قراءة في كتاب

مناقشة "الرؤى الرسولية" لعبد الكريم سروش (2)

‏تنتمي النبوةُ لذلك الميتافيزيقي الغيبي الذي لا صورةَ له، ولا يمكنُ فهمُه وإدراكُ حقيقتِه بمناهج وأدواتِ العلم. النبوة ذاتُ طابعٍ وحياني، الوحيُ حالةٌ وجودية بالمعنى الأنطولوجي للوجود وليس بالمعنى المادي للموجود، تتحقّق هذه الحالةُ الأنطولوجية عندما تتكامل الكينونةُ الوجوديةُ للإنسان، الإنسان المؤهل وجوديًّا للنبوة هو الوحيد الذي يتلقَّى الوحي. مَنْ يرى النبيَّ كالشاعر والمبدع والمخترع، ويفسِّر مقامَ النبوة كالشعر والإبداع والاختراع لا يرى النبوةَ مقامًا وجوديًّا استثنائيًا للإنسان. الشاعرُ إنسانٌ موهوب يتميزُ بقدرته على الإبداع، مرتبةُ الشاعر الوجودية وهكذا مرتبة الرسّام والمخترع هي مرتبةُ غيرهم من الناس. النبيُّ مثلُ غيره من الناس في حياته ومعاشه وطبيعته البشرية، إلا أن مرتبتَه الوجودية ارتقت فاصطفاه اللهُ للنبوة.

الوحيُ صلةٌ وجودية بين عالَم الغيب وعالَم الشهادة تصيّر ‏النبيَّ شاهدًا للغيب. إنها نحو ظهور للإلهي يتجلّى على مرآة البشري، وإن كان النبيُّ بوصفه بشرًا يلبث على انتمائِه لعالمنا، ولا يفتقد بصلتِه بالغيب كونَه إنسانًا يعيش في الأرض. النبيُّ من جهة الوحي يشهدُ عالمَ الغيب، وبوصفه بشرًا يحتفظُ بحضورِه في عالم الشهادة، أي يحتفظ بطبيعته التي يشتركُ فيها مع الكلِّ وتنعكس فيها بشريتُه. ما هو مرآة عالَم الغيب الوحيُ الإلهي، ‏وما يعكسُ عالم الشهادة الطبيعةُ البشرية، ‏وهذا ما ينكشفُ بوضوحٍ في القرآن: "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَىَّ".

‏ لا يمتلك كلُّ إنسان إمكاناتِ وجودٍ تمكّنه من شهود الغيب، ‏الإنسانُ الذي ينكشفُ له الغيبُ يحدثُ تكاملٌ في ‏كينونته الوجودية، بنحوٍ يسافر صعودًا ليبلغ مرتبةً يتجلى له الإلهي. يحدثُ لدى النبي تحولٌ أنطولوجي في كيفيةِ وجوده، بالشكل الذي يتّسعُ وجودُه فيتجلى له الحقّ. ‏الإنسانُ الذي يتحقّقُ ‏له هذا الطورُ ‏يصل مقامًا وجوديًّا لا يناله غيرُه من الناس، يكتسبُ وجودُه في هذا المقام غناه بإمكانات إضافية تجعله قادرًا على شهود الغيب. عندما يتحقّقُ الإنسانُ بهذا الطور الوجودي يكون مؤهَّلًا لمقام النبوة، وكلّما اتسع وجودُ الإنسان وكانت مرتبتُه أكملَ اتسعت تبعًا لذلك نبوتُه وصارت رسالتُه بسعة إمكانات وجودِه. يواصل النبي سفرهَ الوجودي ما دام حيًّا، فوقَ كلِّ مرتبةِ كمالٍ ‏للإنسانِ مراتبُ أكملُ منها، ‏وهو ما تشير إليه الآية: "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا". ومهما بلغت مرتبتُه يظلُ ‏النبيُّ إنسانًا لا يفارقُ طبيعتَه البشرية.

لا طريقَ للتعرّف على الوحي بوصفه ينتمي إلى عالَم الغيب إلا أن نستنطقَ القرآن، في القرآن الوحيُ يتحدثُ عن الوحي، القرآنُ يحدّدُ نوعَ المعنى الذي تنطقُه لغةُ الغيب. عندما نقرأه نرى عدةَ آياتٍ تضيء مضمونَ الوحي، مثل الآية: "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا". القولُ الثقيلُ توصيفٌ يرمز لحقيقةٍ تنتمي إلى عالم الغيب، كلُّ شيءٍ ميزانُه بحسبه وكيفيتُه على شاكلته، "القولُ" هنا ليس ألفاظًا منطوقةً تشبه الألفاظَ المستعملة في اللغات، "الثقيلُ" ليس كميةً يمكنُ أن توزنَ بالمقاييس المادية، ونكتشفَ كيفيتَها بأدوات مادية. ‏تشيرُ الآيةُ إلى أن الوحيَ لا يتحقّق إلا إذا تحقّق طورٌ وجودي للإنسان يؤهله لتحمّل "القول الثقيل" الذي لا يطيقه وجودُ غيره. وصفُ الوحي بـ "القول الثقيل" يتطلبُ سعةً وجودية استثنائية لا يمتلكُها الإنسانُ العادي، أي أن المهمةَ التي يقوم بها النبيُّ مهمةٌ فريدة، لا يطيقها أيُّ إنسان ما لم يتكامل فيصل تلك السعة الوجودية.

آيةٌ قرآنية أخرى تشيرُ إلى أن النبيَّ اختصّه اللهُ بقربٍ لم يختصّ به أحدًا سواه: "ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى"، القربُ أو البُعد في عالَم الغيب ليس إلغاءَ المسافة المكانية. القربُ أو البُعد في الغيب يشاكلُ الغيب. القربُ هنا مقامٌ وجودي يبلغُه الإنسان، إنه تعبيرٌ عن قدراتِ وجودٍ إضافية تمكّن النبيَّ من الاتصال بوجود الله المستغني عن كلِّ وجودٍ سواه.

أما قولُه تعالى: "وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ"، فيصوّر القرآنُ مشهدًا تهتزّ أمامه المشاعرُ. في الآية كنايةٌ عن التجلّي الوجودي للحقّ، وكيف تهشّم الجبلُ وانهار فجأة، تجلّي الله للجبل مشهدٌ أصاب موسى بالذهول وسقط مغشيًّا عليه.

نحتاجُ إلى إعادةِ تعريف الوحي وبيانِ صلته بالغيب بوضوح، وهكذا إعادة تعريف النبوة وبيان الطبيعة البشرية للنبي، ليتضحَ ما ينتمي لعالَم الغيب في النبوة، وما ينتمي للطبيعة البشرية. التعريفُ يدلنا على حدودِ المعرَّف ومجاله، وحقلِ اشتغال أدوات العلوم والمعارف البشرية في المجال الذي ينتمي للطبيعة البشرية، ويدلنا على ما هو خارج حقل اشتغال تلك الأدوات في المجال الذي ينتمي لعالَم الغيب.

الطبيعةُ تخضعُ لقوانين تتحكمُ بأسباب ونتائج الظواهر فيها، سيادةُ الإنسان على الطبيعة تتسعُ باتساع اكتشافاتِه لقوانينها وظفره بوسائل استثمارها. ما وراء الطبيعة لا يخضعُ لقوانين الطبيعة، ولا سبيلَ إلى فهمِه بأدواتها واكتشافِ آفاقه في ضوئها. القرآنُ يتحدّثُ عن الغيب وما وراء الطبيعة أكثر مما يتحدّث عن الطبيعة، ليس من العلمِ تجاهلُ ما وراء الطبيعة في القرآن، أو تأويلُ لغة الغيب وآياته تأويلًا يخضعها لمناهج وأدوات العلوم التي تدرس الطبيعةَ وظواهرَها وقوانينَها وما فيها من كائنات وأشياء. الإصغاء لنداء الوحي هو النافذة الوحيدة للإطلالة على الغيب واكتشاف آفاقه.

كلُّ لغة تتحدثُ عن الغيبِ لا تتحدثُ بلغة العلم، لغةُ الغيب ترسمُ صورةً مألوفة لتقريب ما لا صورةَ له إلى ذهن الإنسان. عالمُ الغيب عالمُ الأسرار، الأنطولوجيا الميتافيزيقية في القرآن فضاءٌ لعالَم الأسرار. في لغة القرآن يمكن تمييزُ نوعين من الدلالات، دلالاتُ آياتٍ تتحدّثُ عن الغيب، لغتُها تمثيلٌ ومجازات وكنايات واستعارات وتشبيهات ورموز تشيرُ لحقيقةٍ لا مرئية ولا محسوسة ولا صورة لها، ودلالاتُ آياتٍ لغتُها تتحدّثُ عن الإنسانِ والكائنات والأشياء والقوانين في الطبيعة، هذه اللغةُ تتبادر لنا دلالاتُها الظاهرة، ونتعرفُ على معاني كلماتها عبر الاستعمال، وفي معاجمِ اللغة، وما تكشفُه العلومُ المتنوعة من عناصرها وتركيباتها وخصائها وآثارها. تنطقُ لغاتُ الأرض بدلالات يرسمُ خارطتَها ويحددُ مجالَها المحيط الذي يعيشُ فيه الإنسانُ، وليس بوسع اللغة أن تطلَّ على ما هو خارج مديات محيطه إلا بتمثيل ومجاز وتشبيه وكناية واستعارة تشير إلى ما وراء المادة. الكلمةُ تبوحُ بالمعنى الذي تتسعُ له، الكلمةُ لا تتسعُ إلا للمعاني المتداولة في موطن ولادتها وفضاء تشكّل دلالتها، يقول فتغنشتاين: "إن حدودَ لغتي تعني حدودَ عالمي".

للغيب مفاتيحُه الخاصةُ وللطبيعة مفاتيحُها الأخرى، مَنْ يؤمنُ بالغيب يعرفُ أن مفاتيحَ الغيب وما وراء الطبيعة مستودعةٌ في القرآن. من مفارقاتِ كتاب "الرؤى الرسولية" لعبد الكريم سروش ما يظهرُ من تضادٍ بين ما يدللُ بشكلٍ لافت على ايمانه بالله والغيب والوحي والنبوة في مختلف محاضراته وكتاباته، وبينَ تفسيرِه للوحي والنبوة ومشاهد القيامة والقصص في القرآن الكريم في كتابه هذا. مفارقةٌ أخرى في "الرؤى الرسولية" وأشباهها من كتاباته ومحاضراته تتمثلُ في ضيق مرجعية القرآن، وتسيّدِ مثنوي جلال الدين الرومي وحضورِه الطاغي في تفكيره وتعبيره، واتخاذِه أساسًا في تفسير القرآن وتأويل عالم الغيب فيه. جلال الدين الرومي يبتكرُ لغتَه المكتنزة بالمعنى، وهي تتميزُ بالجمال والسهولة في التعبير عن المعاني بحكايات واستعارات وكنايات وأمثال متنوعة، غير أن لغتَه لا تؤسس قواعدَ عامة أو ترسمَ خرائط يمكنُ اعتمادها لفهم الوحي والغيب في القرآن. عندما يتخذُ سروش أبياتَ شعر المثنوي أساسًا لفهم الغيب ويعتمدها في استنطاق آياتِ القرآن فليس بالضرورة أن يهتديَ للطريق الذي تنكشفُ له فيه آفاقُ الغيب. مفتاحُ فهم الغيب في القرآن ما تقوله آياتُه، والمرجعيةُ في تفسير الغيب ما تشي به دلالاتُها. جلال الدين الرومي والعرفاء يفسّرون القرآنَ في ضوء بصيرتهم أحيانًا، حتى لو كانت بصيرتُهم حاذقة إلا أنها قد تشطح. الطريقُ لتفسير القرآن أن نستنطقَ آياتِه بآياتِه لاكتشاف ما ورد فيها من ملامح للغيب. بوسعنا أن نستضيء باستبصارات العرفاء وبما يقوله المفسّرون غير أنها تظل اجتهاداتٍ بشرية، وكلُّ اجتهاد عرضةً للخطأ.

في الوحي بُعدان، بُعدٌ إلهيٌّ وآخرُ بشري، لا يمكنُ دراسةُ البُعد الإلهي الغيبي في الوحي في ضوءِ المناهج العلمية المعروفة لدراسةِ الطبيعة ومَنْ يعيشُ فيها. النبيُّ لا يفقدُ بشريتَه عندما يتلقى الوحيَّ، يمكنُ دراسة البُعدِ البشري في شخصية النبي وحياته الخاصة والاجتماعية والواقع الذي كان يعيشُ فيه في ضوء المعطيات العلمية. إنكارُ البُعد الغيبي في النبوة هو ما يفعله المُنكِر للوحي الإلهي، وإنكار البُعد البشري في شخصية النبي هو ما يفعله الغلاةُ وبعضُ المتكلمين القدماء. محمدٌ نبيٌّ مبعوثٌ برسالة إلهية يُوحى إليه، إنه إنسانٌ يعيشُ حياتَه البشرية كما يعيشُ الناسُ. ‏محمدٌ رسولُ الله "يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ"، ويفرح ويحزن، ويبكي ويضحك، ويتألم وينشرح. محمدٌ إنسانٌ يمتلكُ بصيرةً نورانية، وعبقريةً فذة، ومشاعرَ نبيلة، وخُلُق عظيم: "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ". محمدٌ إنسانٌ تجذّرت في ذاته الرحمةُ الإلهية بوصفها ضميرَ النبوة.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

في المثقف اليوم