قراءة في كتاب

أرونداتي روي.. البحث عن السعادة

هل تعلمين ماذا يحدث عندما تجرحين الناس؟.. عندما تجرحين الناس، يبدأ حبهم لك بالتناقص.هذا ما تفعله الكلمات الطائشة غير المكترثة. إنها تجعل الناس يحبونك أقل بعض الشيء.

أروندهاتي روي من رائعتها "رب الاشياء الصغيرة"

هبطت عليها الثروة والشهرة من دون أن تسعى اليها. كانت في السادسة والثلاثين من عمرها عندما قررت نشر روايتها "إله الاشياء الصغيرة " لتنال عليها عام 1997 اكثر من نصف مليون دولار، وجائزة البوكر، اهم جوائز الرواية العالمية. اصابها الذهول والدهشة ولم تخرج من البيت لثلاثة ايام كانت تعتقد أن في الامر مزحة، رفضت الحديث لمراسلي الصحف الذين جاءوا لمحاورة المرأة الهندية التي خطفت واحدة من اهم الجوائز الادبية.. ولدت سوزانا أرونداتي روي في الرابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1961 في مدينة شيلونغ الواقعة شرق الهند، لأب بنغالي من طائفة الهندوس يعمل في مزارع الشاي، وام مسيحية، وجدت نفسها ضائعة بين ثقافتين، قالت فيما بعد انها لم تجد نفسها في واحدة منهن. الاب مدمن على الخمر مما ادى الى افلاس الاسرة، وطلاق الام التي عادت بعائلتها المكونة من الصغيرة سوزانا التي كانت في الثانية من عمرها مع شقيقتها الاكبر منها بعام، الى منزل العائلة جنوب الهند، لكن العائلة لم تسمح لابنتها المطلقة أن تعيش معها، فقررت الام ان تاخذ ابنتيها للسكن مع جدها في كوخ بولاية تاميل. تتذكر المآسي التي حصلت لعائلتها، اصيبت امها بمرض الربو، لكن الأم ماري قررت ان تتحدى قوانين الميراث التي لا تمنح للمراة حقوق، فقدمت شكوى في المحكمة العليا، لتحصل على نصيبها في ميراث ابيها، تكتب روي:" ان معظم ارائي نشأت من اصرار امي على العيش بكرامة متحدية المجتمع ".4216 رب الأشياء الصغيرة

بعد ان انهت دراستها الابتدائية ارسلتها امها الى مدرسة داخلية اسمها " لورنس " كان قد اسسها الضابط البريطاني الشهير توماس إدوارد لورنس، صاحب كتاب " اعمدة الحكمة السبعة "، تقول انها تتذكر كيف أخذت تبحث عن اسم صاحب المدرسة، وقررت ان تصبح مغامرة مثله، في المدرسة الداخلية تتفرغ لقراءة الروايات، تسحرها كتابات جورج اليوت، الاسم المستعار الذي كتبت فيه ماري آن إيفانس معظم رواياتها، حيث وجدت فيها طبيعة الاغتراب الروحي والقلق الذي تعيشه النساء، وهو ما كانت روي تعاني منه.

في السادسة عشر من عمرها تترك اسرتها لتسافر إلى دلهي، تختار دراسة الهندسة المعمارية لأنها ستمكنها من الحصول على المال، لكنها سرعان ما أدركت أن الجامعة لا تُعلم الهندسة، وانما المقاولات، ظلت تطرح على الاساتذة اسئلة من نوعية: لمن ندرس الهندسة، هل نصمم بيوت للفقراء، ما علاقة الانسان بالمنزل؟ هذه الاسئلة قادتها لأن تضع اطروحة بعنوان "التنمية الحضرية في دلهي اثناء الاستعمار ". اثناء الدراسة عاشت في كوخ احد زملائها حيث كانت في اوقات الفراغ تجمع القناني الفارغة لتبيعها، قضت سنوات الجامعة تعيش في حي فقير، اقامت علاقة صداقة مع الشحاذين والمهمشين. تقول أن والدتها اورثتها نظرة غاضبة ازاء هذا العالم غير العادل: "قررت في سن مبكرة ألا أكون ضحية وأن أسيطر على حياتي فور استطاعتي ذلك". ظلت لخمس سنوات تبحث عن عمل بعد تخرجها من الجامعة، كتبت مقالات نُشر القليل منها والكثير كان مصيره سلة المهملات، جربت العمل بائعة متجولة تدور بين القرى على درجة هوائية، وسيشاهدها المخرج براديب كريشين ليعرض عليها أن تمثل في فيلمه دور فتاة قروية، فيما بعد سترتبط بهذا المخرج بعلاقة حياة وعمل، تكتب له سيناريو أفلامه، بعد سنوات تشعر انها لا تستطيع الاستمرار في هذا العمل. عام 1990 قالت لشقيقتها انها قررت ان تكتب سيرة عائلتها، صدمت الام واعتبرت الامر فضيحة، لكن الابنة طمأنتها ان الخيال يمكن ان يساعدها في مهمتها، بدأت بكتابة روايتها " إله الاشياء الصغيرة " عام 1992، وانتهت منها عام 1996، واجهت صعوبة في نشرها، فمن يتورط بنشر رواية لكاتبة مجهولة.. ولم تكن تدري أن هذه الرواية ستظل لاشهر تحتل قائمة الكتب الاكثر مبيعا في الهند قبل ان تنال جائزة البوكر، كان الامر بالنسبة لها اشبة بهزة ارضية ضربتها، استغربت ترجمة الرواية الى اكثر من 40 لغة:" لماذا يريد الناس في مختلف بلدان العالم معرفة ما يدور في قرية صغيرة جنوب الهند ". قالت انها اختارت عنوان روايتها " إله الاشياء الصغيرة " تعبيرا عن المنبوذين، فإله الاشياء الصغيرة هو الذي:

لم يترك أية تموجات في الماء

ولا اثار اقدام على الشاطئ

رب الضياع

 إله الأشياء الصغيرة الذي لا يترك اثراً على الرمال، ولا صورة في المرايا. انه موجود وغير موجود، لا اثر له، ولا انعكاس لصورته، انه لا شيء، كائن بلا كيان، انه المنبوذ الذي يجسد الضياع.

بعد الشهرة والمال قررت ان تبتعد عن عالم الخيال، قالت ان النجاح حررها من أشباح الماضي:" لم أكن أهتم يوماً بأن أكون مجرد كاتبة محترفة تكتب كتاباً ناجحاً ثم تنتقل لتأليف كتاب آخر وهكذا دواليك. ينتابني خوف من أن يرغب الجميع في أن أتابع القيام بالأمر نفسه وأن أكون الشخص نفسه وأن أتجمّد في الزمن لمجرد أنني مشهورة أو قمت بعمل ناجح "، وزعت اموال الجوائز التي حصلت عليها على الفقراء، وكان آخرها جائزة بقيمة 350 الف دولار حولتها الى حساب منظمات اجتماعية صغيرة في الهند، عام 2006 تؤسس صندوقا تضع فيه جميع ايرادات كتبها وخصصته لدعم قضايا الحرية والدفاع عن المنبوذين في الهند. هجرت الرواية لتنشط في مجال السياسة وحقوق الانسان.قالت انها واجهت مشاكل بسبب روايتها، استغربت معاملة مواطنيها لها كأنها نجمة سينما: "أعتقد انهم فرحوا لأن شخصاً ما روى قصتهم ".كرست 20 عاما من حياتها للتصدّي لصعود اليمين المتطرّف إلى السّلطة في الهند. كتبت مقالات وشاركت في مؤتمرات وتظاهرات لنصرة المهمشين، اصدرت عام 1999 كتابها " كلفة الحياة" عن حياة المهمشين ثم اصدرت كتاب عام 2004 كتابها " دليل الإنسان العاديّ إلى الأمبراطوريّة " وفي العام 2010 نشرت كتاب " مسيرة مع الرّفاق" تتحدث فيه عن حركة مسلّحة يخوضها من سمتهم أفقر فقراء الهند، من فلاحين بلا أرض وقبائل مهملة يعيشون على أراض غنيّة من الغابات والمعادن. وكان آخر كتبها السياسية كتاب " الرأسمالية، حكاية أشباح" الذي صدر عام 2014. اتهمتها المحكمة العليا في دلهي بالعصيان وممارسة انشطة لا وطنية، وشن الحرب على الدولة الهندية لدفاعها عن حق أهالي كشمير في الاستقلال وفضحها الممارسات العنصرية ضد المسلمين في الهند. لم يقتصر نضالها السياسي والثقافي على الهند فقد عارضت الغزو الأميركيّ لأفغانستان والعراق، وكانت عضواً في المحكمة الدولية الخاصة بجرائم الحرب الأميركية في العراق. اعلنت تضامنها مع الشعب الفلسطيني، وقعت مع نعوم تشوميسكي وهوارد زين وهارولد پنتر عريضة تتهم إسرائيل بارتكاب " جرائم حرب". تصف العولمة بانها:" قوي، لا يرحم، مدجج بالسلاح. إنه طراز من الملوك لم يعرفه العالم من قبل. مملكته رأس المال الخام، فتوحاته الأسواق الصاعدة، صلواته الأرباح، حدوده بلا حدود، وأسلحته نوويّة ".

عام 2017 تعود روي الى عالم الرواية حيث اصدرت روايتها الثانية " وزارة السعادة القصوى " تقول عن عودتها الى الادب ثانية:" طالما كنت أغضب من الأشخاص الذين يقولون لي: لم تكتبي شيئاً مجدداً، وكأنّ الأعمال غير السردية التي أصدرتها لا تدخل في خانة الكتابة ".

في " وزارة السعادة القصوى " تقوم بنقد لبنية المجتمع الهندي، وتحاول النبش في تاريخه الحافل بالأزمات والصراعات، وهي تؤكد ان هذه الصراعات والازمات، تعمل كلّها على وضع هذا المجتمع تحت وطأة ما ينتج عنها في النهاية.

تعترف روي بأن أكثر ما يثير حفيظتها، ويصيبها احيانا بالجنون:" سماع أحدهم يصنفها بأنها صوت الذين لا صوت لهم " فهي تؤمن بأنه لا يوجد شيء اسمه " صوت الذين لا صوت لهم" بل هي ترى نفسها صوتا لمكممي الأفواه، الذين لا يريد احد سماع شكواهم.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم