قراءة في كتاب

نحو علم الكلام الجديد.. الرفاعي مستقصيا؟!

سؤال قديم ومتجدد لا يكاد يمر يوم على المسلمين الا ويزداد حضورا لدى المهتمين بواقع ومستقبل المسلمين إنه سؤال: لماذا يتأخر المسلمون ويتقدم غيرهم؟

هذا السؤال جدا ملح وضاغط على الواقع الإسلامي، وتكرر عدة مرات على طول الزمن الإسلامي ما بعد الموحدين وإلى يومنا الراهن، والإجابات عليه لم تكن بالصيغة المناسبة المكتملة والدقيقة، وإنما ظلت تندرج ضمن آليات الاستصحاب لكل معاملات النظام المعرفي المتحكم في العقليات الإسلامية وتحديدا مبحث فهم الدين من خلال تسييج رؤيته للعالم عبر نافذة واحدة تغذي كل قنوات المعارف الدينية الا وهي علم الكلام، هذا العلم الذي تشكل خلال القرون الأولى للإسلام وعرف تمثلات عديدة أساسية وأخرى إنعكاسية لمنطق فهم الوحي ومباحثه، فهناك علم الكلام القديم وعلم أصول الدين  وعلم العقائد وغيرها من تسميات لا تكاد تختلف ضمنيا عن بعضها البعض الا في خطوط بسيطة بينما البنية العامة والأهداف والنتائج في معظمها واحدة، هذا العلم القديم الحديث لا يزال يسيطر على العقل الإسلامي ودوائر تفكيره وبقي خارج مجال النقد واكتسب قداسات بالتقادم وأخرى بالتلازم، وفي تطور إشكاليات التجديد ومشكلات الواقع تشكل تيار علمي جديد، ركز في فهم الدين على الروح العلمية في معرفة رؤية الدين للعالم والهدف منه، مما انتج حقلا إستراتيجيا في الأبحاث الخاصة بالأسئلة الميتافيزيقية الكبرى، إنه مشروع علم الكلام الجديد، الذي احدثت تسميته هلعا كبيرا لدى حراس المنطق القديم في وعي الدين وصياغة الإجابات النهائية حول أسئلة لانهائية!!

علم الكلام الجديد مبحث علمي تطور منذ عقود من الزمن الإسلامي المعاصر على يد متخصصين في الفلسفة والعلوم الاسلامية والفكر الاسلامي، ولايزال في طور التشكل والتطور، لأن الحالة الإسلامية الثقافية السائدة منذ قرون فرضت ذلك، كونه يرتبط بالنسق النقدي المطلوب في مشروع التجديد الحضاري إسلاميا، أي أن مخاض ميلاد علم الكلام الجديد طبيعي جدا وسط محاولات تحديث علم الكلام القديم وتحسين الانساق الأشعرية في تجميد فهم الإسلام أو تضخيم موازانات علم أصول الدين على حساب وعي ضرورة تجديد مناهج الإجابة على الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى في زمن النانو والذكاء الاصطناعي وترقيم الفتن المهاجرة!!3329 علم الكلام الجديد

هذا العلم الجديد في الكلام الديني بسطه أستاذ الفلسفة والمعارف الإسلامية الدكتور عبد الجبار الرفاعي في كتابه الصادر مؤخرا (٢٠٢١م) عن دار التنوير ومركز دراسات فلسفة الدين-بغداد، تحت مقدمة في علم الكلام الجديد والذي يقع في ١٧٦ صفحة ، وهذا العمل الفريد والتمهيدي لرؤية ثقافية إستراتيجية تجديدية لافتة من المفكر الإسلامي الدكتور الرفاعي تندرج ضمن مشروع ضخم إلى جانب ثلة من المفكرين والمثقفين عبر الجغرافية العربية والإسلامية، كما أنه تشكل في سياق الدراسات الإسلامية المعاصرة الخلاقة للأجوبة الواقعية والمعاصرة حول الأسئلة الجوهرية لمشروع النهضة الحقيقية والمستدامة، والتي انفردت بنشرها مجلة قضايا إسلامية معاصرة في أعدادها طيلة العقدين الماضيبن، وفي هذا الكتاب سلط  الدكتور الرفاعي أضواء على عدة دوائر الخوف من التجديد في عمق الجهاز المعرفي للمسلمين عبر التاريخ وإلى يومنا هذا، كما استطاع سحب البساط من تحت الديماغوجية الثقافية للإسلاميين عبر إقحام نظم الروح العلمية ومناهج البحث والحفر المعرفي وتفكيك برادايم التراث، ناهيك عن فضح التمويه الأكاديمي للأنظمة البالية والمستحكمة في نظام التفكير الكلي للمسلمين وهو ما عبر عنه: أشاعرة أكثر من الأشعري!!

هذا الكتاب يمكن أن تقرأه في أمسية لكنك ستعيش في رحاب أفكاره عقودا من الزمن بل لا أبالغ إن قلت عمرا من أعمار الدول، لأنه اختزل هما وشوقا وأسئلة ضخمة وانتكاسات خطيرة وفتح آفاقا رحبة على التحرر الفكري والإبداع التجديدي والوعي الديني المنفتح على الله عنوان العلم والكمال والقوة والقدرة والرحمة والكرامة والعدل والجمال والسلام...إنه فعلا مدخل منهجي في مشوار بناء تدين جديد متناغم مع عقلانية معاصرة منطلقة من نزعة التفكير الحر والثورة على النرجسيات التحريمية التي سجنت كل الجمال الإسلامي في سرداب طغيانها وفهمها المستبد..!؟!

علم الكلام الجديد خرج من رحم  جدليات متعددة ذات علاقة برؤية الدين للحياة وهدفه فيها ولها، هذه المقدمة خاصيتها كما وثق لها الدكتور الرفاعي جاءت لترتفع بالوعي الفلسفي الديني في إعادة بنائه المنطقي من المعلم الأول إلى أساس منطقي كوني شامل وعميق، يجيب عن الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى بلا شروط مسبقة؟!!

و يعتبر هذا الكتاب أهم مرجع عربي في حقل علم الكلام الجديد، حيث يظهر من الفصلين الثاني والثالث (وهو عبارة عن حوار مع الدكتور الرفاعي) أن فكرة علم الكلام الجديد لم تدخل أروقة النقاش العربي الا في الربع الثالث من القرن الماضي من خلال بعض كتابات احمد الخولي والدكتور محمد الدراز ولاحقا عبر بوابة التفاعل مع الثقافتين الهندية والإيرانية، فمثلا كتاب شبلي النعماني لم يترجم للعربية حتى سنة ٢٠١٢م، بينما إرهاصات الحقل العلمي الكلامي الجديد بدأت في بيئة التفكير الإسلامي  الهندي (الدهلوي، سيد أحمد خان، محمد إقبال، فضل الرحمن، وحيد الدين خان) وانتقلت الى البيئة الثقافية التجديدية الإيرانية (مطهري، شريعتي، سروش، شبستري)، هذا الفهم الجديد للوحي عكس نقاشات وجدالات وصراعات فلسفية وصدمات ثقافية صاخبة حول رفض تيار الحديث أو التفكير الديني الأحادي للفهم الديناميكي للوحي، وهنا لابد من الإشارة إلى فكرة جدا مهمة في استيعاب علم الكلام الجديد وذات علاقة بالحاجة الوجودية للدين وفهمها فلسفيا -كما عبر الدكتور الرفاعي في حواره، ص٨١ -و ليس فهما سيكولوجيا أو سوسيولوجيا أو انثروبولوجيا أو اقتصاديا.. كما أن الأركان الخمسة المميزة لعلم الكلام الجديد عن غيره سواءا القديم أو مشتقاته الكلامية والفقهية المستحدثة، هذه الأركان تكتشف عبر التفكيك المعرفي لانتقالات علم الكلام عبر التاريخ الاسلامي منذ النشأة والاستنزاف ثم الركود فالقصور، والتي تثير دفائن العقل الإسلامي في وعي ضرورة الانفتاح على حقل معرفي يرفض التكفير ويفضح اللاهوت الصراطي ويعمم الكرامة ويفعل النزعة الإنسانية ويحيي المضمون العملي للدين في الواقع عبر البعدين الروحي والأخلاقي متجها نحو بوابة التوحيد المتحرر والتدين على أساس نشر الحب والرحمة والعدل والكرامة والسلام..

هذا الكتاب الثري بإشكالياته ونقاشاته ومقارباته وتحدياته وآفاقه شكل انقلابا رائعا على الجمود والتقليد والتطويع والتخويف والتشكيك والترويض للعقول عبر تقديس غير المقدس وتقييد التوحيد وتفريغ التدين من مضامينه الروحية والأخلاقية وتكبيله بأغلال التدين الاعمى أو التصوف المقنع أو الاستصحاب الاغترابي عن الواقع..!!

لقد استطاع المؤلف أن يفتح مساحة نقاش ومعرفة وتداول لقضية إسلامية رفيعة الشأن وبعقلانية معاصرة، ويبعث روح علمية جديدة في العالم العربي حول تحليل حقيقة الإيمان وقراءة التجارب الدينية وتحرير العقل الإسلامي من الفهم الديني الأحادي ودفعه نحو وعي حقائق التنوع والتعدد والاختلاف والحوار والعيش المشترك من خلال السعي نحو تقديم إجابات مسؤولة وواقعية حول الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى..

عندما نركز في مباحث وفصول وسياقات الطرح في الكتاب، تنفتح أمامنا عدة نوافذ على نتاج الدكتور عبد الجبار الرفاعي، حيث نلمس تناسق وتكامل كبير بين المواضيع، مما يزيد في وضوح ماهية قضية علم الكلام الجديد..

أختم بإقتراح وتصور:

. لعل الكتاب في هدفه التجديدي يحتاج إلى فصل يناقش جدلية التدين بين التحرر والتبعية، التجديد والتحديث، الخوف والحب، المصلحة والحق، التنظير والعمل، لأن تقريب موضوع علم الكلام الجديد للأذهان على أنه تطور علمي وتربية روحية وتهذيب أخلاقي وتنمية إجتماعية وتقدم حضاري وليس جدال بيزنطي وحوار الطرشان واحتكار للحقيقة وتهديد المختلف أو اذلاله وتهميشه وتسقيطه، من شأنه تفعيل الاهتمام النقدي والبناء الثقافي حول مقتضيات التدين المتحرر وتحرير الظاهرة الدينية وإعادتها لنقائها وصفائها..

.   أتصور أن العالم العربي عرف عدة محاولات صامتة ترتبط بتجديد علم الكلام، وذلك ما نلمسه في محاولات مالك بن نبي  رحمه الله في كتابه الظاهرة القرآنية وعلاقته بالدكتور محمد الدراز وقبله أحمد الخولي وشكيب أرسلان ولعل المفكر الدكتور فهمي جدعان كان سباقا في تكثيف الحديث عن تحرير الإسلام وأهمية ذلك في بعث الحداثة في المجال العربي والإسلامي، كما حاول الدكتور طه عبد الرحمن ذلك لكن داخل البوتقة الأشعرية المستحدثة مما ابقى المشروع تجريديا ولم يرق لمستوى الفعالية التجديدية في تحليل الظاهرة الدينية الإسلامية فلسفيا وبنهج مستقل عن التجاذبات التاريخية الضاغطة على التفلسف الصراطي، كما شكلت العالمية الإسلامية الثانية عند الدكتور أبو القاسم الحاج حمد شيئا من قبيل هدف التجديد لكنها بقيت ضمن سياقات الرشدية في التحليل أو لعلها لم تكتمل وإلا استغرقت فيما يعرف بأسلمة المعرفة..؟؟!!

الكتاب يختزن جواهر ثمينة في حقل صناعة القلب السليم إسلاميا، لذلك قراءة واحدة له لا تكفي بل لابد من تحليل فصوله ومناقشتها للظفر بالوعي اللازم في مشوار إحياء النزعة الانسانية واستحضار الكرامة في فهم الاسلام فهما يعكس رؤيته للحياة والكون والوجود ككل..

***

.....................

بقلم: أ.مراد غريبي

كاتب وباحث في الفكر

في المثقف اليوم