ذلك شعب البارويا الشعب الذي درسه عن قرب حيث قضى بينه عدة سنوات قوله: سيكون من العبث تحديد الاقارب من جهة الأم بلفظة قرابات الدم التي قد توحي بأنهم يتقاسمون دمهم مع الطفل على حين أن دم الطفل وعظامه يأتيان من مَني أبيه، بينما يأتي روحه وعقله من أحد أجداده الذكور، أو الاناث بحسب جنس الطفل المنتمين أيضا وحصرًا إلى ذرية الأب. ويرى "غودولييه" لم يستطع الرجال في أي مكان أن يعترفوا ولم يريدوا الاعتراف أصلا بأنهم منبع المحظورات والتعليمات التي فرضوها على أنفسهم، ولم تستطع البشرية في أي مكان وخلال آلاف السنين أن تكتشف نفسها في أعمالها. تكثر التساؤلات والاعتراضات عند أولئك الذين يُثبتون كون القرابة علاقة اجتماعية خالصة، ولا شيء في مضمونها يرتبط بالجنس وبعملية توليد الحياة البيولوجية، وأي عالِم إناسة يعرف هذه الاعتراضات وعليه يجيب عليها: نلامس هذا السؤال الوجودي الذي ارادت الاعتبارات السابقة أن تُجيب عليه: هل توالد المجتمعات البشرية مُجرد ظاهرة ثقافية، أم أنه ثقافي بكلية بحسب عبارة مارشال سلنس؟ وتطرح الاجابة بالاستشهاد القرابة والعائلة عند "البارويا" الذي يقدمه "غودولييه"، فالكلمة التي تدل على العائلة في لغة البارويا هي كومينيداكا التي تعني الكل المتكون من الأب وزوجته وأولاده، ولفظة "كومي" تعني الحميع. العائلة إذا هي هؤلاء الناس في كليتهم. وظهور التضامن الواضح في هذه العائلة، ومن الصفات الواضحة لديهم ايضا منها لا توجد هيمنة الذكورية ولا سيطرة رجل على امرأة، ولا وجود مختلف، أو أنواع القيود على الاجساد، ومن المظاهر المعلنة في حالات الحزن الشديد أن يشنق الرجل نفسه حزنًا على موت زوجته، أو تشنق الزوجة نفسها حُزنًا على موت زوجها، وليس نادرًا أن يحمل أرمل حول العنق شعر زوجته الراحله وبعض عظامها، أو أن تحمل أرملة شعر زوجها وبعض عظامه المأخوذة خلال المأتم الثاني حينما تٌجمع عظام الميت لكي توضع في اشجار غابة الاجداد.

يناقش"صفوان" وضع العائلة الثلاثية التي يدافع عن جانبها الثقافي بحزم دفاع "ليفس -ستروس" لكن ليس دون أن نشاركه داعمين رأيه القائل بأن هذه العائلة تدين للطبيعة" باختراع البشر العاديين" كما يستنتج في نهاية تحليله بعض المعتقدات الاجتماعية التي تتعلق بحمل الطفل، يفترض إذًا بصورة عادية العلاقات الجنسية في كل مكان. وحين العودة الى ما يمكن تسميته بنقاش"مالينوفسكي -فرويد" يُعطي فرويد الحق لأن "عقدة أوديب" كما يقول مستشهدًا بأندريه غرين ليست مبنية حول علاقات سلطة، بل حول علاقات الطفل مع ذاك الذي يُضاجع أمه. ولكن فاتته ملاحظة العكس: اذا كان الأب الحقيقي يُضاجع الأم، فإن من يضاجع الأم ليس الأب بالضرورة، ونحن نعرف الآثار المُزمنة التي يتحملها طفل يُشارك في تجربة لا يعرف أن يستشعر خلالها الدلالات التي يعنيها عدم الاخلاص والخيانة، وبعبارة أخرى ما يتركه "غودولييه" جانبًا في تحليلاته الضيقه، هو ببساطة المعنى الذي يستمده اسم الأب ليس من معرفتنا البيولوجيه، بل من نظام الاعتراف الرمزي الذي تقوم عليه الثقافة.

ويطرح التساؤل فكرة التقارب بين الجنسية عند البشر وكذلك الجنسية عند الكائنات الحية الاخرى، إنما هو ضرورة الاتحاد الجنسي بما هو شرط تجديد الحياة، وهو بحد ذاته تتكفل به الطبيعة، ومستمرة حتى تهيئة فصل للشبق بين الجنسين، والحال أن ليس للشيق فصل عند البشر، هذه الحقيقة لم تمنع " كارل ابراهام" من صياغة نظرية عن تطور الشهوة- الرغبة الجنسية "اللبيدو"، التي تبلغ ذروتها في المرحلة التناسلية، وأثبتت التحليلات هذه النظرية بوصفها التعبير حتى عن الواقع، أي ما كان يعرف أو يعتقد أنه كان يعرفه أصلا. لم يرَ أي محلل نفسي باستثناء "لاكان" أن الأكثر ثورية مما حمله التحليل النفسي لم يكن اكتشاف الجنسية عند الطفل، بل اكتشاف طابع الجنسية البشرية غير التناسلي، لا بل الرمزي.

وجد "لاكان" زيف كل زعم بدراسة الإنسان لا يُراعي انغماس "انصهار" إندماج" الإنسان في اللغة، ووجد أيضًا زيف اقتصار آثار هذه المراعاة في اللغة على توليد عقلانية منطقية.

اللغة وسيلة اتصال بين البشر وجميع الناس يقرون بذلك، فضلا عن أن اللغة تنقل قضايا إيجابية وسلبية، وهي تنقل طلبات وحاجات مقابلة، حيث يميز "لاكان" ما تحت الطلب" يقصد هنا ما تحت الطلب هو الطلب غير المٌعبر عنه، الخاص بالرغبة في الجسد"، يقصد هنا هو طلب مختلف عن الحاجة وما فوقها من حيث هو طلب حب، من غير شروط، لا يستجيب له أي موضوع مع انه قد يجعلها رمزًا، لكن اي شريك جنسي لا يكتفي بأن يختزل إلى موضوع حاجة ولا بأن يعاد وضعه ببساطة على قاعدة تمثال الحب.

تقتضي الاجابة على هذا السؤال إعادة النظر في مسألة اللغة من زاوية أخرى غير زاوية علاقتها بالطلب، أعني انها تفتح الباب على سؤال الكينونة فتدخله بطريقتين: أولا من جانب الاختلاف بين الاثبات والنفي، إذ يرجع كل من هذين المصطلحين إلى ثنائية أخرى، ثنائية الصح والخطأ، وتعرف كلتاهما بالرجوع إلى ما تكون الحالة وما لاتكون، إنه المعنى المسمى"وجوديًا" وهو مصطلح غير ملائم، لأن الشيء الذي لا يوجد يجب أن يمر عبر اللغة مع احتمال تأثره فيها بالنفي، أما الجانب الآخر فيتعلق بما يدعى بالمعنى الإسنادي لفعل الكون، ويمكن في ارجاع الدلالة إرجاعا لا نهائيا إلى دلالات اخرى، فليس ثمة من دلالة لا نهائية حتى إن على نظام بديهي أن يترك هامشا لبعض الدلالات غير الموصوفة، وينطبق الأمر نفسه على الذات الناطقة: فالبحث عن معنى أو هوية تمنح كينونتها معنى، إنما ينتهي دوما بتعيين، والجزء الاكثر مادية من الكينونة يفلت من المعرفة وهذا لا يعني انه يفلت من الوجود، وإذا كانت الحالة كذلك ينقلب النقص إلى نقص لاشيء، والحال أن فرويد بدون فلسفة اللغة لكن بصدق نفسي مدهش، اكتشف في نقص الكينونة الموضوع المفقود في حد ذاته الذي هو سبب الرغبة. يجيب "لاكان" مبينا أن القضيب الرمزي لكونه دلالة على الاستعارة الأبوية، هو في الواقع موضوع مفقود في حد ذاته، بمعنى عدم ظهوره في الصورة المرآوية إلا بصفة نقص ويشار له برمز خاص عند لاكان. وأزاء ذلك تصبح الذات من دون هذا النقص معلقة بهذه الصورة الهاربة، لكنها لا تخدمه بأقل مما يُفكر الآخر، انه الخصاء الرمزي من خلال هذا الحرف الأول من الكلمة الذي يُحيي في المتكلم "الماهوي" أيا كان جنسه، رغبة غيرية. وخلاصة القول أن الرغبة إذ تطبع على الجنسية البشرية توجها إلى ما بعد صورة الجسد الخاص، أو الموضوع المنشود "يذكر اسفل الصفحة مثال الذات، فالفرق بين الأنا الواقعي والأنا في المرأة، أن "الانا" في المرآة هو المكان الذي تتخيل فيه الذات أمثلة من العظماء والزعماء ترغب التوحد في الزعيم من حيث هو الموضوع المرغوب.

ويؤكد "صفوان" مثلما قلبت اللغة نظام الحاجات بتمريرها عبر عُروض الطلبات، شكل الأوديب المُواربة التي يفضلها يُقاد المتكلم الماهوي" أعتقد يقصد المترجم بترجمته المتكلم الصامت" إلى توظيف شخص آخر من الجنس نفسه، أو من الجنس الآخر بوصفه موضوعًا سببًا لرغبته، الموضوع الذي يجد فيه كينونته. ويقول"صفوان، ص 54" لم تنجح عملية تخطي الأوديب النجاح المرغوب ولم نتعامل في التحليل سواء أكان مَرضيًا أم تربويًا، إلا مع حالات أوديبييه غير ناجحه، يقول "فرويد" إن التوتر بين الأبن والأب لم ينته أبدًا نهاية تامة، وما لم ينته أبدًا فيما أحسب هو الخلط بين الرغبة والطلب، لأن الرغبة ليست سوى إخفاء الطلب، وما الطلب سوى نقص تملؤه موضوعاته الموصوفة بأنها جيدة. يقودنا الرأي هنا إلى أن الشخص المنتمي إلى الجنس القوي، المتمكن، والمعتقد انه تخطى بانتمائه نقص الكينونة، هو عضوه الجنسي إلى حد تحويل نرجسيته إلى نرجسية قضيبية، ذلك أن هوى السلطة والقوة الذي يمنحه امتلاك الهبة، والهبة المقابلة الذي يملأ مجال رؤيتنا وكذلك امتداد دال "الهبة" الاستعاري إلى أجزاء الجسد الخاص، يثبت كما هو لغات الأرض قاطبة أقول هذا الهوى هو توأم النرجسية، حيث تمتد قوة هذه الاستعارة حتى الجسد الخاص الذي نتحدث عنه كما لو أنه ملكيتنا، "تملك" جسدًا وفي الحقيقة نحن لا شيء من دون هذا الجسد، وبقدر ما تستلم البنت أيضا لهذا الخلط بين الكينونة والتملك، بين الرغبة والطلب، حيث تثير الرغبة في القضيب الذي يظهر أن جماعة الذكور مُزودة به، أو على الأقل تُعوض عن غيابه بما تمنح صورتها أمام المرآة من عناية خاصة، فالنرجسية النسائية المشهورة نظير النرجسية القضيبية الذكورية الأقل وهمًا. يسأل "موريس غودولييه" مشيرا في خاتمة كتابه إلى ما يحدث في أيامنا " ثقافة الطلاق، ومراقبة الولادات، والزواج المثلي، والانجاب بالمساعدة..الخ عما يُمكن أن يكون رأي "فرويد" و "لاكان" في ذلك، أتخيل أن فرويد كان سيجيب بأن عقدة أوديب تصدر عن كلية الأسرة، أو العائلة الثلاثية حيث تربي الطفل أم، حتى لو ميزها عن الامهات الصغيرات، أب حتى لو ميزه عن الاباء الصغار، انه إذا أب يعني له حتى الاسم عالم القانون حيث يتماشى المحظور والمسموح ولا يتعارضان، اما الباقي فسوف يدعنا فرويد نأخذ على عاتقنا أمر مواجهة نتائج اندثار هذه العائلة. أما "لاكان" بالتأكيد سيرى فيه إثباتًا لما قاله دومًا، أي عدم وجود علاقة جنسية.

3. البيت والمعبد:

يمكن ان نستخلص من الفصل السابق فكرة مؤداها. بدل أن تعد العائلة الثلاثية قمة تقدم مستمر نحو الحضارة، يعرف الآن بفضل أبحاث بيتر لاسليت ومدرسته في كمبردج بانها ظاهرة شاملة، فضلا عن أن الجنسية الطفلية المبكرة تسبق فهم الطفل لطابع العلاقة الجنسية بين والديه، وسوف نسلم بأن الاوديب الكائن في مضمون هذا الاقتران بين الجنسية الطفلية وجنسية الوالدين يسهم في كلية العائلة الثلاثية. وهذه الكلية لم تمنع الثورة الصناعية من أن ترسخ هوة في الزظيفة العائلية، حيث نقلت من تنشئة الفرد بوساطة العائلة، إلى فردنة" تفرد" المؤسسات الاجتماعية كلها بما فيه العائلة. والسؤال ما هي نتائج هذا التحول الكبير؟

تعد التربية هي المناهج التي بموجبها ينقل المجتمع آدابه وأعرافه، ومعتقداته فضلا عن أشكال نشاطاته الاقتصادية والعسكرية والحرف، ولضمان هذا النقل، أُسس المجتمع الذي تقوم عليه العائلة "الثنائية" كما سماها "لوي" العائلة التي تشكل استنادًا لتعبير "غودولييه" وهو أول مكان ينشأ فيه الطفل اجتماعيًا.

يطرح "صفوان" فكرة هي ما حقيقة امتلاك عدد كبير من الاجنة المجمدة حاليًا إلى درجة الحيرة في كيفية التصرف بالبرادات التي تخزن فيها، فيبدو انه يتفق مع رأي سابق أطلقه "جاك لاكان" ولم يرضى البعض عنه، مفاده ان الجنين المحصور في مشيمته ليس جزءًا من جسد الأم، بل يحتويه غلاف خاص. ومهما يكن الأمر فالطفل في الواقع يُحيط باكرًا جدًا وجه امه ويحتفظ له باستقبالٍ لا يحظى به وجه آخر إلا بصعوبة، كما انه لا يناديها لاحقًا بالاسم نفسه الذي يستخدمه لمداء امراة أخرى، يمكن أن يكون للطفل عدة "امهات صغيرات" كما في القرابات التصنيفية، لكن أسم الام وحده لا يُعين إلا أمه مثلما أن ضمير الشخص الأول لا يعين إلا المتكلم، وباستثناء هذا التعيين تتعلق استخدامات هذا الاسم كلها بالاستعارة، واشهرها استعارة "أمومة" الأرض برمتها، الأرض التي تغذينا، وإليها نعود. وكأن هذه الولادة لم تحدث دون أن تترك تخييلًا تُحققه استعارة العودة خيايًا وتدل عليه في الوقت نفسه، كأية استعارة. أما إذا لاحظ احدٌ وجعل من نفسه محامي الشيطان، فإننا لا نعود إليها نظرًا لعدم خروجنا من أحشائها على طريقة العمالقة، ونحن ننفصل فقط عن المشيمة التي نرميها عمومًا دون كثير من الضجيج. أما في اميركا يستخدم تسمية الجامعة استعارة الام المرضع Alma Mater

"الما ماتير" أنهم بارعون على الصعيد الاقتصادي، من الواضح تماما أن ارضاع حليب الام في الحرم الجامعي أقل كلفة من إرضاعه تحت الارض.

تعد علاقة الأم – الطفل أحيانا علاقة بيولوجية، غريزية، او تتصل بحب غريزي، ويكون طابعها نرجسي، أما وجهة النظر البيولوجية فيكفي أن نأخذ في الحسبان الويلات التي تتولد حينما تشعر امرأة حامل بان وجود الجنين في بطنها مجرد وزن، وواقع خالص لا تصل إلى ترميزه كي نعترف بأن البيولوجيا ليست حاسمة في حمل الكائنات البشرية، ومن جانب آخر هذا الكائن البشري يعد مخلوق صعب يميزه هذا الملمح البيولوجي المُضاد، مخلوق لا يتسامح مع الحياة إلا بشرط أن يكون محبوبًا، وأن يحيا في ذاته. وحين يحرم من أي حب وأية رمزية في بداية حياته فانتم تحرمونه من "زخم الحياة"، أما أن يتسم هذا الحب الامومي بطابع نرجسي فهذا يعد مكافأة على فترة حمله، ومن جانب آخر هذه النرجسية لا تعني أن حب الأم الذي تمنحه طفلها يُختزل بحبها صورة اخرى تجد فيها أناها المثالي: مارلين مونرو إنموذجًا، أو مدام كوري إن كان الأمر كذلك، ولئن وجدت نفسها من جديد في طفولتها وهي لا تفتقد ذلك، فالسبب أن هذا الطفل شيء يأتيها مما وراء صورتها في المرآة من نقص الكينونة الذي سماه "لاكان" " الخصاء الرمزي" المتعين بعلامة ()، وإذا لم يندفع اللبيدو كله في الموضوع المنشود () ، فيسبب ذلك أن الموضوع المنشود()، ليس كل شيء.

يتسائل "مصطفى صفوان" هل يعرف هؤلاء الأطفال عقدة أوديب؟

نعم.. لأن الجنسية الطفلية ليست ظاهرة مقصورة على مجتمعاتنا التي تشعر بالرفاهية، طالما أن المجتمعات البشرية يتعرفون على لعبة الاكتشاف الجنسي والاغراء والاستعراض فإنهم سيتعرفون عليها، حتى وإن كان عليها حظر قاسي، اما مجتمعات الرفاهية فتستعين بالانكار، ويضيف"صفوان" أن الألعاب الجنسية بوصفها خيالات على مزاج الرغبات والاذواق مهما كان تاثيرها وشدتها وجاذبيتها -شيء من الرغبة- إذ تعرف الرغبة بأنها اختيار موضوع، اختيار تظهر فيه الذات مبدئيًا، وعليه إذا وجد الموضوع الذي يمثل لهذه الذات الخير الاسمى، وهذه هي تماما حالة الأم في الطفل، فلن ينفي هذا الموضوع، أن يوظف نفسه كي يكون موضوع هذه الرغبة. هنا ينبغي أن نلاحظ بدقة أن الرغبات المعنية ليست رغبة تبحث عن تحقيقها، بل على العكس، تبدو آليات الدفاع كلها دفاعات ضد هذه الرغبة التي لا تتعلق في نهاية المطاف إلا بما يدعوه فرويد " أمنية" أو كلمة التمني "يا ليتَ" كالقول ليتها أُمي. أما المصاعب مع القانون فلا تأتي كما نتخيل مع أن القانون الذي يمثله الأب يفصل الذات عن موضوعها الأولي، بل تكمن في الثبات على الموقف الذي يحجز الذات" حيث يعلو الصوت قائلًا: " إنما الكون عيب في نقاء العدم" عيب في نقاء المتعة" جاك لاكان" وهذا يعني أنه مثلما يقصر الموضوع المنشود () عن امتصاص الوجود، يقصر الكون عن امتصاص المتعة التي ترى عيبًا في نقاء العدم، ويبدو أن "لاكان" يجري هنا تمييزًا آخر يكاد يكون افلاطونيًا بين المتعة الخاصة الناتجة عن الخبرة، والمتعة في ذاتها، أو فكرة المتعة.

علينا التمييز بين الموضوع والدال، لنتخيل ساعة عجائبية لا تقتصر على تحديد الزمن، لكنها تحدد ايضا تواريخ أحداث مستقبلية، إلا أن عدم امتلاك هذه الساعة غير الموجودة لا يمنع الذات من التطابق مع الدال الذي يرفضها حيث يقيم كونه الرمزي، ولا يمنع التنبؤ انطلاقًا من هذا التطابق الذي هو كأي تطابق آخر، تطابق مع الدال.

أما فكرة القضيب الرمزي فظهرت خلال العصور القديمة حيث انتشرت في كل مكان وظيفة تمثيلاته بوصفها رموز حق التمتع بمُمتلك معين بصفته ملكية خاصة مثل البيت والمزرعة والسفينة. أما "جاك لاكان" فجعل من هذا القضيب الرمزي بالاستعارة الأبوية، الدال على القانون السيادي في التمتع من حيث إنه يعادل أسم الأب، وبالفعل يعود ظهور الأب بمظهر ذاك الذي تنتمي إليه الأم، بحسب قول فرويد، إلى ظهوره ظهور الذي يُباح له أي موضوع. وإذ تتطابق الذات مع هذا الدال الرمزي، لن تكون إلا مفرطة الحساسية للعملية المتكونة من الانخراط في الكلي الذي يشمل المشترك بين البشر الفانين تحت شعار الخصاء الرمزي.

 أما الخصيصة العظيمة في المجتمعات البدائية فتقوم على أنها لا تترك الذات وحدها في مواجهة القانون الذي يقلص حقوقها في التمتع ومواجهة عواقب رفض القانون، أولا هذه المجتمعات منظمة على نحو يجعل من الصبي "الذكر" رب عائلة جديدًا، ومن البنت زوجة وأمًا مستقبلية، فضلا عن أن استقلالل الرمزي معروف تمامًا من حيث هو كوَنٌ يمتاز بوجود مقدس، وإن لم يكن مُمميزًا من الناحية النظرية، كما أن البشر الفانين يتساوون في أخوة نقص الوجود، أو الخصاء الرمزي من وجهة نظر هذا المجال الذي يتناسق فيه الرمزي مع المقدس، زخلاصة القول يقوم تنظيم المجتمعات البدائية على الفصل الواضح، والوجودي بين الخاصيتين الرياضيتين اللتين تُعرفان اللذة الجنسية بحسب "لاكان": الفصل بين من يضع وجود المجهول( ×) الذي يستثنى من الخصاء ومن يضع كُليته انطلاقًا من هذا الاستثناء نفسه كما يراه "مصطفى صفوان" في كتابه اللغة العادية والاختلاف الجنسي المنشور في العام 2009 في باريس"، وقلما توجد طريقة لتجنب تشابه التطابق مع مجهول ( ×) الاستثناء حيث يكمن الوهم "هوام" الاساس، الوهم الذي تنطوي السوداوية "الحداد" على مأساوية قوة صرخة النحيب المُعلنة في المعبد، أن الإله "بان" قد مات، قمة هنا دعوة إلى بعض الحذر من الاستبسال في دفع كل تحليل إلى نهايته حتى لو سُميَ ترربويًا، فلا شيء يضمن في نهاية المطاف أن يفضل أوديب الموت على خلعه عن العرش، ولم يؤلف فرويد كتاب ما فوق مبدأ اللذة عبثًا.

يستعرض "صفوان" باختصار مأساة هاملت في التيه على غرار والده الذي تاه في المطهر بين الجحيم والجنة، في مطهر سؤاله المُلح عن المتعه القابعة في قعر جنسية هذه المرأة.. أمه، التي تواطات مع عمه في جريمة قتل والده الملك. هاملت مسرحية تراجيدية تجري أحداثها في المجال اليهودي- المسيحي، بينما تتوجه مسرحية أوديب الملك إلى مواطنين يمجدون آلهة مدينتهم محتفلين بهم في الأعياد، لكن شكل العائلة البطريركي مُهيمن في المجتمعين. وفي الحقيقة أن ظهور هذا الشكل العائلي الذي بلغت ذريته مبلغًا جعلها تنتشر في اغلب المجتمعات البشرية، لا ينفصل عن أول ثورة كبرى في تاريخ البشرية، أصبح البشر هم أنفسهم مُنتجين، بدل أن يعيشوا حياة تعتمد على ما تنتجه الطبيعة، والقصد هنا الثورة الزراعية. وعليه يقول "ايمانويل تود" أن كل عنصر من عناصر الحضارة الأربعة الأساسية "الزراعة، والمدينة، وصناعة المعادن، والكتابة" يكشف قوة متأصلة من التوسع، وفي واقع التاريخ أصبح بوسع الشعوب التي كثفتها الزراعة، ونظمتها المدينة، وزادها تصنيع المعادن تقنية وقوة عسكرية، أن تؤثر في المجموعات البشرية المُجاورة، أو أن تحل محلها. ويرى "صفوان" إذا عُد شكل السلالة الأبوية للعائلة يُميز إلى حدٌ ما الحضارة القائمة على هذه الثورة الزراعية، يبدو أن العامل الأبرز هو تدجين" تَكيُف" الإنسان نفسه، أعني ابتكار المنزل. واظهرت بالفعل التنقيبات في قرية غور الأردن الأعلى في العام 1955 التي قام بها "ج.كوفان" حيث أظهررت فكرة جديدة عن التمدن ما قبل الزراعة في الشرق الأدنى، وحفزت هذه الكشوفات كششوفات أخرى في المشرق الجنوبي وعلى نهر الفرات، أظهرت أول الفلاحين المستقرين في المشرق بأنهم"قاطفو الحبوب" الذين هم المتخصصين بجعلهم هذه النباتات ثروة أساسية. فضلا عن بناء البيت الاصلي، وهو مجرد خندق، رغم إن الإنسان كان بعيدًا عن إمتلاك فن البناء الذي يتصدر العمارة المستطيلة. يقول "صفوان" ما يهمنا هو تأسيس شكل سلالة العائلة الأبوية، فاصبح الأب رب العائلة، وصارت سلطته مثلما استطاع بيترج ويلسون أن يعبر عنها "بلاط النظام القديم" سليل مختلف جدا عن شكل القيادة البطريركي الذي يجب البحث عن "شكله الأولي" في سلطة سيد وسط جماعة أهلية. ويمكن اختصار ذلك بالقول أن رب العائلة ورئيس الدولة أبناء عمومة، غير ان ماكس فيبر هو الذي يُعبر بالطريقة التي سوف تعيننا على أن نخلص بأفضل ما يمكن أهمية هذا المقطع عن شكل العائلة البطريركي: يوجد أصل كل إدارة في السلطة المنزلية، ولما لم يكن لهذه السلطة المنزلية من حدود في الأصل، لم يتمتع أولئك الخاضعون لرب الأسرة بأي حق شخصي، وهكذا كانت العدالة الرومانية القديمة تتوقف بوضوح وبساطة على عتبة البيت". بدأت المشكلة خلافا لتأكيد فيبر رغم توقف العدالة الرومانية القديمة على عتبة البيت واستسلام العائلة الحتمي لسلطة الأب المنفلتة، بل على الضد من ذلك تُجسد قانونا أبعد ما يكون عن أن يطبقه مجتمع خاص، سواء أكان رومانيًا أم غير روماني، لكنه يُرسي دائم المجتمع البشري كما هو ويسعنا القول إنه المجتمع الذي اكتشف فيه ليفي – ستروس نشوء الثقافة: قانون تحريم نكاح القُربى. والسؤال أي نكاح قُربى بالضبط؟

رأينا الحرية التي تطلب المجتمعات معها، في هذا المجال قوانين لا تختلف بين مجتمع وآخر وحسب، بل تختلف اختلافات الطبقة، أو المستوى وسط المجتمع ذاته، وفعلا مثلما تتوقف العدالة الرومانية على عتبة البيت، يتوقف اختلاف نُكاح القربى أمام تحريم نكاح الأبن / الأم اذي يشير ثباته الكلي إلى المكان المركزي والأساسِ، حيث تتخذ قوانين التحريم ونكاح القربى الأخرى، في نظره طابعًا عابرًا على الارجح إن لم يكن عشوائيًا. وفي الحقيقة قانون يتوجه إلى الأم لا إلى الأبن. فالمرأة التي تجامع أبنها، تُعيده إلى رحمها، مع ما يمكن أن تعينه هذه الإعادة بوصفها عودة إلى المَهد، إلى البيت الأول، مما يُمثل "الغربة" أو الموحش الذي لا حدود له، لكنه الموضوع في مركز العائلة، ولنبقى مع ذلك مع الفتى الذي هو ضحية جنسية محرومة من أية قيمة حيوية، لكنها ليست محرومة من قيمة الموضوع، لأنها تتوجه في المقام الاول إلى تلك التي تُجسد الحب في نظره: أي أمه.. فثمة مواقف تُهيمن فيها الأم وحدها على أبنها، ويقول "صفوان" هذا ما يحصل مثلا عندما يفكر زوجها أنه برأ نفسه من مهمته بمنحها ابنًا صغيرًا يتركه لها دون اهتمام كشيء بات ملكيتها الشخصية،ويرى "صفوان" هذا الموقف يدفع الفتى أحبانًا إلى أن يصبح مُتحولًا جنسيًا.

كل شيء يحدث إذًا كما لو أن الفتى المحروم من نقص الكينونة، بمعنى المخصي رمزيًا، كان مجبرًا على أن يُخص "خصاء" نفسه بنقص لابد منه ليضمن فيه بقاء رغبته، ومرة أخرى أيضا يعود ممنوع الرمزي إلى الواقع، إذ تكون الجنسية المبكرة ظهور الذات الناطقة المُبكَر كما هي، وهنا ربما تلامس سبب وجود هذه الظاهرة الغريبة، ففي مواجهة أم لا يكبح رغبتها أي قانون، سيختزل وجود الفتى وإن كان مزودًا بقضيب ينتصب بدون داعٍ مفهوم، إلى وجود موضوع خاضع لغيريةٍ سيادية، حيث يتوثق الرابط بين الجنسية والحنان. رغم أن الخلط بين الرغبة والطلب خطأً جنوني كخطأ الخلط بين الأبوة والسيادة من خلال إيلاء سلطة القانون إلى الأب الحقيقي الذي هو وكيله كما شدد "لاكان" باستمرار. وقوله ايضا "صفوان" أن إيلاء سلطة غير مسؤولة إلى أب متخيل علامة عى إخفاق الأوديب. وهي أيضا تحكم ايديولوجية الزعيم، الايديولوجية القائمة على هيبة الملك الشمس. وخلافا لهذه الايديولوجية تبدو الحقيقة الآتية: مثلما تتوقف العدالة الرومانية القديمة على عتبة باب البيت، تتةقف سلطة الأب على عتبة قانون تحريم نِكاح القربى. أضف إلى ذلك مثلما تنبع وظيفة عُقدة أوديب من الدخول في العلاقات الإنسانية ومن إدخالها للمرة الأولى مفهوم القانون المكتوب في اسم الأب، ينبع تخطي الأوديب الذي يُخلص الولد من حب أمه- أو بعبارة أخرى وظيفة الأب الحقيقي – من ادخال الشخص في مجال علاقة بالقانون لا تنبني على إملاء القانون، بل على أخذه في الاعتبار، وهذا ما أدى إلى تقسيم العائلة البطريركية لم ينته بجنون عام، إذ أنشأت الثورة الزراعية بفضل العمارة المستطيلة، المعبد إلى جانب البيت.

المعبد هو الشاهد البصري، لذا لا وجود لمعيار الشرعية النهائي، فالاعتقاد أن المصطلحات الدينية هي نقل مفاهيم إنسانية، كمفهوم الأب مثلًا إلى الصعيد اللاهوتي ببيان انعطافه من الرمزية الخاصة إلى اللغة، وضمن هذا التوجه تتكون دراسة لاكان التي تناولت عُقدة أوديب من اعادة علمنة اللاهوتي، فقد صار من حق الناس أن يبنوا معهدًا بدل المعبد، وليس مصادفة أن ينتمي كل من فرويد ولاكان إلى الحضارة ذاتها، حضارة تُفرغ العائلة التي خلقتها الثورة الزراعية من معناها، أي الثورة الصناعية فبين الرجلين اختلاف في التأثير يعود إلى ما عاشاه في فترات مختلفة من هذه الحضارة.

يتلخص إيمان "فرويد" بسلطة إله اللوغوس الوحيدة في أنه لم يشك في قيمة آلية العقل فحسب، بل يشك خصوصًا بالقيمة الديكارتية في أن قيمة العقل منبع المبادئ الببديهية التي تضمن اتفاق الناس جميعا، وتمنح الحياة معنى، وبأسم هذا العقل اقتنع ببان إيمان البشر بالله لا يقوم إلا على حاجتهم الدائمة إلى أب تحميهم قدرته الكلية من الطبيعة. أما "لاكان" منُظر عالم "محبط" فأراهن على أنه كان يستسلم بفكرة أن ضروب الخطاب القائمة على العلاقات بين المفاهيم اللاهوتية والدنيوية لا تصدر أي حكم مسبق على قضية وجود، أو لا وجود موضوعاتها اللاهوتية والدنيوية، وإنها ما أن تتخطى مجال الواقع المحسوس حتى تتوقف المعرفة النظرية على عتبة هذه القضية باستثناء بعض علوم الرياضيات التي يرتبط فيها الوجود مع ما يسميه كيركجارد " قفزةُ الإيمان"، ومهما يكن الأمر سواء تصورنا الطرف الثالث مع فرويد، قدرة إلهية، أم منبع الشرعية النهائي مع "لاكان"، سنتفق على الآتي: إذا قكر مجتمع من خلال مغامرة مزعجة في أن يضع فلانا في هذا المكان الثالث فهو لا محالة مستسلم لما يقترب من أزمة ذهانية.

الباب الثاني: اليوم

4 – من المعبد إلى المخبر، أو الأب بوصفه شيئًا جزئيًا

بعد سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد في العقد السادس من القرن العشرين تعاظمت مشاركة المرأة في العمل ومع تحول الاقتصاد شيئًا فشيئًا إلى اقتصاد خدمات حيث يتقاضى الموظفون رواتب متنية مما يجعل فكرة الرجل الذي يتحمل وحدة نفقات العائلة فكرة غير ملائمة، وأثتاء ذلك نشر بيتي فريدمان في العام 1963 كتابه التصوف الأنثوي حيث عبر "كارلا.ب. هاكستاف" عن سخط نساء الطبقة الوسطى من البيض، حيق تلوم بيتي فريدمان المجتمع الذي يشمل وسائل الاعلام والمربين وعلماء النفس الذين روجوا لكتاب التصوف الانثوي، وخنقوا تطور النساء، ومنعوا مشاركتهن في الحياة العامة. أما المحظورات المتعلقة بحبوب منع الحمل، والاجهاض، والطلاق، فقد انهارت خلال السبعينات، وأول ولاية امريكية أضفت الشرعية على الطلاق كانت كاليفورنيا في العام 1970، أذ لم يعد التركيز منصبًا على عقد الزواج، بل على المعايير الفردية في الاتفاق الشخصي، وهكذا حل التعايش محل الزواج المنفصل، وفي العام 1972 اعترفت المحكمة العليا بدستورية حقوق الأباء غير المتزوجين، ومن ثم أعلنت أن العائلة مجموعة من الافراد الاحرار المستقلين، وهكذا جردت العائلة قانونيًا من المسؤوليات التي كان معترفًا بها وإن كان أسميًا.

ظهر أسلوب لغة فردية مع ثقافة جديدة كما تقول"كارلا هاكستاف" تنتشر معززة بالكتب والنصائح والعلاجات، ومجموعات دعم حول موضوع الزواج والطلاق وتكون هذه الظاهرة ذات معنى، فبين عامي 1975- 1985 زاد عدد أطباء النفس بنسبة 40% وعلماء النفس بنسبة 80% والعاملون الاجتماعيون بنسبة 140% والمستشارون في قضايا الزواج والعائلة بنسبة 376%، وفي عقد واحد فقط زاد عدد الممارسين الذين يقدمون خدمات الصحة العقلية أكثر من 100%. يحاول "صفوان" في عرضه هذا تقلبات العائلة المبنية على الزواج، أم ما يستطيع استخلاصه هو انعدام الحاجة إلى الزواج لإنجاب الأطفال، وسوف يبين الزمن القادم أن الزواج لا يتطلب اقتران فردين من جنسين مختلفين، وبعبارة أدق العائلة المسماة "أحادية الوالد" وهي فكرة تأسيس عائلة لا تحتاج إلى الزواج، بل يكفي الحصول على طفل، وفي إمكانالعلم أن يقدم هذا الطفل لأي أحد يُطالب بحق أن يكون له طفل، وبامتلاكه وسائل الحصول عليه، ويضيف"صفوان" أما ما يستحق أن يؤخذ في الحسبان فهو تسويق الطفل، والمفارقة التي يكونها عُد هذا الطفل هِبه الحب السامية.

واستمرت الأمور تسير بشكل طبيعي في ما يخص الولادة، والاجهاض فأبيح في العام 1976، وكذلك تغيير الجنس، والعقم، والتعقيم المانع للحمل في العام 2003، وهذه الممارسات الاجتماعية كلها موجودة وسط العالم الطبي قبل تأسيس بنك المني في العام 1978، وبدأ تكوين أطفال الأنابيب قبل عشر سنوات من قانون عام 1974، وأجري التعقيم قبل قانون عام 2001، هذا ما عرضه "دومنيك ميمي" ويقول: دكتور صفوان" ثمة ملاحظة أخرى أكثر أهمية ندين بها للكاتب نفسه تتعلق بما يدعوه " الادارة العامة للسلوكيات" التي تمثلها منذذ أوائل الثمانينات اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاق، القائمة على "تحول في هذا الوسط بين سلطة "الـ " أخلاق التي تفرض الحظر في هذه القضايا لأنها مثل السلطة السياسية، شديدة الحزم، والإلزام و" السلطة الأخلاقية" التي ستكون مرغوبة جدًا لأنها تقترن بالاستجواب. ومن أعمال هذه اللجنة المتميزة في مجال اللغة هائلةوينتج عنها عدم نزوعها إلى السلطة، وغنما تقديم المشورة، هذا النشاط الذي من شأنه أن يكون حوارًا تنويريًا يجريه مع رجال الفن، ويتمتعون بالقدرة على المراقبة الذاتية. "قد تشير هذه الظاهرة وتلك كما يكتب "ميمي" إلى الشيء نفسه: استبطان العقل المتعاظم في الممارسة الاجتماعية، عقل برهاني هنا، وعقل برهاني وعالم هناك. ويقول" صفوان" إذا تساءلنا عن آثار هذه "الحكومة من خلال الكلام" سيكون الجواب أن الدولة هي الكفيلة اليوم بتنظيم القدسية الجسدية النسبية، وهي التي تفوض الأطباء بهذا المكتب يوميًا.. واعتادت الدولة في فرض المحظورات على التعليم القديم، واستبدال الابتكار بمبدأ يتمتع بحد أدنى من التعالي: الطبيعة، ويكون دور الطبيب العامل الآخر في وضع مراقبة استبطانه دون أن يجسد حقًا مبدأً نهائيًا ينبغي احترامه، وبقدر ما تتكون مهمة هذا الكاهن العلماني، الطبيب أو عالم النفس من ضمان انسجام مجتمع يُعرفه أفراده الأحرار والمستقلون، تنتهي بالإخفاق لأنها تقوم على خداع "العقل المؤله" الذي يصفه نوبير الياس أفضل وصف بهذه المفردات: "أما تمثيل "عقل" أو "عقلانية" التقليدي الذي يُمكن أن يعطي لكل إنسان بالطبيعة، ويكون خاصة عفوية للجنس البشري مضيئًا باستخدام كامل محيطه كنور منارةٍ فلا يلائم ما نلاحظه عند الإنسان في الواقع، وهذا رأي نوريبر الياس في العام 1987. ومع ذلك ما حدث بفضل ازدهار البيولوجيا الوراثية، هو تحويل الطبيب من " كاهن بلا إله" إلى كاهن السوق. سهلت تقنيات المساعدة في الانجاب التي توالت منذ نهاية السبعينات، حيث ولد في العام 1978 أول طفل خررج من التخصيب الأنبوبي. ويتكون التخصيب الانبوبي أولا من استئصال البيوض مع سائلها بعملية تداخل جراحي، صعبة على المراة إن لم تكن خطرة كما عبر عنها "هنري كريلي في العام 2016"، تستمر هذه العملية بين عشر دقائق وعشرين دقيقة ثم تنقل البيوض إلى المختبر حيث تُعين وتفصل عن السائل المنوي، يتم الزرع باستبعاد السائل والخلايا المنوية التالفة مما يعطي منيًا "مغسولا"، بعد ذلك تترك البيوض والمني بعد تحضيرهما بهذه الطريقة حوالي ثماني عشرة ساعة، وهكذا تنتقى كل بيضة مُلقحة وتوضع في وسط مُهيأ لتطورها. في اوروبا تترك الاجنة يومين كي تتطور في الانابيب، أما في الولايات المتحدة وكندا واستراليا فتترك على الأقل ثلاثة أيام، لا بل خمسة أيام أو ستة أيام، وعلى أية حال ينتهي الإجراء عند اختيار الأجنة وغالبا ما تزيد الأجنة عن الحاجة الراهنة. خلال (37) عاما ومنذ ولادة لويز برون ولدت العملية التي اتاحت لها الوجود ملايين الأطفال في شتى أنحاء العالم واصبحت صناعة بعدة مليارات. أدت هذه الطرائق إلى جعل "سوق المني" مزدهرًا ازدهار سوق الحبوب، فبنوك تجميد المني منتشرة في سائر انحاء العالم وأهمها بنك تجميد المني الاسكندنافي إذ جعل من مانحي المني رجال متوقون جسديًا وذهنيًا إلى حد أنهم نجحوا في الاستجابة للاختبارات الوراثية. تُرجع كلمة صناعة هنا إلى الصناعات الصيلانية التي تبلغ مبيعاتها من المنتجات والشعارات الطبية المرتبطة بتقنية الإنجاب بالمساعدة حوالي ثلاثة ملايين ونصف مليون دولار، يضاف إلى ذلك الشركات التي تخترع المنتجات الضرورية لزراعة الجنين، كالاجهزة الخاصة بانتقاء البيوض ونقلها إلى داخل الرحم، أو مجمدات الأجنة. وانتقلت هذه الصناعات من الولايات المتحدة إلى دول أخرى وظهرت شركات دولية توظف مانحات البيوض في رومانيا، وتنقل المني المجمد المأخوذ من الأب إلى مختبر في بوخارست، واستخدمت النساء في الدول الفقيرة لأنها أرخص فالمانحات الرومانيات أقل بكثير مما يدفع للمانحات الامريكيات، ولنأخذ في الحسبان أن نقل الأجنة لا يحتاج إلى جوازات سفر. يرى "صفوان" أن هذه الصناعة تقود إلى خلق أشكال عائلية جديدة لا يحتاج الوالدان معها إلى المرور بما لا أدري من الخصاء الرمزي لأنهم مجرد مستهلكين.

عُرف اجتماعيًا حتى الان ثلاثة أنواع من أشكال العائلة:

- العائلات المتكونة من زوجين ذكرين،

- والعائلات المتكونة من امرأتين،

- والعائلات موحدة القرابة، المتكونة من أم وولدها. فلنبدأ بالنوع الثالث.

 تؤكد "روزانا هيرتز" أن طفلا من أصل ثلاثة أطفال مولود من أم غير متزوجة، هنا تكمن القوة التي تحرك الحاجة إلى إنجاب طفل في متانة هيمنة عقدة الأمومة عند النساء، هذه الحاجة لا تتلائم تمام التلاؤم مع حقيقة حياتهن المستقلة، لذلك تضطر النساء بغية حل هذا الصراع، إلى ابتداع شكل عائلي جديد يرتكز على الأم والطفل، ويمثل عبرة لانحلال العائلة الثلاثية. بحثت هؤلاء النسوة المحميات باستقلالهن الاقتصادي عن الزواج المثالي القائم على الحب النقي من الاعتبارات الذرائعية التي تميز مؤسسة الزواج القديم. وبعبارة اخرى رفعن سقف الزواج عاليا وإذ احتفظن بالزواج من أجل الحب، توقفن عن الاحتفاظ بالامومة من أجل الزواج، ولكن عندما يواجهن التهديد بعدم إنجاب الأطفال، إما بسبب تخطيهن حدود السن، وإما نتيجة إصابتهن بامراض تناسلية كألتهاب بطانة الرحم، يسارعن إلى تقديم دليل قدرتهن على أن يكن أمهات. ويضيف"صفوان" ليست النساء ثوريات كما تحدد المؤلفة، فهن يعملن ما بوسعهن لرأب صدع العائلة الطبيعية المفترضة في الطبقة الوسطى. أما المشكلات فتبدا عندما يسأل الطفل عمن يكون أبوه. والحقيقة أن هؤلاء النسوة يتصورن مانح المني شخصًا أسدى إليهن ومن ثم إلى الطفل خدمة بيتة، يحاولن أن يرسمن لهذا المانح صورة مرئية ومثالية يجعلها البُعد من جانب آخر خارج الحالات المزعجة التي يمثلها أحيانًا الآباء الحقيقيون، فهي صورة ذات قيمة حماية حتى سن المراهقة، لكن هذا الطفل قبل أن يبلغ هذا العمر يثير السؤال:" ما كلمة المتبرع هذه؟ ويضيف إليه: هل سنراه ذات يوم؟. أما سسياسيًا فإن هؤلاء النسوة تظن أن من حق الأطفال أن يلتقوا "آباءهم الوراثيين" ولكنهن لم يصلن إلى هذه القناعة إلا بعد إدراكهن أن المني ليس إلا منتوجًا، ولكنه أيضًا "مظهر شخصٍ يشكل جزءًا من هويات أطفالهن"، أحيانًا يكون المتبرع صديق العائلة، نظير عمً يزورها من وقت إلى آخر، ومع ذلك العلاقة "بين أب وابنه لا تترجم آليصا بمفردات بابا- الابن أو بابا البنت (أبو البنت، وأبو الأبن). والسؤال فما الذي يجعل من مانح معروف أبًا؟ تحاول البروفيسسورة روزانا هيرتز" التي لم تجد جوابًا على هذا السؤال أن تقدم لنا فكرة عن هذا "الحضور الشبحي" واصفة إياه بهذه المفردات: "تشبه صورة المتبرع المعروف صورة شمسية غير محمضة، فهذه الصور تجعلنا نلمح شخصا حاضرا هناك، ولكنه ليس حاضرا حقًا، إذ يعرف الطفل هويته الوراثية، بينما يبقى الرجل اجتماعيًا في الظل"

تعرض المؤلفة حالة "لوري- آن" الملقحة بمني صديقها القديم "بوب" الذي بقي حبيس الفئة الخاصة بالاب – الموضوع

الجزئي. وتعني العباررة بالانكليزية.The special category of pert object father

تنبأت بتحدي أبنها آندريو الذي طلب منها أن تشرح له لماذا بقي أبوه الوراثي" اعتقد الأصح البيولوجي" "د. اسعد شريف الامارة" صديقًا فقط لا بابا، والحقيقة أن "بوب" قبل دَور المتبرع المعروف ووقع مع "لوري-آن" عقدًا خاصًا باعفائه من أي التزام وأي حق أبوي، ومع ذلك لو طلب الأبن علاقة أكثر حميمية مع أبيه الوراثي"البيولوجي" إلى درجة استعداد هذا الأب للإحساس بها، لَاكتشف حالا أنه مخدوع واستشاط غضبًا. توصلت المؤلفة إلى أن هؤلاء النساء وأطفالهن بصدد معاناة تجربة سلطة ايديولوجية ثنائية الأبوة والأمومة، تستدعي هذه العئلات تحويل مصطلح القرابة، لذلك اقترحت بعض النساء جمع المتبرعين تحت شعار "الأباء البيولوجيون" إلا أن "روزانا هيرتز" تشك في فاعلية هذه الفكرة ما دامت القرابة راسخة في الزواج التقليدي، لذلك تفضل أن تطرح سؤال ما الأب؟

بعض النساء من اللواتي استفدن من المتبرعين المجهولين، أم اللواتي استدعين المتبرعين المعروفين، كانت اجباباتهن دون أي غموض على سؤال معرفة كن ينتظرنه من هؤلاء الرجال، لم نكن ننتظر شيئًا.

تؤكد"روزانا هيرتز" قولها: حلت المعرفة والصداقة المثبتة محل الزواج بما هو قاعدة الإدراج في الدورة الأبوية، لذلك يتعاظم التباين بين الاباء البيولوجيين والاباء الاجتماعيين في الولايات المتحدة واصبح Dads "أي الأباء الاجتماعيون" ترفًا لا تكاد غايته تزيد عن أن يكونوا رفاق أطفالهم في اللعب. لكن الاب يظهر دومًا في مركز الصيغة الجارية كسيد بطريركي يحرك خيوط الدمى العائلية، ولم تقطع الامهات المستقلات هذه الخيوط وهن في طريقهن إلى الأمومة. تؤكد المؤلفة في اجابتها على السؤال الذي يثيره عنوان الفصل أن الذكوررة تتغلغل في الثقافة السائدة، ولا يستطيع أي طفل ان يتخلص من السؤال المتعلق بالاختلافات المفترضة بين الرجال والنساء، الرجال بوصفهم مجموعة، فهن يكافحن لإدراك معنى الجنس بما يتناسب مع تربية أطفالهن، يبقى أن الرجال هم أفراد يمثلون ترفًا اساسيًا يقدمونه لأطفالهم، مثل المتحكم بالبيانو، واستاذ اللغات. تقول خاتمة الكتاب إن هذه العائلات الجديدة تكشف في آن معصا تمزق النسيج الاجتماعي، لأن هذه النساء متعطشات للأمومة، وما إن يكتسبنها حتى يتوجب عليهن أن يمنحن عائلتهن المكونة ضمن شروط استثنائية معنى وذلك بدمجها في الحياة العادية، ويضطررن لدفع أطفالهن إلى النجاح التقليدي.

يقول"صفوان" لا تقلل النغمة النسوية الجذرية التي تسمع في هذه الخاتمة من غنى المادة التي جمعتها روزانا هيرتز ولا من أهتمامها بدراستها، ولا تنتقص بوجه خاص من وضوح المبادئ التي يقوم عليها موقفها، فهي تظنُ أولا.. إلى أن ضراوة طلب إنجاب طفل تشهد على شدة التعطش إلى الأمومة عند هؤلاء النساء، هذا الشرح هو مجرد حشو، خطأ واضح أيضا لأسباب ليس أهونها أن طلب الإنجاب لا يقل ضراوة عند الرجال، وهو ما سوف أعود لهذا الموضوع.

ثانيًا.. لا شك في أن روزانا هيرتز وهي تختزل الأب إلى "موضوع جزئي" ترجع إلى مصطلح سبق أن استخدمه المحللون كي يصفوا علاقات الطفل الجنسية بامه من حيث إنه يدركها إذا أمكنني القول قطعةً قِطعة، الثدي، فالوجه أو اليدين قبل أن يدركها في الطور المسمى جنسيًا بوصفها موضوعًا كليًا، لكن الحقيقة هي أن الطفل يعرف أباه حتى قبل أنيتسائل عن لغز ولادته، مما يخلع على مصطلح "الأب- الموضوع- الجزئي" هزلًا غير مقصود. أما حَرج المؤلفة من موضوع سؤال"ما الأب" ولجوؤها إلى فكرة الصورة الشمسية غير المحمضة دون أن تترك أدنى شك بان فكرة التعرف "تلك التي يطالب بها الصغير آندريو ببداهة واضحة، والتي أؤكد أنها الأساس الذي يقوم عليه عالم الثقافة" فلقد تحمل سقوط الحق الذي سرعان ما أدى إلى سقوط حق مفهوم الرغبة، غير المذكور في أي مكان من هذا الكتاب. وأخيرًا لا تذكر روزانا هيرتز أب العائلة الثلاثية الزوجية إلا على شكل "بطريرك سيد" سيرك العائلة. يتضمن هذا التعبير إسناد سلطة القانون إلى الأب وهو إسناد مشكوك فيه ومثار جدل، لكنه يتعارض بالضبط مع مذهب فرويد، فبحسب أسطورة الطوطم والتابو التي هي وحدها في رأي "كروشير" الأسطورة التي استطاع عصرنا أن ينتجها، كان الأب وسيط علاقته بالقانون، وإذ انطلق "لاكان" في تشديده على فعل الدال في توليد المدلول، لم يجد صعوبات في إعادة أسطورية فعل إنسان ميت، إلى فعل أسم، وقد أوضحت أكثر من مرة تمييزه الاساس بين الاحتيال في ادعاء المرء أنه يسن القانون، وشرعية استباحته القانون. صحيح أن بطريرك العائلة الزراعية كان يتمتع بسلطة كبيرة، لكنه كان يمارس هذه السلطة وسط عائلة منصهرة في المجتمع، وكان باستطاعته أن ينقل باسمها كل ما يجعل الفرد يختزل من دونه إلى فراغ تعريفه بأنه " هو من هو؟": محاكاة ساخرة بائسة للقول" أنا من أنا؟" لم يكن عليه فقط أن ينقل الاسم، بل كل معالم الهوية الأخرى ايضا: الدين، والاساطير، وتاريخ الأجداد، دون أن ننسى التراث والنشاط العلمي، والمكانة، والمستوى الاجتماعي. أما تشبيه الأب بشكل من أشكال السلطة فدليل إخفاق العائلة الثلاثية في المجتمع ما بعد الصناعي في تنشئة الطفل بما يتلاءم مع اختزال المجتمع إلى مجموعة أفراد، هذا الاخفاق هو الذي ترك المجال مفتوحًا أمام ظهور العائلات القائمة على العلاقة بين الأم / الطفل، غير ان الرجال لم يسمحوا للنساء باحتكار هذا المجال من تجديد أششكال العائلة.

 5 – الأباء المقيمون في المنازل والأسئلة حول الأصول:

هناك رأي يتفق عليه عدد كبير من علماء الاجتماع الأمريكان أن المرأة قادرة حتى على أن تقوم بكل ما يقوم به الرجل من أجل أبنه، كأن ترافقه إلى مباراة كرة قدم مثلا، أو تعلمه ركوب الدراجه الهوائية مثلما الأب يمكن أن يعطي ولده الرضيع زجاجة الحليب، أما الاعتراض على هذا الرأي بالقول إن هذه النشاطات الأخيرة ذات طابع نسائي "انثوي" خاص، وإن الرجل غير قادر بيولوجيًا على القيام بها، فيترجم حكمًا إيديولوجيًا مسبقًا يكذبه علم البيولوجيا نفسه. أما "بارك" و" بروت" فيشددان في كتابهما أباء مهملون

Throwaway dads

على هذا بالقول "إن ذكور حوالي أثنى عشر نوعًا من الأسماك والضفادع والطيور والقرود، إما أن تتقاسم العناية بصغارها وإما أن تضطلع بدور التغذية المهيمن حتى مع صغارها هي. ويضيفان أن مستوى مشاركة الذكور في هذه التدابير تختلف بحسب ما يسمح به امتداد التزام الإناث بها، ولحضور الذكر مثلما هي الحال عند البشر. توحي البديهة الحديثة المتعلقة بالكائنات البشرية أن النساء لسن وحدهن من يشهدن تغيرات هرمونية متلازمة مع ولادة الطفل، فالرجال يعانون أيضًا من انخفاض هرمون التسوترون عند ولادة أطفالهم، ويعتقد بعض الباحثين أن لهذا الانخفاض علاقة بمشاعر غذائية، ومع أن النساء هن من يتحملن دون شك أعباء الحمل والولادة، فلا عجب من أن هذه العملية تؤثر نفسيًا في الرجال بقوة تعادل تأثيرها في النساء إن لم تكن أكثر. وباختصار إذا اعتقدنا بما يقول"بارك" و" بروت" لا تقتصر مطالبة الرجال الذين ما يزالون يفضلون زواج الجنس المغاير على حق الاحتفاظ بالطفل وحسب، بل تشمل حق الأمومة أيضا، وهكذا لا نستغرب ونحن نراهم يحددون موقفهم ضمن إطار مجتمع يفترض أنه يخوض صراعا من أجل الاعتراف بتشابهات الجنس، لكنه نسي على ما يبدو أن الأبوين رتبا خلال قرون بطريقة أو بأخرى رؤية أحادية الجنس، وبهذا الصدد ينقلون قصة أن" ساندرا بيم" مؤلفة كتاب عنوانه عدسات الجنس، وبينت أن ابنها جيريمي كان يذهب إلى الروضة الأطفال واضعًا مشابك شعر، وفي ذلك اليوم ردد صبي صغير قائلا: جيريمي بنت بالتأكيد لأن البنات وحدهن يضعن مشابك شعر، فما كان من جيريمي كي يبرهن بما لا يدع مجالا للشك أنه صبيي إلا أن ينزل سرواله ويكشف عن عضوه، لكن الصبي الآخر لم يتأثر فقال ببساطة: كل الناس عندهم قضيب، والبنات وحدهن يضعن مشابك شعر. أما مؤلفوا كتاب الأباء المهملون، وهم يضعون ما يسمونه" نسخة الجنس الواحد" على حساب التربية الابوية، فلا يشرحون طابع هذه الرؤية العائد إلى الاف السنين، فضلا عن عدم رؤيتهم الوظيفية التي يستقيها القضيب من حقيقة غيابه عند نصف الجنس البشري بوصفها دالًا على الاختلاف الجنسي، ويرى "صفوان" قوله: يقودنا الإمعان المتعاظم في الجنس إلى التساؤل عما إذا كان المعني في أذهان مؤلفي القصتين تفنيد إحدى أطروحات فرويد أم تفنيد أطروحة رفيق جيريمي الصغير.

في العام 2013 نشر "بارك" كتابًا بين فيه اختلافات الأشكال العائلية التي هي قيد التكون حاليًا، وتحديدا تلك التي تدين بوجودها لسوق التلقيح بالمساعدة وحجته الاساسية هي أننا في حاجة إما إلى أن نعيد دراسة شكل العائلة المثالية، وإما إلى أن نوسع تعريفه بما يتوافق مع أشكال العائلة، السائدة أو الجديدة وإخضاع هذه الأشكال لتفحص نقدي بوصفها بدائل تصورنا عن العائلة المثالية الثلاثية أو متممات له. ويرى "صفوان" قعلا لا تكاد قراءة هذا الكتاب تدع مجالا للشك في انها لا تقصد بـ "العائلة المثالية الثلاثية" مختلفة الجنسين، القائمة على الزواج، التي أكتشف أغلب علماء الإناسة كليتها إثر أعمال "لاسليت" ومدرسته في كمبردج، بل تقصد تلك العائلة كما أصبحت في العصر الصناعي، أي العائلة المنقطعة عن المجتمع، حيث لا تقف سلطة الدولة على عتبة البيت، وحيث أصبح الأب بيدقًا في خدمة سياسة سلطة الدولة، فضلا عن ذلك وبعيدًا عن أن يلاحظ "بارك" أن القانون الذي تنبني عليه مؤسسة العائلة الزوجية الاجتماعية هي نفسها التي تصنع نظام الثقافة، فهو يعدها عائلة بيولوجية حصرًا، وعلى العكس لا شيء يتطلب بوجه خاص وبالقياس إلى أشكال العائلة الأخرى التي تستحق هي بالتحديد صفة "المثالية" أن يجعلها العلم موضع اختيارنا ويحررنا بذلك من قيود ناجمة عن إيديولوجية خاطئة.

خلال النصف الأول من القرن الحادي والعشرين تمثل الزوجات اللواتي يأخذن على عاتقهن تأمين لقمة عيش العائلة 7% اجمالا من البيوت الأمريكية، ودخل ثلث الزوجات يفوق دخل أزواجهن، كما أن معدل الدفع الأسبوعي للنساء قفز 26% منذ العام 1980، وخلال الفترة ذاتها ازداد معدل الدفع الأسبوعي للرجال بالضبط 1% واليوم يفوق دخل النساء الشابات في سن العشرين دخل أقرانهن من الرجال، في كثير من المدن الأمريكية، تثبت هذه الظواهر كلها أن عدد النساء اللواتي يؤمن لقمة العيش مستمر في الازدياد، وهذا رأي سميث في العام 2009. واستنتج "بارك" من ذلك أن المساواة لا ينبغي أن تقتصر على العناية بالأطفال، بل تمتد إلى الوقت الذي يجب تخصيصه لهم، مما يتيح وجود شكل اسمه "الأباء المقيمون في المنزل"

Stay at home Dads

وهكذا تتلخص القرابة التب ابتدعها "جيريمي آدم سميث" إذا أمكن القول من خلال "أبوة" تُعرف بأنها تقاسم الأمومة. هذه النتيجة نبهت بعض المراقبين الأمريكيين ومنهم الأكثر استنارة وهو "دافيد بلانكنهورن" الذي كتب: المجتمع الامريكي منقسم انقسامًا جذريًا ومزدوج في موضوع الأبوة، حتى إن بعضهم لايتذكرونها، والبعض الآخر يهملون الأبوة، أو يزدرونها، وآخرون كثيرون لا يعارضونها لكنهم ليسوا متعلقين بها تعلقًا خاصًا.

يفترض تاريخ الأبوة اليوم كما يرويه الخبراء افتراضا واسعًا أن الأبوة غير ضرورية، وسبب هذا الافتراض الأدق أن نخبنا الثقافية الآن قد دمجت في سردها الخاص بموضوع العائلة، فكرة أن الأبوة بوصفها وظيفة اجتماعية تميز الرجال، وإما على الاغلب غير مرغوبة" كما ذكره دافيد بلانكينهورن- في كتابه الامريكان فاقدو الأبوة"، وينهي كتابه بتقديم سلسلة من الاقتراحات الهادفة إلى إعادة خلق الأبوة بوصفها وظيفة اجتماعية، تأول إلى الرجال. تشير الحقائق إلى أن المقصود ليس مجرد تلاشي الأبوة، بل الرفض الحقيقي القائم جوهريًا على مفهوم "الأب العجوز" أي المرحوم بوصفه تجسيد ما أسماه عالم نفس عائلي أسمه"فرانك بيتمان" "المرضية الذكورية أو ما سماه بعضهم أيضا" الصوفية الذكورية".

تبدو فكرة إعادة خلق الأبوة قابلة للتطبيق إلى درجة أن رفضها مصادق عليه رسميًا في الوثائق القانونية، أو الإدارية. ففي المملكة المتحدة أدرجت ضمن نص مخصص لتحديد المبادئ التي يجب أن تدير علوم التخصيب، عنوانه التخصيب البشري وعلم الأجنة، مادة تحدد أن على الطبيب مراعاة الشروط التي تضمن سعادة الطفل بما في ذلك "حاجته إلى أب". لكن رئيسة إعادة التخصيب وعلم الأجنة في بريطانيا"سوزي ليثر"،أعلنت أن المادة التي تنص على الحاجة إلى أب، مادة سخيفة مثيرة بذلك حركة غايتها استبدالها بمادة أخرى تحدد "الحاجة إلى عائلة".يترجم رفض هذه الوظيفة تغير مفهوم الزواج تغيرًا جذريًا في المجتمع الذي يتحول من علاقة لها واقعها الخاص، تضع بين قوسيها أولئك الذين يلتزمون بها إلى مشروع يؤسس على وفق مصطلحات عقد يحدد مصطلحاته الطرفان اللذات يوقعانه، أما صعوبة توسع الأشكال العائلية حيث لا مكان بعد للأب العجوز، فلا تأتي من المجتمع، بل تأتي كما يقول "بارك في كتابه مستقبل الأسر، ص 214"، مما لا يكف عن زيادتها عددٌ من الشباب الراغبين في معرفة أصلهم، وبالفعل هذا التسائل عن الأصل هو حجر العثرة التي يتحطم عليها الوهم الفردي عن الحب بوصفه وحدة أساس الوجود الإنساني.

نشرت لجنة مستقبل القرابة في العام 2010 تقرير بعنوان "أسم أبي المتبرع" هذه اللجنة لم تختار هذا العنوان، بل كان مكتوبًا على قمصان يشتريها أهالي التخصيب الأصطناعي، قام هذا التقرير على دراسة عينة من 485 فردًا تتراوح أعمارهم بين 18- 45 عامًا، فضلا عن وجود مجموعتان للمقارنة تتكون احداهما من 562 شابًا سبق تبنيهم منذ كانوا رضعًا، وتتكون المجموعة الثانية من 563 شابًا راشدًا رباهم " أهلهم البيولوجيون". أما نتيجة هذا التقرير فنعرض بعض منها ثمة ملمح هو أن النسبة المئوية الأكبر في اوساط أطفال التخصيب الاصطناعي من الأوساط تستسلم لأعراض مثل الأكتئاب، والجنحة، والادمان، وكذلك توجد ملاحظة مهمة اخرى تفيد أن أغلب أطفال المتبرعين من المسيحيين وينتمي عدد كبير منهم إلى الكنيسة الكاثوليكية، على الرغم من معارضة العقيدة الكاثوليكية لاستعمال التخصيب عن طريق المتبرعين. إن لملاحظات اللجنة هذه أهميتها لكنها لا تعفينا من الأصغاء إلى ما يقوله المعنيون أنفسهم عن شرطهم، لأن وجودهم حقيقة، فماذا لديهم ليعبروا عنه أولا من زاوية علاقتهم بحقيقة أصلهم، حيث يتصل الأمر بسؤال لا أحد يستطيع الاجابة عليه إلا الأم، ونحن نلامس هنا السبب الأكثر حسمًا لتمثيل الأم من حيث كونها الأولى التي تحتل مكان الآخر بوصفه محل الحقيقة والكلام. وماذا لديهم بعد ذلك ليعبروا عن هذا الوجود المتصور من زاوية علاقتهم بالوجود الذي يحل بشكل عام عبر سلسلة من التعيينات، فليس ثمة في الواقع من وجود بشري لا يندرج في شبكة قرابة مُكونًا مايسميه" سلنس" "تبادل الكينونة" وبقدر ما يتصرف المجتمع كما لو انه يُعد الكائن البشري "كائنًا ماهويًا" قبل كل شيء يمكننا القول إنه "لاكاني".

واخيرا وجدنا أن التبرع بالمني المرتبط بفكرة التخصيب يكون دزءًا من صناعة تخصيب تجهل الحدود، مما يعني أن الطفل يمكن أن يولد في بلد على حين أنه يأتي من بلدٍ آخر.

تذكر اللجنة عدة شهادات متعلقة بشعور الضيق والحرج وعدم الأرتياح التي يؤرثها عند اطفال مانحي المني، انهم كانوا موضوع عملية شراء، وكذلك الخشية من أن يؤدي تعبيرهم عنه إلى اتهامهم بالعقوق، فعن أي طريق كانوا يتمنون المجيء إلى العالم؟ تجيب بنت أحد المتبرعين التي يعني اسمها كما بمحض المصادفة "كرباج" كريستين ويب" : عمليا لا يدين وجودي بشيء للمصادفة الطبيعية في التخصيب الطبيعي، بل كان يمثل بالاحرى عقدًا شفهيًا، وصفقة مالية، واستغلالا باردًا، إنه عيادة التكنولوجيا الطبية.

تذكر هذه السطور بالقاعدة التي يستند عليها صرح تعليم "جاك لاكان" أي تمييزه بين الطلب والرغبة، كان يعود أحيانًا في بداية تعليمه في العام 1951 إلى هذه العبارة التي قالها بيكاسو:" أنا لا أبحث، أنا أجد" وبالفعل إن كون موضوع الرغبة جزءًا من مجال الموضوعات المشتركة يسوغ نية البحث عنه مع احتمال العثور أو عدم العثور عليه، أو مع احتمال اكتشاف أنه ليس "هذا". وعلى الضد من ذلك يوجد موضوع الرغبة كما هو عن طريق الصدفة، أي بطريقة غير متوقعة، وخارج أي بحث، يعبر "فرويد" عن ذلك بطريقته عندما ينصح لمعرفة رغبة شخص بسؤاله عن آخر فكرة كان يفكر فيها، الفكرة الأبعد من ذهنه، وهذا بالتحديد ما يعني في شهادة" ويب" رجوعها إلى المصادفة، وباختصار كان أطفال التلقيح الاصطناعي يتمنون أن يكونوا ثمرة رغبة لا موضوعات تبرع، حتى لو كان التبرع الذي يرمز فيه الحب. أما ما توصلت له اللجنة الأكثر غرابة فهو تأكيد أن أطفال المتبرع بالمني كانوا على الرغم من هذه الانتقادات يناصرون التلقيح الاصطناعي دون قيد أو شرط، حتى إن بعضهم سبق أن لعب دور المتبرع، سبب هذه المقارنة هو قناعتهم الراسخة بأن لكل إنسان الحق في أن يكون عنده طفل. يذكرنا "جاك لاكان" أن تصور طلب الحب غير المشروط بانه تكوين يفوق الطلب بقدر ما يتكون هذا الطلب في الارتباط بالتعبير عن الحاجة، وهكذا فإن عزل هذا التكوين في بعد مستقل يمتلك موضوعه الخاص، أي الطفل المختزل، هو نفسهُ إلى خفض الطلب المذكور إلى مستوى الحاجة التي تتركز فيها طفولة الإنسان، فضلا عن ذلك أن إنهاء الرابط ليس بين الطفل وعلاقة أبويه الجنسية التي خرج منها، بل بينه وبين هذه العلاقة الأوديبية يترك للأفراد أمر الاهتمام بمعرفة ما يفعلونه مع جنسية أصبحوا سادتها.

6. السوق:

يناقش "مصطفى صفوان" موضوع مهم وأسساس قاد تاريخ العائلة إلى تعريفها عبر انقلاب غريب من خلال الأفراد الذين يكونوها، فأولئك على اختلاف درجة استقلالهم طالبوا بحق الحب غير المشروط، حب الطفل، وكان العلم حاضرًا لكي يستجيب لهذا الطلب، والواقع أن الجزء الأكبر من أطوار أطفال الأنابيب يستجيب لطلبات النساء الراغبات بطفل، سبب ذلك أن الاحتياطات المتراكمة في بنوك المني بسعر "200" دولار لقنينة تكفي لعشر محاولات ليست عُرضة لخطر النضوب القريب، حتى إن رجلًا لُقب في مشيغان بـ "إله المني" بسبب إنتاجه على مر السنين ذرية من أربعمائة "ولد"، بينما "إلهة البيوض" لم تولد بعد، واصبحت البيضة التي يكمن فيها مفتاح الحياة، الخلية الأغلى على وجه الأرض، وذلك بفضل الآفاق التي تُفتح أمام استخدامها في المستقبل لغايات طبية. فالوكالات التي توظف المتبرعين وتنشر لهذا الغرض دعايات ضخمة محملة بعبارات معسولة مثل " امنحوا الحياة" أو " النساء يساعدن النساء" في إشارة إلى المرأة العاقر- النساء العاقرات" وتطلب هذه الوكالات أسعارًا باهظة وبالاخص "للمتبرعات اللواتي يحضرن الدكتوراه" ويتابعن دراسات عليا في الطب، أو في اختصاصات أكاديمية أخرى، كما يعرض لهذه الفكرة جوشوا كامسون في كتابه العائلة المتمدنة الصادر في العام 2017. ويضيف "جوشوا كامسون" عالم الاجتماع قوله تستدعي البيضة رحمًا للإيجار، وإن العائئلة الثلاثية ناجمه عن نظام لا يميز بين العائلة البيولوجية والعائلة الأصلية، بمعنى تلك التي تعتمد على اختيارنا. وبدا هذا الطابع التجاري يثير الجشع مما دفع عالمًا نفسيًا إلى ابتكار مصطلح "التوليد التعاوني" بدل الإنجاب بالمساعدة". أما "الرحم للإيجار" فيروي "كامسون" عن عيادات أمهات حوامل في الهند حيث تعلمت هؤلاء الامهات عدم الارتباط العاطفي مع زبائنهن، أي مع أرحامهن والاقتصار على مساومات عمل، قبل فوارق اللغة والثقافة والعرق والوطن، وبالاخص قبل فوارق الطبقة الاجتماعية، ويخاطبهن الزبائن بدورهم كأنهم يطلبون خدمة مهنية من طبيب أسنان، أو طبيب توليد.

ومن الملاحظ أن الإنجاب بالمساعدة سوف يُقوض الطبيعة غير المتجانسة، لكنه حمل معه حيوية تجارية لن تقوض السوق أبدًا فنظرًا لتكاليف الانجاب بالمساعدة ظهرت صناعة التخصيب على بيع الخدمات لأناس أغنيياء نسبيًا، مشددين بذلك على ما أسماه بعض الاكاديميين " التقسيم التكاثري" حيث يتعاظم التطابق بين أغنياء الإنجاب بالمساعدة و"فقراءه" وأغنياء المجتمع و"فقراءه" بشكل عام كما يراه "كامسون". ومن الأدق التعبير عن معنى محبة الطفل المشتركة فيوجد في أوساط الأكثر ثراءً في لوس انجلوس التي أسس فيها في العام 1996 تنظيم بأسم " الجيل المتنامي" غايته خدمة المثليين الراغبين بان يكونوا أباء، والحديث عن العائلة من جنسين مختلفين التي اصبحت مترادف العائلة البيولوجية، فليس عديم المعنى وحسب، بل غير صحيح في المنظور السياسي، وبالأخص في لوس انجلوس حيث يوجد وسط طبي منفتح جدًا، ومثلما أن في الضواحي يحيط بها تيارًا مسيحيًا محافظًا يتعارض بشدة مع ما موجود في ماليبو وهوليود. وتكتب " ليزا مندي" هي أنكم تجدون المرضى في عيادات تلقيح لوس انجلوس، ومثليي هوليوود وأحياء لوس انجلوس الغربية، يلتقون بفتيات مسيحيات جمييلات من سان برناردينو، واورانج كونتري، يعتقدون تماما بألوهية الحياة، ويفكرن ويعترفن بان جوهر الحب الأسمى أن يكون الإنسان أبًا، أو أمًا. قالله محبة ويستحيل أن يتخيلن أن أحدًا حتى لو كان مثليًا، أن يكمل حياته دون أن يكون عنده طفل. ربما نسيت هؤلاء المتمسات المسيحيات أن الله لم يطلب محبة الطفل، بل محبة القريب البعيد عن الاندماج العفوي في نرجسية الفرد بوصفه " أقل من القليل" فضلا عن أنهن لم يردن الإقرار بذلك إلا على شرط إرجاع محبة القريب إلى وساطة طرف ثالث إلهي، ومحبة الطفل تحقق هذا الشرط بالرجوع إلى ما أسماه البابا فرانسوا " السوق المؤلهة". يستنتج "هارفي كوكس" في كتاب أهداه إلى البابا عنوانه جلالة "رب" السوق ويبين فيه دين السوق ليس مجرد شكل بلاغي لأن الإيمان بإنجازات السوق يأخذ حاليًا شكل دين قائم مع كهنته ورسله ومعتقداته وتكهناته اللاهوتية، وقدسيته وحماسته في نشر إنجيله في سائر انحاء العالم. وثمة مواعظ وآيات لاهوتية توضح بحسب " كوكس" كثيرًا من المناقشات الاقتصادية، وإذا ما أصطدمت بُلدان مثل اليونان بصعوبات لا حل لها فسبب ذلك أنها ضلت طريق السوق الحرة، وأخطأت في ممارسة الرأسمالية القديمة.

تعني كلية القوة الإلهية المقدرة على تعريف الواقع واستخلاص شيء من لا شيء، ولا شيء من شيء، فبفضل التثبيت يصبح الخبز والخمرة في اللاهوت المسيحي، ناقلي الحضور الإلهي والحال أن الجسد البشري المخلوق على صورة الله، كما يلاحظ "كوكس" أصبح من خلال ظهور تثبيت معاكس يثير الدهشة، وبمعنى أدق آخر وعاء مقدس يجب تحويله إلى سلعة، هارفي كوكس في كتابه جلالة رب السوق الصادر في العام 2016 من مطابع جامعة هارفارد. ويعرض "صفوان" ايضًا ليس لأن تقنيات التوليد بالمساعدة أوجدت سوقًا جديدة وحسب، بل لأن السوق أكتسبت سلطة الدين، دين له قديسوه ورسله، بداية بـ آدم سميث الذي يدرس "كوكس" بتؤده تعليمه وتأثيره لكن يمكن أن نضيف إليه الأقرب إلينا "توماس فريدمان" و" نوزيك" الذي يَعُد دفع الضريبة عبودية، لأن دفعها يؤول إلى العمل العبثي كليًا، أو جزئيًا، أما رجال هذا الدين فهم يتكونون أساسًا على مقاعد مدارس التجارة المرتبطة بالجامعات الأمريكية، ومثلما تقوم الحكومة بالكلام على الإيمان بـ "العقل المؤله" حيث يقوم دين السوق على الإيمان الذي يوظف مبادئ ما سماه "بيرس" الجنون النيو ليبرالي. يعرض "كوكس" رؤيته " تعتمد السوق كألهة الماضي الذين كان الكهنة يقدمون لهم الصلوات وعرائض الشعب على مبعوثيه الخاصين وهكذا غاص ورثة معترفي القرون الوسطى من المعاصرين الذين خبروا فن علم النفس المتقدم الذي حل محل علم اللاهوت بوصفه "علم النفس " الحقيقي في خيالات الرعاع الخفية.

وختامًا يلاحظ المؤلف وجود مفهومين في الدين المسيحي يخصان علاقتنا بالله، الأول هو مفهوم القديس بولس في خطابه إلى الاثينيين: " نحن نحيا في الرب ونتحرك ونوجد" الله مسكننا وهو خارج عنا، والمفهوم الثاني هو مفهوم القديس بطرس الذي يذكر بمناسبة عيد العنصرة بنبوءة الرسول اليهودي يوئيل: سوف "تنسكب الروح على كل جسد"، فالله يسكننا باستبطانه، ويتسائل "كوكس" عما إذا كان روح السوق قد عرف التأرجح نفسه بين الخارج والداخل كماعرفه الروح القدس، يلاحظ أن ثمة شيئًا لم يتوقعه ماكس فيبر، هو ما ترتب على الرأسمالية لاحقًا في ضرورة تشجيع الاستهلاك أكثر من تشجيع الادخار. فمن الاهمية بمكان أن يتسرب السوق، الذي ينتشر خارجنا وتحت جلدنا وفي مشابكنا العصبية، فهنا يكمن في رأي "كوكس" دافع تغول كوكبنا ذاتيًا مما يؤدي إلى أن نجد في كل مكان من العالم الوجبات نفسها، والألسة نفسها، والأبنية نفسها.. الخ، في تحٍد للثقافات المحلية، ويدعم ذلك كله مذهب المتعة : خذ هذا وستكون سعيدًا، وبحسب رأي" ميشيل سانديل" الذي يستشهد به "كوكسس"، إنعطافًا من مجتمع يملك سوقًا إلى مجتمع أصبح سوقًا. يشمل ضمير نحن بطبيعة الحال الرجال والنساء على حد سواء، أما سوق التلقيح بالمساعدة بوجه خاص فقد سمحت بتكوين عائلات مثلية وعائلات سحاقية أيضًان وهذا لا يمنع وجود عدد كبير من الرجال الذين ما يزالون يدعمون بالأحرى الزواج مختلف الجنس، ومع ذلك يحاولون إعادة تعريف الدور الذي لا يعود ضمن نطاق هذه العائلة إلى الأب المختزل إلى موضوع جزئي، بل إلى الرجل. تثبت تصوراتهم كما سوف نرى أنهم على نحو غريب لم يلقوا بالا إلى إرث كبار علماء الإناسة الذين شددوا على طابع العائلة الثلاثية الثقافي إن لم يكن الثقافي كليًا.

7. فلسفة السوق

من المعروف أن أي إنسان تستقطبه قوة تأثير اللغة لابد أن يواجه تضادًا "عويصا" يخلق لديه مشكلة لا حل لها على ما يبدو لأن اللغة هي نظام مكون من اختلافات متضادة، ومن ثم فإن أية جملة تثبت هوية الأضداد هي جملةٌ خاطئة، وقانون عدم التناقض هو وحدة الحقيقة الملازمة لبنية اللغة، لكن هذه الحقيقة شكلية رغم إنها اساسية في الاستخدام. تُدير ترشيد الوسائل من أجل غاية معينة، إلا أن اللغة تبقى خرساء أمام الغايات، وهذا شرط يشكل إرباك على الأقل، إذ تستدعي اللغة بما هي وسيلة تؤمن التعايش الإنساني، وهي قانونًا يضبط هذا التعايش، والحقيقة وحدها هي ضمان الشرعية التي تقوم سلطته عليها، ومع ذلك هذه الحقيقة غير موجودة ! غير أن الإله الموصوف بالعليم يسمح باكتشاف وضعه الواقعي في غياب الحقيقة الدنيوية، وبضمان ملاذه في عالم الغيب. فهل مثل هذا الاله هذيان جماعي؟ على ما يبدو هذا هو رأي " الماركيز دي ساد" أرجع هنا إلى قصيدته الحرية التي تضارع الألق اتقادًا ها هي السطور الأولى منها:

ما هذا الكابوس العاجز، العقيم

هذا الإله المُبشرُ بالخداع

هذه العصابة المقيتة من الكهنة المزيفين؟

هل يريدون وضعي وسط مشاهديهم؟

آه.. أبدًا أقسم على هذا وسوف ألتزم بكلامي.

أبدًا، هذا الصنم الغريب والمنفر

وليد الهذيان والسخرية،

لن يترك في قلبي أدنى انطباع " ماركيز دي ساد"

هل كان "ماركيز دي ساد" على حق رغم أنه ينطلق علنًا من رغبة، رغبة تدمير الإلهي وقوانينه، وحتى اسمه، رغبة شاسعة يمتد قوسها من طرف إلى آخر لتاسيس ما وصفه بعضهم بأنه "بابوية شيطانية" والحق أن ما يريد "ساد" تحطيمه ليست هذه القوانين الإلهية، أو تلك ولا مجموع هذه القوانين، بل إنه يعكف بالاحرى على قلب القانون الذي يشكل عقبة أمام متعة تنتصب عدم شرطيتها بوصفها حقًا، وهو بذلك إنما يُعري موضوع القانون، و"لاكان" محق أيضًا بالنظر إليه من زاوية خصومته الظاهرة مع "كانط" خصم القانون الأخلاقي القائم على العقل الخالص الذي يستبعد المجال الحسي مخاطرًا بتلاشي موضوع الرغبة.

يقدم لنا "داني - وبير ديفور" في تحليله بإسهاب في كتابه المدينة الضالة ما كتبه "لاكان" عن "كانط" و"ساد" في رأيه بين الفيلسوف المتشدد الماركيز الإباحي تناقضًا واضحًا وعويصًا على حد سواء، ولم يستطع "لاكان" حله خلافًا لما كان يعتقد ولم يسمح له هذا بأن يقدر تقديرًا صحيحا التغيرات الجنسية "اللبيدية" التي يحمل عصرنا سمتها، والتي ترتبط بهيمنة المذهب الليبرالي الجديد، ولا ننسى أن هذا المذهب يقوم في نهاية المطاف على فكرة يد السوق غير المرئية التي تضمن بحسب آدم سميث في كتابه ثروة الأمم بأكثر ما يمكن اكتفاء الجميع من خلال لعبة المصالح الحرة المحسوبة جيدًا لكل فرد دون أية تسوية مؤثرة من الخارج، ودون إكراه، ربما يينبغي أن يترك المجال حرًا لفلسفة "ساد" التي تجعل من حكمة المتعة قانونًا أخلاقيًا كليًا. هذا النقد إذا فهم فهما جيدا لا يمس أطروحة "لاكان" التي ترى أن العلاقة بين القانون والمتعة التي تبغيها الرغبة ليست بعلاقة تناقض، بل علاقة وجهي العملة ذاتها، أو على الأدق علاقة استمراريتهما على سطح ليس له داخل ولا خارج مثل شريط موبيوس، أو زجاجة كلاين" شريط موبيوس وزجاجة كلاين مثالان على سسطح ليس له توجيه".

تعود مسألة العلاقات بين الطبيعة والثقافة مسألة هجوم بينهما، ويرى "صفوان" قوله لنطرح مقدمًا أن "الطبيعة" و"القوانين" هي أفكار ثقافية، حيث تمكن الثقافة في تفعيل اللغة، وإن ما يميزها هي القوانين الإجتماعية التي تنظم العلاقة الجنسية، أي القوانين المسماة بقوانين تحريم نكاح القربى التي بينت أسباب المكانة المركزية التي ييحتلها كما بدا لي تحريم نكاح القربى بين الأبن والأم ومن ثم لا يدعونا "ساد" إلى كسر هذه القوانين بفضل قفزة تحرر نكاح القربى من روابط الثقافة بغية إقامته في الطبيعة التي يجعل من نفسه صدًا لها، ولئن تناقضت مطالبته مع ما يدعو إليه "كانط" في موضوع القانون الأخلاقي، هذا التناقض يدل دلالة أفضل على موضوع هذا القانون، أي المتعة التي يشدد "كانط" على استحالة أن يستخلص منها القانون الأخلاقي. ويتسائل "صفوان" عن معرفة إن كانت الهوة التي تفصل القانون الأخلاقي عن المتعة لا رجعة عنها، او إن كان يوجد مصطلح لا يتخلى عنها للقانون ضمن نسق السامي، أي يتخطى هذه الهوة دون أن يكون من الضروري الاستعانة بعقلٍ خالص. وللاجابة على هذا السؤال يعرض "لاكان" اعتذار "كانط" الذي يذكر رجلًا يامره سيده الأمير بأن يدلي بشهادة زور ليدين عدوه، فيحسب كانط تتثببت قيمة القانون المتعالية في عدم استبعاد أن يكون الموت عند هذا الرجل أفضل من الادلاء بمثل هذا الكذب، وفي الواقع لا توصد ابواب البطولة أمام الرجل بشرط أن تسهم رغبته في حرمان رغبة الطاغية. و"لاكان" يقول هذا بسلاسة، ويقتبس "صفوان" النص من "لاكان" قوله: " تكفي الرغبة أو ما يدعى بالرغبة لإفراغ الحياة من معناها حين تُخلق جبانًا، فالرغبة لا تصمد في حضور القانون حضورًا حقيقيًا لأن القانون والرغبة المكبوتة شيء واحد حتى إنَ هذا ما اكتشفه فرويد". لكن "لاكان" صارم مع اعتذار "كانط" إذ يذكر أن مثال قن الأمير الذي يجب أن يقول إن البرئ يهودي إن كان بريئًا حقًا، أو ذاك الذي يصرح بانه مذنب من أجل انحراف "الرابطة"، ومع هذه الأمثلة نمضي من مستوى البطولي إلى مستوى تراجيديات عصرنا حيث يربط "لاكان" الخاتمة العامة فيها بهذه المفردات:

"بوسع المرء أن يجعل من وجود الحكمة واجبًا لمجابهة رغبة الطاغية، إذا كان الطاغية ينتحل قوة استبعاد رغبة الآخر، وهكذا يجعل كانط الخطين الطوليين "الخط الأوسط العابر" رافعة لبيان أن القانون ( أحدد القانون الاخلاقي) لايزن فقط اللذة، بل الألم، والسعادة، وكذلك ضغط البؤس وحتى حب الحياة، وكل ما هو مرضي ويبدو أن الرغبة لا تقتصر على تحقيق النجاح نفسه وحسب، بل تُحصله أيضًا بصورة أفضل. وأخيرًا يجب معرفة كيف يتكون الطاغية، ذاك الذي ينتحل قوة استعباد رغبة الآخر، وإذا كانت الرغبة اللاشعورية بمعنى الأمنية هي أساسًا الصيغة التي يتم بحسبها دخول الذات في مجال القانون، تظل الحقيقة أن الذات حين تُعدُ الرغبة من واوية علاقتها بالعالم لا تجنح إلى التمتع بالموضوع بقدر جنوحها إلى التمتع بالقوة التي ترتهن بها المتعة، حينئذ يكون الأمر متعلق بغطرسة قوامها الزعم بتنصيب القانون على عرش السلطة الشرعية، فمسرحية أوديب الملك هي التراجيديا التي يتأكد فيها المَمر الذي يمضي من خداع السلطة إلى تحمل الضياع، إنها الحقيقة التي لا تهرب وتبين كثيرًا هذه المأساة.

يمكن أن نستخلص نتيجتين من هذا النقاش بين "كانط" و"ساد" : النتيجة الأولى.. هي أن إثبات "ساد" الذي ليست الحقيقة بحسبه سوى هذيان، وتراجع، لأن قلب القانون الأخلاقي لا يسحب الذات من خضوعها لقانون الرغبة الذي لا يقل تعبيره عن نفسه في هذا الانقلاب. والنتيجة الثانية.. أن كانط لا يفوت الفرصة لأننا لسنا ملزمين كي نمتلك القانون بالتوجه إلى العقل الخالص حتى إن سؤالا يفرض نفسه عما إذا لم يكن العقل نفسه قائمًا على قانون الرغبة بما هو شرط المتعة. إذا الخلاف واضح بين موقف "ساد" والموقف المتكون من الدعوة إلى إلغاء فكرة القانون ذاتها: المَنعُ ممنوعٌ، وهكذا نمضي من لذة لا تنفصل عن القانون حتى في تناقضها، إلى رفض القانون، هذا الرفض المتماشي مع تحول العائلة الذي يُخضعها لسلطة الدولة التي لا تعترف إلا بالأنا لكي تستأنف الإبهام الذي استخدمه "داني – روبير ديفور" يعود هذا التحول في رأي معظم علماء الاقتصاد وعلماء الاجتماع إلى ما يسمونه بالثورة الصناعية الثانية، هذه الثورة التي قلبت سياسة السوق رأسًا على عقب، والان غاية هذه السياسة بالدرجة الأولى هي تحويل السوق من مكان يستجيب لحاجة كل فرد ويضمن التبادل بين الناس إلى جعل الأنا مُستهلكًا. نتج عن ذلك انقلاب أفضى إلى أن الإنسان في نشاطاته الاقتصادية أصبح خاضعًا للسوق. يتأكد هذا الانقلاب في أن الصناعة الحديثة لم تعد تكتفي بإنتاج السلع المفيدة التي يحتاجها المستهلك، بل أصبحت ما يدعوه" وليم ديفيز" "صناعة السعادة"، السعادة التي لا مجال للشك في أنها الغاية التي يبحث عنها البشر جميعًا.

 كان" بنتام" ناقدًا عنيدًا لما كان يسميه "حقوق الإنسان الطبيعية ما قبل آدم، التي سبقت الشرعية وأصبحت مناهضة لها" ويشدد "ديفيز" على أن المطالب السياسية للثوريين الفرنسيين والامريكان لم تلاقِ إلا الازدراء، فكرة الحقوق الطبيعية كما صرح وإنها محظ هراء، حقوق طبيعية ومتقادمة، إنها فكرة تفاهة بلاغية، تفاهة قائمة على ركائز كما عبر ذلك وليم ديفيز.

يعود "بنتام" كما يلاحظ "ديفيز" بدقة إلى شكل من الإثبات الطبيعي حيث وضعت الطبيعة الإنسان تحت حكم سيدين هما: "الألم واللذة" فالسعادة في ذاتها ليست حدثًا موضوعيًا وظاهرة فيزيائية، لكنها تتولد بوصفها نتيجة منابع اللذة المختلفة التي تمتلك قاعدة فسيولوجية راسخة. ومهمة الحكومة تتكون من تعزيز سعادة المجتمع من خلال تطبيق العقوبات والمكافئات، ومن ثم يمثل علم السعادة عنصرًا اساسيا في تحقيق شكل عقلاني للسياسة والقانون، وليس الأمر أمر "السعادة". يبقى سؤال كيف يمكن قياس شدة إحساس مريح أو غير مريح؟ وكيف تتيح النفعية ظهورًا يساعدنا على إدراكها بقياسها؟ يرى "بنتام" أن فكرة اكتشاف مختلف مستويات السعادة بوساطة الجسد لا تنطوي على شيء مدهش، فنحن نخوض تجربتها في الحياة اليومية حينما نقرأ تعبير وجه شخص آخر إذًا من الممكن وجود علم خاص بمثل هذه العلامات. وثمة جواب ثاتي حيث يبدو "بنتام" على نحو مختلف هو أن المال يمكن أن يستعمل مقياسًا، فإذا كان سعر سلعتين واحدًا فذلك لأن من المفترض أنهما توفران للمشتري الكمية ذاتها من النفعية، ومن هذه الفكرة مهد "بنتام" السبيل للتشابك بين البحث النفسي والرأسمالية التي يستطيع مسيرة الأعمال خلال القرن العشرين.

بدأ "لاكان" حلقته الدراسية عن أخلاقيات التحليل النفسي موردًا إخفاق إنسان اللذة الإباحي، وإذا صدقنا "ديفيز" بإمكاننا أن نضيف إليه شكل الكذب فائق التحرر.. بدءًا من اللحظة التي يفقد فيها مشروع "بنتام" في التحسين النفسي أي معنى عن الحدود المناسبة يبين الأكتشاف المقلق أن المقياس النفعي قد يتجه إتجاها سلبيًا يائسًا أكثر من اتجاهه إتجاهًا إيجابيًا.

لا تأخذ البيروقراطية في الحسبان آثار قرار معين إلا بقدر ما يؤثر في عمليات البيروقراطية الفعالة، حيث أصبح "أدولف ايشمان" بامتياز نموذج بيروقراطية عصر التكنولوجيا، كان ايشمان خبيرًا ايضا، والخبير كما البيروقراطي شخص مجرب غير أن ما يميز خبراء مجتمعات العلوم والتكنولوجيا هو ادعائهم أنهم لا يتقنون الأعمال التقنية وحسب، بل يلمون ايضا بالقضايا الاجتماعية والنفسية والاخلاقية. يكتب "بوستمان" لدينا في الولايات المتحدة خبراء يعلموننا تنشئة أطفالنا وتربيتهم وكيف نكون لطيفين، وكيف نمارس الجنس، وكيف نؤثر في الناس، وكيف نكتسب أصدقاء؟ فليس ثمة أي مظهر من مظاهر العلاقات الإنسانية غير مقنن وغير خاضع لرقابة الخبراء. وتوصل "نيل بوستمان" لما يلي: يتمتع الخبراء جميعًا في مجتمعات العلم والتكنولوجيا بالجاذبية والكهانه، يدعي بعض هؤلاء الخبراء – الكهنة بالمحللين النفسيين ويدعي بعضهم بالعلماء النفسيين، وبعضهم بعلماء اجتماع، وبعضهم الآخر بعلماء إحصاء، أما الإله الذي يخدمونه فلا يتحدث عن العدالة ولا عن الخير، والاحسان، والرحمة. يتحدث الههم عن الفعالية والدقة والموضوعية، لهذذا السبب تغيب عن مجتمعات العلم والتطنولوجيا مفردات مثل الخطيئة والشر، لأنها تأتي من عالم لا يناسب لاهوت الخبرة، كذلك يطلق كهنة هذه المجتمعات على الخطيئة تسمية "الانحراف الاجتماعي" وهو مصطلح إحصائي، وعلى الشر تسمية المرض النفسي، وهو مصطلح طبي، وهكذا يختفي مفهوما الشر والخطيئة بسبب تعذر قياسهما وإثبات الموضوعية فيهما، ومن ثم فهما غير صالحين لمعالجة الخبراء.

‘ن شهادة "ديفيز" المتعلقة بانعدام الرغبة عند موظفي الإدارة وشهادة "نايل بوستمان" عن موضوع الخطيئة والشر عند خبراء مجتمعات العلم والتكنولوجيا إثبات قيم لما بدا يستشفه بعض المحللين بدءًا من الثمانينات، وكان "جاك لاكان" في محاضراته وكتاباته في نهاية السبعينات، شدد أكثر من مرة على أن عقدة أوديب خلت من معناها في عصر فقد معنى التراجيديا، حيث أشار إلى أن الأب اختزل إلى شيء جزئي، لم يُعد وزن "أسم الأب" يزيد عن وزن قارورة مَني، واليوم بات من المُلح أن يراجع المحللون موقفهم من العالم، وهذه المراجعة غير ممكنة دون الرجوع إلى الفرويدية وتشابكها مع الثقافة.

الباب الثالث : الفردية والفرد

8. الفردية والفرد..

يحاول "مصطفى صفوان" أن يعرض للفظ الفرد في فلسفة السوق، حيث يدل على واقع لاشك فيه، واقع كل شخص بوصفه شخصًا ووحدة ناشطة ومستقلة. ويضيف"صفوان" أن لفظة الفرد بالمعنى الذي تشتق منه الفردية، تشمل تاريخًا هو تاريخ تفكير البشر في ماهيتهم. أما "لاري سيدنتورب" فيرى نحن مدينون للاغريق بفكرة عقل لا يترأس فقط ابتداع الرياضيات، بل عليه ايضا أن يدلنا على اتجاه حياتنا ونحن نعرف طاقة السفسطائيين في الاحتجاج على تفسير العالم تفسيرًا لاهوتيًا. كذلك نحن مدينون للتقليد اليهودي بفكرة الإرادة وبالفكرة المتلازمة التي هي الخضوع للوصايا العشر. هنا يرى القديس بطرس رؤيته الحاسمة قوله فإذا لم يرض بفكرة خلاص يضمنه الخضوع للوصايا، يرى الخلاص الحقيقي في القيامة على غرار ابن الله الذي يكفل إيماننا به، "الحب هو أن نصلب أنفسنا مع المسيح" هنا لا يخوض الفرد تجربة الضرورة، بل تجربة الرحمة، وحين يُقتَلع من ذريته يصبح مقر الخلود بدل العائلة. وحيث لا أحد يولد في يده الحق في الحكم، يطرح السؤال عن القاعدة التي يستند إليها حق الحكم ذاته، هنا يأتي الجواب الحاسم من الكنيسة، أو على الأدق من البابا غريغوريوس السابع في البيان البابوي حيث تفترض الفكرة الاساسية في هذا البيان: أن البابا وحده يجب أن يدعى- بشكل صحيح – كليًا.ومن ثم نرى أنه دمج مفهوم القانون الروماني المتعلق بالسلطة الشرعية العليا مع قانون "رعاية النفوس" الخاص بالكنيسة لكن يبقى الآتي وهو أن الفرد أصبح وحدة الخضوع الأساسية للنظام القانوني. إذًا أتاحت المطالبة بالجلالة البابوية إمكانية ترجمة المكانة الأخلاقية إلى وظيفة إجتماعية خالقة بذلك صورة جديدة للمجتمع بوصفه جمعية أفراد أكثر منه جمعية عائلات، أو قبائل، أو طوائف.

أسهم القانون الكنسي في تحويل الفكر ذاته بينما القانون الروماني كان يحذر المجردات لأنه كان مركزًا على تفحص حالات معينة ينحصر هدفه في إيجاد الاجابات الجيدة على اسئلة قانونية خاصة. وعلى العكس كان المشرعون الكنسيون في القرن الثاني عشر يهتمون بمظاهر القرارات القانونية المشتركة الخاصة، ويحاولون رفعها إلى مستوى المفاهيم، كانوا يبحثون عن المبادئ في ما وراء القواعد. حيث حدث تحول حاسم هو استخدام العقل "بمعنى الملكة التي تحكم الواقع، وغير الموزعة بالتساوي وسط المجتمع" يترك مكانه للأسباب "التي تختلف باختلاف الافراد، وبمعنى كونها صفة تنتمي إلى أفراد يمتلكون عوامل أخلاقية متساوية" لقد تحولت وظيفة العقل إلى وظيفة ديمقراطية، وكف عن أن يكون شيئًا يستخدم الشعب لكي يصبح شيئًا يستخدمه الشعب. هذه التحولات قادت ديمقراطية العقل المشرعين الكنسيين إلى إعادة صياغة القانون الطبيعي بوصفه نظام حقوق طبيعية، أي حقوق أخلاقية، أو ما قبل إجتماعية، تلازم الفرد وأزاء ذلك حول الكنسيون الشاغل المسيحي الأول في موضوع "حياته الداخلية" إلى لغة القانون. "أرسى هذا التحويل أساس الليبرالية الحديثة". قامت الثقافة الغربية مثل كالثقافات الأخرى على معتقدات مشتركة لكن المعتقدات الغربية خلافًا لأغلب الثقافات تفضل فكرة المساواة، وهذا الامتياز المنتزع لصالح المساواة هو الذي يكون أساس الحالة الدنيوية، وجوهر فكرة الحقوق" الطبيعية" وهكذا فإن حق الولادة وحده الذي يعترف به التقليد الليبرالي كما يبرر" سيدانتوب" في خاتمة.. هو حق الحرية الفردية.

إلا أن فكرة الحرية الفردية هذه كونت النقطة المركزية التي دار حولها فكر أبرز أنصار الليبرالية في القرن التاسع عشر وهو "جون ستيوارت ميل" المولود في 1806، حيث كان عمره سنتين فقط حينما قامت علاقة صداقة بين والده و"جيريمي بنتام" الذي كان يدرس الفلسفة، وبالذات المدرسة النفعية المُسلم بها. وهو الذي وضع هذه الكلمة في رسالة كتبها في العام 1871 حيث دون ما يلي: سيكون دين جديد لا أسم له، شيئئًا غريبًا، ثم أقترح أسم النفعية. ويشرح في بحثه عن الحرية طريقته في تصور النفعية حيث يكتب : أَعدُ النفعية معيارًا نهائيًا للقضايا الأخلاقية كلها، إلا أنها ينبغي أن تكون النفعية بالمعنى الأوسع للكلمة، النفعية القائمة على مصالح الإنسان الدائمة بوصفه كائنًا قابلًا للتطور. ويرى "صفوان" بخصوص هذا المعنى الواسع حيث يسمح بتعريف مجال الحرية البشرية ويشمل: أ. حرية الفكر أو التعبير عن الفكر.

ب. حرية شق طريق حياتنا، كلٌ بحسب طبعه.

ت. حرية الإجتماع.

وباختصار الحرية الوحيدة التي تستحق هذا الأسم هي حرية متابعة مِلكنا الخاص على طريقتنا، فالفرد مِلك شخصِه وجسده ونفسه. والسؤال ما العلاقة بين الفرد والمجتمع؟ يُذكر "ميل" بمقطع "فون هامبولد" الذي يبرز شرطين ضروريين للتطور البشري، أن الشرط الثاني يتضاءل يومًا بعد يوم. أما الظروف التي تحيط بمختلف الطبقات والافراد وتشكل طبعها فتصبح كل يوم أكثر انسجامًا، بينما كانت قديمًا مختلف المستويات ومختلف أشكال الجيرة "التجاور السكني" والصنائع والحرف تعيش ضمان ما يمكن تسميته بالعوالم المختلفة، أما اليوم تعيش في العالم نفسه، وإذا تكلمنا من وجهة نظر المقارنة، نجد الناس تقرأ الشيء نفسه، ويسمعون الأشياء نفسها، ويرتادون الأماكن نفسها، ويرون الأشياء ذاتها ولهم الآمال والمخاوف ذاتها التي تلح عليها الموضوعات ذاتها، ويتقاسمون الحقوق والحريات ذاتها، وكذلك وسائل تأكيدها ذاتها. وباختصار أمتلك"جيمس ستيوارت ميل" الحق بانسجام شديد بدل ما تصور أنه فرد يتميز بأصالته، سبب ذلك الضغط الذي يمارسه الرأي العام على الدولة في البلاد الحرة. ويكتب" ميل" في مقدمة بحثه عن الحرية: المجتمع نفسه هو المستبد- المجتمع بصورة جماعية فوق الافراد الذين يتكون منهم- ولا تقتصر وسائله في الطغيان والتسلط على الأعمال التي يترك أمر تنفيذها لموظفيه السياسيين، المجتمع قادر على تنفيذ ولاءته ويفعل ذلك حقًا، وهكذا، فالاحتماء من طغيان الهيئات القضائية غير كافٍ، حيث ينبغي الاحتماء من طغيان الرأي والمشاعر السائدة، ومن نزوع المجتمع إلى أن ييفرض وسائل أخرى غير وسائل العقوبات المدنية، أفكاره وممارساته بوصفها قواعد سلوك على أولئك الذين يحتجون عليها، وتكبيل النمو وإذا أمكن منع تكوين أية فردية متباينة مع طرائقه وإجبار الطباع كلها على التكيف مع نموذجه الخاص. نستنتج من كتابات "ميل" هذه أولا.. بأنه ينضم كليًا إلى المبادئ التي تترأس بناء المجتمع – السوق عند بنتام: المنفعة معيار نهائي، وسعادة الجميع غاية وحساب "السعادة" أو حساب اللذة إذا شئنا الأفضل، ومن ثم الحاحه المتكرر على أن الدولة لا يجوز أن تتدخل في أية حال من الأحوال في قرارات الفرد، إلا إذا كانت سببًا في أفعال تزعج الآخرين، ويكون الشعار: "الفرد مِلكٌ على نفسه". أما مصالحه الخاصة بالقضايا النظرية التي لا تختزل إلى الحساب فقادته إلى تصور رومانسي عن الفرد بوصفه أصالة، وقوة ابتكار من هنا تنبع الأهمية الاستثنائية التي يوليها لقانون حرية الفكر والتعبير عنه. فهو يحمي النخبة التي يدين لها الفرد بملكيته المتميزة من حيث هو حيوان قابل للتطور، وهذا القانون هو بالضبط الذي تدعو إليه الدول الحرة. وتوصل "ميل" إلى تعريف الفرد بأنه قوة ابتكار، أو ابتكار موجود بالقوة، يعكس ما أثارته الثورة الصناعية من تحويل صورة ما يسمى بالأنا المثالي حيث يلتقي الجميع ويتعرفون هذه الصفة الفريدة: البراعة التي لايني معها يغني السوق بالأشياء الجديدة، وبعد حوالي قرن يعود التعريف نفسه عند"حنا آرانت" في بحثها ما الحرية؟ وترى أن هذه القدرة "الملكة" تتكون في المقدرة على انتاج الجديد باستثناء أية سابقة، تمثل هذه القدرة"الملكة" الملمح الذي يميز الطبيعة البشرية، إذ إن كل كائن بشري يجسد إمكانية فصل جديد من فصول تاريخ العالم، أو من انقطاع هذا التاريخ من خلال إبداع شيء غير مسبوق. بالتأكيد أن هذه الإمكانية لا تتحقق غالبًا لكن لا أحد يعلم مَن مِن هؤلاء حديثي الولادة سيكون مبتكرًا، وهكذا يلاحظ "جيريمي ولدرون" أن وجود الكائن البشري في رأي "حنا آرانت" قد وضع هذه القدرة على ما يبدو في كل واحد منا في حالة إمكانية دائمة.

إن تعريف الفرد من خلال سمة كلية خدعة لا يستهين بها كانط، مع الفرق غير الطفيف، وهو أن السمة لا ترجع في نظره إلى نظام الطبيعة، بل تمثل خاصة يتباهى بها كل شخص، وإذ يعالج في كتابه مشروع للسلام الدائم، مسألة تكوين الدولة.

تعرضت الليبرالية الجديدة وما تزال تتعرض لانتقادات كثيرة من طبيعة المنطق، والاقتصاد وعلم الاجتماع، فضلا عن أنها تثير ردود أفعال وتؤدي إلى تداعيات تهدد وجودها، يقال الشيء نفسه في يقظة الشعبوية الوطنية، وتكاثر الاحتجاجات التي تجري في كل مكان في العالم بقيادة المنظمات غير الحكومية بصرف النظر عن عدم المساواة الذي بلغته بعض الاقتراحات التي جعلت حتى فكرة العيش المشترك فكرة إشكالية "بها اشكالات". ومع ذلك مثلما أن الاثار المزعجة إن لم تكن السلبية الصريحة التي يتعرض لها أطفال المتبرع بالمني، لا تمنعهم من قبول أطفال الأنابيب كذلك لن يمنع الرفض ولا النتائج السلبية الليبرالية الجديدة من أن تعقد الامل على فرصة مستقبل زاهر ما تزال ممكنة، والسبب هو ذاته من الذي يحتج على حق أي إنسان في أن يمتلك السعادة والحب دون أن ينتظر نوعًا من الحساب الأخير؟ لسوء الحظ تبقى الحقيقة الآتية مثلما أن عقدة أوديب في نهاية تاريخها الطويل الذي وسمه تراجع الرمزي لصالح تخييل مركزية الذات، أتاحت مرَضيةً أوديبية، أو على الأدق أتاحت أوديبًا أصبح مرضيًا، كذلك أدت ديانة السوق التي وعدت بتحقيق سعادة أكبر عدد ممكن من الناس إلى هيمنة الكآبه، لا الكآبة التي تؤكد إهمال الرغبة، بل تلك التي يتأكد فيها عدم وجود الرغبة، وعندئذ يطرح السؤال عن معرفة إن كان مايزال للتحليل النفسي مكان في العصر الليبرالي الجديد؟ سيكون الجواب في الصفحات اللاحقة.

9. الفرد والمجتمع

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أنصرفت معظم الدول لإصلاح ما خلفته الحرب من دمار، وبعد أن تحققت هذه المهمة في نهاية السنوات الثلاثين، كان لرأس المال المجال الأوسع على مستوى الكرة الأرضية. وظهرت في العام 1979 لدى مارجريت تاتشر فكرة سحق النقابات العمالية وتخفيف ضبط رأس المال، فضلا عن فكرة اخرى وهي " لايوجد شيء اسمه المجتمع، لايوجد إلا أفراد، نساء ورجال"، وفي العام 1980 وصل "رونالد ريغان" لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية وكانت أميركا غارقة في ادبيات الليبرالية الجديدة، وعلى رأسها مؤلفات "نوزيك" و"فريدمان" وبصرف النظر عن الهجمات التي شنها على النقابات العمالية والمهنية، تمادى في عدم ضبط رأس المال وخفض الضرائب والميزانية، فانخفضت الضرائب على الشركات إلى حد كبير، أما ضائب الدخل القردية الأكثر إرتفاعًا فخفضت من 70 إلى 28%. بعد أن كانت الليبرالية الجديدة مجرد مذهب بعد تدخل الدولة في مجال الاقتصاد كما يعده "كينيز" "طريقًا للعبودية"، لا يمنح المصداقية إلا للسوقبغية الاستجابة لصراع المصالح الخاصة وضمان رخاء الجميع. أصبحت مع تاتشر وريغان سياسة دولة، وكان أكثر أنصار هذا المذهب في الولايات المتحدة "ميلتون فريدمان" ومدرسته في شيكاغو. فطلاب هذه المدرسة هم الذين دعموا رئاسة بنوشيه بعد الانقلاب في تشيلي ومقتل أليندي، ولكن الصوت الأقوى في المجال المذهبي هو بالتأكيد صوت" هايك". حيث ساهمت في نشر المذهب الليبرالي في الولايات المتحدة وذللك عبر شروعه في خلق أكبر عدد ممكن من مراكز البحوث التي تمولها بشكل عام شركة "ستانرد أويل"

 النفطية التي مارست التضليل عبر سالتها التي تحولت من مراكز التفكير التنظيري إلى مراكز ايديولوجية، كي لا نقول مراكز سلاح سياسي، وفعلا تشكلت حوله مجموعة من الاقتصاديين والمؤؤرخين والفلاسفة منهم"كارل بوبر" واسست جمعية مون – بلران من اسم المحطة الحرارية السويسرية حيث اجتمعوا أول مرة في العام 1947 والذي اعلن في نصهم التأسيسي: إن قيم الحضارة المركزية في خطر، ففي مناطق شاسعة من سطح الأرض اختفت الشروط الاساسية التي تحقق كرامة الإنسان وحريته، ويهددها على الدوام في مناطق اخرى. نمو النزعات الراهنة في السياسة، كما أن توسع السلطة التعسفية يفاقم إفساد موقف الفرد، والمجموعة القائمة طواعية حتى هذا المكسب النفيس الذي حققه الإنسان الغربي، أي حرية التفكير والتعبير، يهدده نشر المعتقدات التي لا تستهدف في الحقيقة هي تطالب بأمتياز التسامح عندما تكون في وضع الأقلية إلا إرساء السلطة في وضع يسمح لها بالغاء أي رأي يخالف رأيها وطمسه.

يذكر"دافيد هارفي" قوله ترى مجموعتنا أن ما أتاح هذه التطورات هو تطور رؤية إلى التاريخ تنفي وجود المعايير الاخلاقية المطلقة كلها، وتطور النظريات التي تشكك في الطابع المرغوب لسيادة القانون، نحن نقدر فضلا عن ذلك أن انحدار الإيمان بالملكية الخاصة وبسوق المنافسة مما غذا هذه النظريات: لأن من الصعب دون السلطة المشتتة والمبادرة المرتبطة بهذه المؤسسات، تخيل مجتمع يمكن أن تحفظ فيه الحرية على نحو مؤثر.

نستنتج إن ادراك "مارجريت تاتشر" استلهم من هذا البيان: لا بديل آخر.. إلا بديل ضمان حرية الفرد، ومن ثم ننتقل إلى أن المجتمع غير موجود..لأن المجتمع لا يفكر، فالافراد وحدهم يفكرون ويقدمون نموذج ما هو موجود. ثمة رأي راعاه "دروكهايم" فترة طويلة وبالفعل كما تكتب "ماري دوغلاس" "لم يكن دوركهايم يظن أن التضامن القائم على الرمزية المقدسة ممكن في المجتمع الصناعي. ففي الأزمنة الحديثة حولت القدسية إلى الفرد" والأهم أن نعرف أفكار دوركهايم نفسه عن الفرد والمجتمع. علينا أن نفتح كتابه "الانتحار" حيث يطرح هذا السؤال: كيف نحدد كمية الرفاه والراحة والترف التي يسعى إليها الكائن البشري لكي يمارس البحث بسبل مشروعه؟ والحق أننا لا نجد في تكوين الإنسان العضوي، ولا في تكوينه النفسي أي شيء يُعيَن حدًا لمثل هذه الميول، وفي النتيجة لا حدود لهذه الميول لأنها تعتمد على الفرد وحده، ثم أن حساسيتنا في ذاتها، وبغض النظر من كل سلطة خارجية تنظمها، هي هاوية " واقعة" لا قرار لها، ولا شيء يمكن أن يملأها. يقول :مصطفى صفوان" كتبت هذه السطور ذات الصدى الشبيه بوصف متميز للغريزة عند فرويد في العام 1897 أي في العصر الذي كان فرويد خلاله على الطريق التي قادته إلى اكتشاف أوديب، كما لو أن الأمر متعلق عند الكاتبين بكتابة بحث عن عدم الراحة. ويضيف "صفوان" دعونا نكمل مع دوركهايم نتائج المقطع الذي عرضناه.. ولكي يكون الامر خلاف ذلك ينبغي إذًا قبل كل شيء أن تكون الشهوات "الحفزات" محدودة، وحينئذ فقط يمكنها أن تتلائم مع الصعوبات ومن ثم أن تلبى، ولكن مادام أنه لايوجد داخل الفرد ما يستطيع أن يضع لها حدًا، فينبغي بالضرورة أن ياتي هذا الحد من قوة خارجة عن الفرد، لابد من وجود قوة مُنظِمه تقوم في ما يخص الحاجات المعنوية بالدور نفسه الذي يقوم به الجهاز العضوي، فيما يخص الحاجات المادية، معنى ذلك أن هذه القوة يستحيل أن تكون إلا قوة أخلاقية. يرى دوركهايم أن هذه القوة الأخلاقية المنظمة تكمن في " القانون العادل" ثم أنه لاحظ أن الرجال لا يجمعون على تحديد رغباتهم إذا أعتقدوا انها قائمة على تخطي الحد المرسوم لهم، لذا كتب بصدد قانون العدالة: لأن الناس لا يستطيعون أن يفرضوا على أنفسهم قانون العدالة للأسباب التي ذكرناها، لذا ينبغي أن يتلقوه من سلطة يحترمونها ويخضعون لها تلقائيًا، والمجتمع وحده أما بمجموعه وعلى نحو مباشر، او بوساطة أحد أعضائه، قادر على أن يأخذ هذا الدور التنسيقي لأنه يمثل السلطة الأخلاقية الوحيدة المتفوقة على الفرد الذي يُسلم بهذا التفوق.

في النهاية المجتمع يمر بلحظات أزمة وتطرق دوركهايم عن قرب إلى الأزمات العائدة إلى نكبات اقتصادية وبالأخص النكبات التي كانت أصل الأزمة فيها، على العكس زيادة مفاجئة في القوة والثروة، ذلك لأن الرغبات التي لم يعد يكبحها باتت جاهلة بمكان الحدود التي يجب أن تتوقف عندها "فالرخاء ربما ازداد، والرغبات ربما تأججت"، لأن الرغبات أصبحت أكثر إلحاحًا، لا تطيق أية قاعدة، وحينذاك تمامًا ضعفت سلطة القواعد القديمة" وتعززت من ثم حالة الاضطراب، أو الفوضى، لأن الشهوات قلت انضباطًا وصارت في حاجة إلى أقوى الضوابط". الأكثر مأساوية أن إشباع متطلبات الرغبات مستحيل، لأن "التطلعات الجامحة تتوق دومًا إلى تخطي النتائج المحققة مهما كانت" ولذلك كانت التجارة والصناعة هي الدليل على ذلك حيث يتعطش الناس إلى الأشياء الجديدة وأنواع المتعة غير المسبوقة، والاحساسات التي لا توصف، ولكنها ما أن تعرف حتى تفقد نكهتها". فلنحاول الآن تعميق التقارب بين نظرية دوركهايم الإجتماعية ومفهوم الغريزة عند فرويد، يقوم هذا المفهوم على اكتشاف كلينيكي -سريري جرى ضمن إطار العلاج بالكلام، علاج الموضوع المفقود في حد ذاته""لأن العلة المفقودة هي التي تؤسس العلاقة مع الموضوعات". مما يعني بالتعريف وليس عرضًا، وأنا أفترض أن فرويد إنقاد إلى اجتراح هذا المفهوم وهو يحيط علمًا بالتفضيل الذي توليه النساء الهستيريات للرغبة كما هي، أي بوصفها نقصًا يردنَ الاحتفاظ بالموضوع الذي يشبعه، فضلا عن ذلك حدث لا يقل أهمية عن وضوح معنى العَرض، وهو غالبصا في ضوء مختلف أنواع الأستعارات التي تزخر بها اللغة الدارجة" سرعان ما أكتشف كارل ابراهام أن هذا الموضوع الذي ليس هو، ومن ثم إلا دالًا محضًا موضوع جزئي، شفوي، وشرجي، أو قضيبي: مراحل الجنسية الطفلية التي تسبق تحقيق الموضوع الكامل بما هو كُلٌ في المرحلة الجنسية. حتى لو أستند هذا المفهوم على بعض النصوص، فهو لا يغفل ما يقوله فرويد في مكان آخر، أعني أن جنسية الإنسان لا تملك موضوعًا خاصًا، وثمة صيغة حاسمة أكثر جذرية من الصيغة التي يمكن أن نعدها نتيجة لها، بمعنى أن ليس من ثمة علاقة جنسية". أما الفكرة التي توجب التكرار فهي مُماثلة لقضيب مع موضوع جزئي على غرار الموضوعين السابقين، فالحقيقة هي أن تقسيم جنسية الطفل لا ينفصل عن دخول لعبة "السيد القضيب" كما يعبر فرويد في رسالة إلى فليس، أي لعبة القضيب الرمزي، وإنطلاقًا من هذا الدخول يضفي على هذه الموضوعات المسماة بالأولية" الطفل يطلب الثدي، والأم تطلبب البراز" طابع"صورة"، القضيب الرمزي، نحن نتعامل دومًا مع ثدي قضيبي، وبراز قضيبي، فضلا عن ذلك يتعلق الأمر في هذه المراحل بخسارة حقيقية يشعر الطفل بأنها نقص عضوي، يفطم عن الثدي، كأنه يُفصَل عن عضو من ذاته، منتزع من فمه، وأحيانًا تذهله رؤية أن برازه يرمى في المراحيض دون عناية، والحال أن النقص الحقيقي على مستوى المرحلة القضيبية مخصوص بجنس النساء، وهذا النقص ليس محسوسًا بانه حرمان حقيقي، بل إحباط يتصف موضوعه بأنه خيالي، لا يتضح ما وضعه "لاكان" إلا إنطلاقًا من هذه الارهاصات.

أولًا: أعترض "لاكان" على فكرة التطابق مع الموضوع الجزئي، أو غير الجزئي، وعلينا ملاحظة أن التطابق مع موضوع الحب متاح بقدر ما نستخلص منه هذا الدال الخاص والذي سماه فرويد "الصفة الفريدة" فكل تطابق هو تطابق مع دال، مثل الدال على الطلب الشفوي، الموجه إلى الآخر، أو كدال طلب الآخر، الضربات على الارداف، المقصود هنا موضوعات هي، لكونها مفقودة، اسباب النقص الذي لا يستجيب له أي موضوع خارجي وهنا يرتسم، ثانيًا، التمييز بين المتعة المنتظرة من امتلاك الموضوع - السبب، الذي مهما كان مفقودًا يكون للذات مع ذلك جذر هويتها وغربتها على حد سواء، وكذلك مُحرك البحث غير المحدود عن الملذات التي قرأنا وصفها عند دوركهايم. يبقى أمر إضاءة وضع القضيب الرمزي من حيث لا يمكن الاكتفاء بتشبيهه بالموضوعات الجزئية أو المتردية المسماة  بموضوعات " أ" بالحرف الصغير عند لاكان. صحيح أن هذه الموضوعات تُكون بحثًا عن المتعة لا تنتهي إلى الاشباع وهو إشباع مبتسروقاصر دائمًا، حيث يمكن القول إن غياب مؤشر أو حدٍ رمزي لا يفتح الباب أمام انتهاك قانون الطبيعة لكنه يترك الافراد نساءًا ورجالًا تحت رحمة الدولة التي صنفها دوركهايم بمصطلح الفوضى، حيث يرى أن مصطلح الطرف الثالث الذي يعترف الفرد بسلطته هو الدولة، ورغم الاختلافات التي تقسم المجتمعات البشرية، نعترف اليوم بوجود قانون شامل يحقق الفرق بين الطبيعة والثقافة، وهو قانون تحريم نكاح القربى. كما نلاحظ لو عدنا إلى هذا القانون بشكله الأساس، شكل تحريم نكاح القربى بين الأبن/ والأم، يعمل في الاتجاهين، أعني القول مثلما يحظر على الأبن الزواج من أرملة أبيه، وكذلك يحظر على الأب الزواج من إمرأة أبنه المتوفي، نعم يجب أن يفعل الأخ ذلك أحيانًا"هذا ما يجيزه اليهود لأن الأخ مُكلف بأولاد أخيه"، ويتماشى تحريم نكاح القربى مع شاغل الحفاظ على نسق الأجيال، غير أن اسم الأب ليس دال الثقافة وحسب، بقدر ما يقوم على الاعتراف وليس على أفعال معرفة، بل هو أيضًا دال رغبة الأم، وهكذا من خلال عملية استبدال مجازية من هذا الاسم إلى هذه الرغبة التي كانت خلافًا لذلك، ستبقى رغبة أبي الهول، تنتج دلالة تعير القضيب طابعًا رمزيًا، طابع نقص الكينونة الذي يشترط تصعيدهُ أي إشباع، وهنا نلامس قانونًا يتخطى القوانين الأخلاقية، إنه قانون مناقبي بامتياز. القضيب الرمزي هو الصورة التي تتضافر فيها الرغبة والقانون، ولكن ما إن تؤخذ الذات في هذا الظرف كما يذكرنا كانط حتى تستسلم لغطرسة الرغبة في عدم تطبيق القانون. يرى دوركهايم أن القاعدة الرمزية التي يستطيع المجتمع فَرضها هي قاعدة"قانون العدالة".. العدالة.. أجل! ونضيف العدالة التي تقضي بألا يتحقق إشباع أحد دون إشباع الآخر.

10. الجنسية في المجتمع الليبرالي الجديد والتحليل النفسي بين الحاضر والمستقبل.

توصلنا إلى أثباتين هما غياب الرغبة بحسب "و. ديفيز" واختفاء الخطيئة والشر بحسب "طومسون" فيفتحان السؤال عما تؤول إليه الحياة الجنسية ضمن هذه الشروط. طرح "صفوان" فكرة أن أوديب آلية تداوي غياب العلاقة الجنسية، تتكون هذه الآلية في الاحتيال الذي يضيف إلى العجز الطبيعي عند الطفل عن التمتع بعضوه الأولي، شكل تحريم هذه المتعة بما هو شرط تنبني عليه الرغبة بوصفها اختيار موضوع لذلك يُعادل إخفاء الرغبة إخفاء اختيار الموضوع، ومنذئذ تصبح المتعة ذاتها هي موضوع التبادل الذي تنتظم مصطلحاته في عَقد فما معنى ذلك؟ لنتذكر أم محو الرغبة هو نتيجة محو دال القضيب الرمزي بوصفه إشارة إلى نقص الكينونة الذي يثيره في الذات، وإذا حذفتم نقص الكينونة الذي يكشف علم النفس أنه خصاء رمزي فسوف تجدون شخصًا فريسة رغبة جامحة في السلطة يصل إلى درجة استعباد رغبة الآخر، أو إرادة استعبادها، وبعبارة أخرى ما إن يمحى الخصاء الرمزي حتى يحل الحسابات المادية محل مجازات الكينونة. يضيف "صفوان" تبدو الجنسية ببساطة أنها الشيء الوحيد في العالم الأبعد عن رأس المال كي لا نقول إنها تحطمه أساسًا، إذ لا أحد يمتلك الماديات في هذا المجال غير جسده الخاص، هل سننظم إذًا سوقًا للمتعة السادية القائمة على حق كل شخص في أن يمتلك العضو الذي يروقه الاستمتاع به في جسد الآخر؟ أبدًا لأن "ساد" أخلاقي كشف موضوعه وهو يعتقد انه يناقض القانون الأخلاقي وما سوف يسود هنا، ليست اللذة الجامحة التي تطلق العنان للقانون، أو ضد القانون، بل يسود تبادل اللذات المتوافقة مع مفردات عقد يوقعه الشريكان سلفًا. يعرض"صفوان" لاحداث عرضها "د. ر. ديفور" وهي احداث حصلت في الحرم الجامعي في بريطانيا وكذلك في الولايات المتحدة واثارت نقاشات حادة حول التحرش الجنسي والتي جمعها الطلبة واقلقت الجامعة والدولة( * بحسب صحيفة التلغراف البريطانية عدد 15/ أذار-مارس/ 2015 تعرضت طالبة من أصل ثلاث للتحرش الجنسي خلال سنواتها الجامعية) وكان الرد على هذا السلوك هو: موافقة المرأة على بنود عقد يوقعه الشريكان أصولا، هو شرط تقرب جنسي. وحينما يقترح عقد توافق جنسي على الشباب بوصفه خيارًا جديًا فلن تشكو أن خطأً رهيبًا قد حدث، هكذا عبرت صحيفة التايمز التي تنهي أحد تقاريرها مذكرة بان مكان الخصوصية الجنسية ليس غرفة التجارة، بل غرفة النوم. وقد اشارت الصحيفة البريطانية لبًعد واسلوب مجنون في هذه العقود، ومنها أن كلمات مثل"لا"، أو " توقف" غالبًا ما تستخدم أثناء الجماع، بمعنى تهكمي ومن ثم يشترط بند أحد العقود وجوب استخدام هذه الكلمات بمعناها الحرفي الدقيق، وفي عقد آخر المواضع الجنسية محددة، والنشاطات مقسومة بيين العطاء والأخذ "التلقي" باستثناء الفَرج" المهبل" الذي يتحدد بالتلقي" الاخذ"، فلماذا يسستبعد العطاء؟ لاشك بأن هذا يعود إلى أن موضوع الهبة ليس معدودًا إلا من زاوية القدرة، وإحترامًا لمبدأ مفاده أن كل ما يستطيع الرجل فعله تستطيع المرأة فعله، وأن العقد لا يؤكد على هذه النقطة. لقد اشارت فكرة عقود التوافق هذه إلى أن شيئًا اختلف إختلافًا كبيرًا كما ذكرت صحيفة التايمز، والسؤال الذي يطرح نفسه إذًا هو: ما هذا الشيء الذي اختلف اختلافًا كبيرًا وهو أن الحكومة والدولة اعترفت للمواطنين بخياراتهم ويتطلعون إلى تحقيق ذواتهم تحقيقًا تامًا، فما أعترفت لهم به الدولة: جنسهم، وهويتهم، وعرقهم، ودينهم وأصبح اختياره متعلقًا بهم، فماذا كانت النتيجة؟ إنهيار نظام الجنس الثنائي. ففي العام 2015 كان بإمكان المرشحين لجامعة كاليفورنيا الذين يفضلون اختيارات أخرى غير اختيارات الذكوري والأنثوي وان يختاروا بين أربع فئات اضافية: ماوراء الذذكورة، وماوراء الأنوثة، وجنس غير مطابق، وهوية مختلفة. " المصدر روجر بروبكر تيرنز في كتابه الجنس والعرق في عصر الهويات غير المستقرة، الصادر في العام 2016". كما اجازت المحكمة العليا في الهند الاعتراف بوضعية ثالثة لأولئك الذين يرفضون أن يكونوا ذذكورًا، أو أناثًا، وثمة اشكال مشابهة للاعتراف المشروع في النيبال والباكستان وبنغلادش، بينما تسمح استراليا ونيوزلندا بأن يتعين الجنس على جواز السفر بعلامة مجهول (×) يعني غير محدد. ضمن هذه الشروط ما هي العلاقات الجنسية بين الافراد الذين يظلون أوفياء لنظام الجنسية الثنائية؟ ما يتعلق بالرجال لهم الحرية الممنوحة للفرد المستقل في اختيار جنسه الخاص، حيث تم تحريرهم من البحث عن موضوع بات غير ضروري بقدر ما أنعدمت ضرورة الاقتران لضمان تكاثر النوع، فالجنسية الذكورية مثلها مثل اقتصاد لا يقتصر على إنتاج أشياء تستجيب لحاجات الحياة الاجتماعية لكنه يجعل من هذا الإنتاج وسيلة زيادة ربحه في السوق، إنما تستهدف في المقام الأول اللذة لا الموضوع، اللذة التي لا يُشكل فيها الموضوع شرطًا ضروريًا محتمًا عند البشر، يتزايد الحديث في هذه الايام من بلوغ الرعشة بممارسة اليوغا، وبطبيعة الحال إذا ما وجد الموضوع مكانًا في الجنسية المعاصرة فسبب ذلك يعود إلى الفعل المزدوج للعملية، الايجابي والسلبي لهذه الجنسية، ناكح / منكوح، ويَمُص/ ويُمَص..الخ هذا الفعل هو الذي سمح بتوقيع عقود التوافق التي ذكرناها. ومن الملاحظ وجود تهور وعبثية في هذه العقود فهو اخفاء الآخر بما هو موضوع "اللذة" اختيار ذاتي، يحفظ فقط بالخدمات التي يمكن أن يؤديها في تبادل اللذة. وتعبر "إيملي وايت" عن "مذهب اللذة المسؤول" الذي أطلق بالمصادفة للدلالة عن " الحب الحر"، وهو اشبه بنكتة. أما عن النساء، فنحن لا ننكر تكوينهن الجنسي، وبناءهن البيولوجي وبالاخص عند اكتمالهن العضوي، حيث الرسوخ الذي يعمق متعتهن دون شك فعلًا خاصا يبعدها عن أن تكون مجرد متعة شبيهة بمتعة الرجال ومكملة له، غير أن رغبة المرأة مبنية بوصفها رغبة الآخر، الآخر الذي هو الرجل بالقياس إليها، لنتذكر على هذا الصعيد أوفيليا، ليس للقول إن المرأة تُدفع أمام تراجع الرغبة الرجولية، إلى التقهقر والانكفاء عن الحياة، بل بغية الاشارة إلى حتمية تراجع المرأة أمام تعاظم تراجع الرغبة الذكورية بما هي أختيار موضوع، ومع مقدار الحب الذي تتضمنه كل رغبة، عن حلم الاقتران مدى الحياة وانصياعها لرغبات لا مستقبل لها تُزيف في اغلب الأحيان بأفلام إباحية، وما أكثر الادلاء لتدبر ممارسة الجنس جماعيًا. أما ما يتعلق بالطفرة الجذرية في الحياة الجنسية والإجتماعية ترى "إيميلي ويت" تغيرت علاقاتنا لكن اللغة لم تتغير، وإذ نتكلم وكأن ششيئًا لم يتغير، تجعلنا الكلمات التي نستخدمها نشعر بقطيعة زمنية، حيث جرب بعضهم الألفاظ الجديدة، وكأن أغلبهم يتجنبونها، كنا هنا بمحض المصادفة لا قصدًا، ومهما فعلنا فلا أحد سيرجع إليه رجوعه إلى "أختيار اسلوب الحياة"، وازاء ذلك يوصف "اسلوب حياة" أي مفردات الرغبة وهي ضضرورة الأسم كما تؤكد "كوليت سولير" تفرض نفسها بقدر ما تفلس المظاهر وتخفق في خداع الواقع، وحينئذ نرى انبثاق التجربة التي تقبل فيها أسماء العرض، والمثليين، وثنائيي الجنس، والمتحولين جنسيًا.. الخ، وتعتمد اجتماعيًا كما في الأحوال المدنية لأن الاسم وحده يستطيع أن ينتزع واقعًا من نظام اللغة. أما استعمال المتعة الجنسية القائم على حق السعادة، مثل تقنيات التناسل التي تقوم على حق الحب، فلا يمنع أن يسود ويسمح له من تقنيات آليات التكاثر بتقويضها إلى حد القضاء على أي عودة إلى الموضوع، إنه منظور غير معقول، لكن ضروري أن يكون على جدول الاعمال. وبالفعل تعود معظم مشكلات أطفال الأنابيب إلى عملية استخراج البيوض التي تكلف 80% من نفقاتها دون الحديث عن ما يسببه للمرأة من إزعاج لا يحتمل، أعني المخاطرة بصحتها. تتكون التقنية الحالية من نقل البيضة بعد تلقيحها إلى وسيط خاص حيث تتطور حتى تصل إلى طور ثماني خلايا مما تتيح هذه الزراعة في الانابيب عددًا من الأجنة أكثر من الحاجة وتنتهي باختيار يحاول أن ينتفي بفضل فحص مجهري الأجنة الأكثر حظًا لإجراء حمل ناجح، وبعد هذا الاختيار يأتي الزرع الناجح في الرحم. وبعد أربعة اسابيع أو خمسة تؤكد الحمل موجات فوق صوتية، أو يؤكده الاستماع إلى نبضات القلب. أما "هنري. ت. غربلي" فيستشرف في كتابه نهاية الجنس ومستقبل التكاثر البشري، طريقة سماها سهولة التشخيص الوراثي السابق للزرع. وتعتمد على تجنب استخراج البيضة، حيث يطلب من أبوي المستقبل تقديم جزء من خلاياهما على الارجح من خلايا الجلد وسف يتكفل المختبر الكلينيكي بتحويلهما إلى خلايا جذعية متعددة القدرات، وهي خلايا محولة من خلال حقن بعض الجينات أو البروتينات بطريقة تجعلها تكتسب حالة شبيهة بالحالة الجينية وتبدو قادرة على توفير أغلب أنماط الخلايا المختلفة إن لم يكن كاملها ولذلك سوف تحول هذه الخلايا الجذعية متعددة القدرات إلى بيوض أولًا ومني إذا دعت الحاجة وسوف تسهل البيوض المحصلة بهذه الطريقة الأشياء إلى حد كبير، وهذه التقنية سوف تغير النوع الجنسي البشري. وتظهر حالة غير مستبعدة إطلاقًا لا تقتصر على الخلايا الجذعية متعددة القدرات على إمكان صناعة بيوض النساء، ومني الرجال، بل تصنع مني النساء وبيوض الرجال وبذلك سوف يحظى زوج المثليين والسحاقيات للمرة الأولى بطفل منهما. ويضيف "غربلي" إن لعلم التشخيص الوراثي السابق للزرع السهل الفعال فرصة الوجود بعد عشرين عاما وسوف يتطور كثيرًا في الاربعين عامًا القادمة ولكن ما أثار اضطراب "غربلي" أحد تلامذته وهو يطرح فكرة مباغتة نتيجة هذا السؤال.. إذا أمكن أن تنتج خلايا الرجال المني والبيوض، وخلايا المرأة البيوض والمني معًا، فإن أي شخص أنثى أو ذكر يمكن أن يكون لديه مَني وبيوض كنتاج من خلاياه الخاصة، ويصبح من خلال ذلك الاب الوراثي، والام الوراثية لنسله الخاص. ويرى "صفوان" إن ما يدعو إلى الاضطراب في هذه النتيجة التي لم يفكر فيها حتى المؤلف هو إثباتها أن غياب العلاقة الجنسية المخفية بفضل بنيان المجتمعات البشرية الرمزي في طريقها إلى التجسد في الواقع. والسؤال.. هل يعني هذا أن الجنسسية سوف تختفي في الوقت نفسه؟ بالتأكيد لا، لأن موضوع التحليل النفسي ليسس الجنسية كما هي، بل بنياتها الأوديبي من خلال مؤسسة الزواج القائم على نحريم نِكاح الُقربى. غير أن المحللين أو بعضهم على الأقل سبق أن أشاروا إلى ما شهدته السبعينات من زيادة ملحوظة في الدعوات إلى التحليل الذي يُمثل حالات محدودة أولها الرجل الذئب، أُذكر بأن فكرتي تقصد أشخاصًا تنقصهم تجربة الأب الحقيقي بما هو دليل لذة الأُم، ومن هنا يأتي إخفاق الإستعارة الأبوية ومن ثم إخفاق المنافسة القضيبية التي تتثبت بطريقة ملموسة للغاية في أشكال العُصاب العادية، أحيانًا تقتصر طريقتهم في استخدام أسم الأب على حاجة رؤيته أمام أعينهم، أي ضمان حضوره في الواقع ومن ثم حالة تحليلاتهم التي لا حدود لها. على الضد من ذلك والحديث لـ "مصطفى صفوان" تتعلق النقطة التي يجمع عليها معظم المحللين حاليًا بتخفيض طلبات التحليل، لكنهم بدلًا من أن يروا في هذا الانخفاض علامة على إمكانية نهاية مهنتهم فإنهم يسعون إلى إنقاذ سوق التحليل النفسي، والواقع إن الاختلافات التي تقسمهم إلى تجمعات متعددة "جمعيات، ومدارس، ومؤسسات.. الخ" ذات طبيعة سياسية، لذا لا شيء يثير الدهشة أو الاستغراب في انشغالهم، قبل كل شيءء بضمان فيض الطلب إما باللعب على مصطلح التأهيل "المزيد من المعلومات" الذي ييوفرونه لكل قادم، وإما

باللجوء إلى تقدير الدولة، أو إلى اعترافها، حيث يفرض هذا اللجوء بقدر ما تشكل تطورات علوم الصيدلة وتعدد طرائق المعالجة الأقصر والأكثر توفيرًا تهديدًا قاتلًا للتحليل النفسي. والسؤال لماذا قاتل؟ ليس هنا سببًا مؤثرًا أخطر، ويضيف"صفوان" قوله نحن نعيش حاليًا في مجتمع السوق، أي المجتمع المبني على الطلب والطلب المقابل، فهما اللذان يشكلان الكلام الأكثر بدائية، وليس الُجمل كما يفترض المناطقة، وعليه فما مغزى المعالجة في مجتمع يقوم بالضبط على تعليق هذه الوظيفة؟ وباختصار ليست نهاية الجنسية بحسب توقعات "غربلي" هي التي سوف تؤدي إلى نهاية التحليل النفسي، بل بناؤها بوصفها اختيار موضوع هذه النهاية تكون بالسؤال المُلح في هذا الوقت الراهن فما دام المحللون يخفون سؤال معنى التحليل النفسي من خلال الزمن الذي يمضي فهم يُعرَضونه لإنحطاطٍ يعادل الحد الزمني لرسالته.

الخاتمة:

عرض العلامة مصطفى صفوان في هذا الكتاب الموسوعي رؤى متعددة وإتجاهات إجتماعية ونفسية "تحليلية" حصريًا وأقتصادية وسياسية في موضوع يعد الآن موضوع الساعة في كل العالم، هو موضوع حقوق المثليين بكل انواعها وتفاصيلها، طرحها ليس من وجهة نظر التحليل النفسي فحسب، وإنما من وجهات متعددة علمية ووراثية وإنسانية وطبية، فهو استطاع أن يؤرخ منذ زمن بعيد في حضارتنا الإنسانية هذا السلوك في المجتمعات من أساسه الأول وهو الجنس وتحقيق الرغبات الدافعة له، المعلنة والخفية، المشروعة في المجتمعات البدائية، وفي المجتمعات المتحضرة، حاول جاهدًا العلامة "صفوان" أن يعرض بشكل اجتماعي تطوري لمجتمعات غارت في التقاليد والقيم مستندًا على المسلمة الأساسية في البنيوية وهي ضرورة العلاقات بين مختلف عناصر البنية الإجتماعية: على العائلة، والقرابة، والدين، والاقتصاد، والتربية، والسياسة أن تتوافق لتشكيل كُلً منسجم، وفي الثقافات الحديثة لا بإعتبارها موروث، بل لأنها سمة من سمات التغيير المنظم المواكب لكل صيحات التحضر وما تبعها من عادات وتقاليد وأعراف بمختلف التنوع، حتى أصبح في الحسبان أن نقل الأجنة لا يحتاج إلى جوازات سفر، وإن بعض النساء استفدن من المتبرعين المجهولين، ويعتقدن بأن يكون الأب مسألة خلافية، ليس من المهم أن يكون محدد، أو معروف، فازدادت الهوة بين الاباء البيولوجيين والاباء الاجتماعيين في الولايات المتحدة

Dads

وتعني تلك الكلمة (أي الاباء الاجتماعيين)، والدعوة إلى عالم بلا رجال. ومعظم الأسر والعائلات الجديدة تكشف عن تمزق النسيج الاجتماعي في المجتمعات، ففي السويد وفي العام 2022 أعلنت أمراة أنها تقترن بزوج وتعشق آخر والرجلان يعيشان معها تحت سقف واحد، ويقيمان بنفس المنزل استنادًا للحرية الجنسية التي أتاحتها القوانين الجديدة لها، وأزاء ذلك يورد العلامة "صفوان" قوله: الأكثر مأساوية أن إشباع متطلبات الرغبات مُستحيل، لأن التطلعات الجامحة تتوق دومًا إلى تخطي النتائج المُحققة مهما كانت".. يعد هذا الكتاب رؤية استشرافية لمستقبل التكوين الأسري والاجتماعي والقيم الجديدة التي اصبحت أيديولوجية أقرتها الأمم المتحدة وهو حرية المثلية بكل أنواعها، والحرية الجنسية بمختلف تطبيقاتها.

***

ا. د. أسعد شريف الامارة  

 

في المثقف اليوم