قراءة في كتاب

الفلسفة الأخيرة- رؤية معرفية سلوكية للفكر العربي.. قراءة في كتاب ظريف حسين (1)

ما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأنه يصعب على المرء دراسة التفكير الفلسفي دون المرور بقضية ماهية الفلسفة وحدّها الجامع المانع ولكن عدد قليل من الفلاسفة حاول تقديم جواب شاف عن السؤال الشائك: ما الفلسفة؟، وهذا الأمر في الحقيقة مثير للاستغراب والدهشة بالنظر لانتماء معظمهم إلى المشروع الفلسفي ومساهمتهم في تركيز دعائمه (1).

فلم يتفق الفلاسفة حول تعريف دقيق ونهائي للفلسفة ولا يوجد أمر معين اختلفوا حوله وتخاصموا أكثر من تعريفها إلى درجة أن بعض المؤرخين نفى إمكانية حصول اتفاق في العمق حول الأساس الذي يقوم عليه المشروع الفلسفي والمضمون الحي الذي تقوم الخبرة الفلسفية بتحليله والمقصد الذي يسعى الفيلسوف من خلال ممارسته وأفعاله وسيرته تحقيقه وبلوغه والمنهج الذي يجدر بكل تفلسف فعلي أن يتبعه ويسلكه، ولم يسبق أن تعرضت الفلسفة إلى التجاهل والاستخفاف من قبل العامة والخاصة لمثل ما تتعرض له زمن العولمة المتوحشة والثقافة الاستهلاكية ومجتمع الفرجة وبعد سيطرة الصورة وظهور أنماط الاستنساخ (2).

ويحوز غالبية الفلاسفة على فن الصياغة الفريدة للمفاهيم ويحاولون من خلال آثارهم فتح العالم وتحرير الإنسان. لكن أي مكان للفلسفة اليوم؟ ولماذا يبحث الإنسان دائما عن طرق للتفلسف؟ وهل ثمة تلازم بين ازدياد المعرفة الفلسفية والتقدم المادي في الحياة؟ وماذا تبقى للفلسفة من دور تقوم به زمن الاضطراب؟ وما الفائدة المرجوة من تدريس الفلسفة ؟ ولم تصلح الفلسفة في الوجود البشري؟، هل يجب رد الاعتبار إليها ؟ ما هو الثمن الذي يجب تقديمه في سبيل ذلك؟ وهل من شروط يلزم توفيها لتحقيق رقيها؟ (3).

وفي اعتقادي أن هناك ثلاثة وظائف اساسيه للفلسفة لا غنى عنها، هذه الوظائف هي:

أ- المعرفة الموضوعية.

ب- والتفكير المنهجي.

ج- والافكار او النظريات الشمولية الكبرى بالمعنى المعرفي علاوة على الروح النقدية.

 فالفلسفة ليست تهويمات غير واقعيه، بل هي مرتبطة بالواقع والتفكير المنهجي المستقل (4).

الفلسفة اذن، هي البحث المتواصل، الذي لا ينتهي، ولا يكل عن التساؤل عن أسرار الوجود الذي حركه وعي الإنسان النقدي، الذي نَوَّر العقل، وشَحَذَ الفكر، ودفعه لمزيد من التساؤل والنقد للوصول إلى الحقيقة، وحل ألغاز الوجود واسرار الحياة".

بالطبع كان الصراع الفكري محتدماً بين الفلسفة الرأسمالية والفلسفة الاشتراكية طوال أكثر من مائتي عام، إنه الصراع بين الاستغلال وبين العدالة الاجتماعية، بين الظلام والنور، وسيظل هذا الصراع قائما طالما كان الانسان بحاجه الى الخلاص من الظلم والتبعية والاستبداد والاستغلال لتحقيق مبادئ الحرية والنهوض الديمقراطي التقدمي للشعوب.

وهنا بالضبط يتجلى إدراك القوى التقدمية الديمقراطية في بلداننا للمضمون الجوهري لمعنى وغايات الفلسفة عموماً والفلسفة الحديثة على وجه الخصوص، وتطبيقها على مجتمعاتنا العربية، هو إدراك منحاز لمفاهيم العقل الحداثي، والتطور والنهوض وفق قواعد وأسس المجتمع التقدمي الديمقراطي في كل قطر عربي (5).

قصدت أن أقدم هذه المقدمة لأمهد للحديث عن تحليلي للكتاب الشيق الذي بين يدي، وهو كتاب بعنوان " الفلسفة الأخيرة - رؤية معرفية سلوكية للفكر العربي " ظريف مصطفى أحمد حسين- أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة الزقازيق- (ويقع في "359" صفحة من القطع الكبير)، وفي رأيي أن هناك نمطان من الأساتذة الجامعيين، نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون فإن ذلك هو الصواب عينه، ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش .

ولا شك في أن الأستاذ الدكتور "طريف حسين" من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف فلسفي ونقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا فلسفية " حديثة ومعاصرة" بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل أو لم تعبث به يدي الباحثين.

علاوة علي أن " طريف حسين" (مع حفظ الألقاب) يعد واحداً من أساتذة الفلسفة الذين يعملون في صمت وتواضع ودون ضجيج، أو تعالٍ لخدمة تخصصهم الدقيق، وقد قال عنه الدكتور حمدي الشريف:" منذ فترة- ليست قليلة- بدأت أتابع عن كثب ما يكتبه الشاعر والأكاديمي الدكتور ظريف حسين (أستاذ الفلسفة بكلية الآداب- جامعة الزقازيق)- بدأت أتابع عن كثب ما يكتبه من منشورات ومقالات على صفحات الجرائد والفيس بوك، وفي كل مرة كان يثير انتباهي أسلوبه النقدي الحاد وتعبيراته الصادمة التي يمكن أن يلاحظها أي قارئ لكتبه ومقالاته (6).

ومن ناحية أخري وجدت في شخصية الدكتور ظريف حسين وفاء العملاق وقلب الطفل، ومثاقفة الفارس وأريحية المفكر، والنبوغ المبكر، والعبق القديم، وعطر الزمان الجميل وغير ذلك من الخصال، الأمر الذي كان وراء حيرتي وقلمي في اختيار أحد الجوانب لأتحدث عنه، فراق لي أن أتحدث عنه كعملاق في الفلسفة المعاصرة.

ولم يكن الدكتور ظريف حسين مجرد مفكر مبدع نذر حياته للبحث عن الحكمة متذرعاً بمبادئ الحق والخير والجمال، لكنه كان – قبل كل ذلك إنساناً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى . إنساناً في تفلسفه، ومفكراً في إنسانيته، وبين الإنسان والفكر تتجلى شخصية الدكتور ظريف حسين متعددة الأوجه، كمترجم وكناقد وكأديب.

والدكتور ظريف حسين هو واحداً من الأساتذة الجامعيين الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفلسفة المعاصرة من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارمة إلى أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

ومن هذا المنطلق يعد الدكتور ظريف حسين بلا شك واحدا من أساتذة الفلسفة الكبار في مصر والعالم العربي المشهورين الذين اهتموا في مشروعهم الفكري بالأخلاق والقيم والعقل، ولديه ما يزيد عن ثلاثين كتابُا منشورًا في الفلسفة ما بين ترجمات ومؤلفات؛ تذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: مفهوم العقل عند هوسرل، ميتافيزيقا الاخلاق عند شوبنهور دراسة نقدية، ومفهوم الروح عند ماكس شيلر، و"الفلسفة الأخيرة"، ومفهوم الإضافة عند مارتن بوبر، ومشكلة الكليات في المنطق المعاصر، وفلسفة اللغة عند ميرلوبنتي، نحو نظرية للأخلاق الكونية .. الخ.

إن كتابات ظريف حسين تنتمي – فيما يرى البعض – إلى نمط الكتابة ما بعد الحداثية: أي الكتابة غير النسقية، وهي كتابة لا تتقيد ببناء محدد أو خط سير معين، وإنما تمضي في كل اّتجاه بحسب الحاجة والضرورة التي تفرضها المناسبات البحثية والقضايا الآنية. فكتابات ظريف حسين – في معظمها – كانت أبحاث ودراسات قصيرة أتت بهدف المشاركة في الفعاليات البحثية والدوريات المتخصصة، ولعل هذا كان هو السبب في أن ظريف حسين لم يصرح بكونه يسعى باتجاه إنجاز مشروع فكري ما، ولكنه صاحب رسالة.

ولقد شهد له زملاؤه ومعاصروه له بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة .. إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، وتمسك بتعاليم الدين الحنيف . ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثا ومنقبا، محققا ومدققا، مخلفا وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

نعم لقد كنا نري في ظريف حسين نعم الرجل المتوحد الشامخ: سراجا هاديا، عاليا كالمنار، وارفا كالظل، زاخرا كالنهر، عميقا كالبحر، رحبا كالأفق، خصيبا كالوادي، مهيأ كالعلم، لا يرجو ولا يخشي، طاقته لا تنضب، كأن وراءها مددا يرفدها من سر الخلود.

علاوة على كونه واحدا من عمالقة الفلسفة المعاصرين الذين تراهم كشعلة نشاط، إنه لا يكل ولا يمل، وهو يمثل علامة وضاءة ومشرقة ولا يمكن لأي دارس للفلسفة المعاصرة أن يتغافل عن الدور الرائد لهذا العالم الشامخ، ومن واجبنا أن نهتم كل الاهتمام بدراسة أفكاره وآرائه، تحية خالصة من القلب لأستاذي الدكتور ظريف حسين الذي أدعو الله أن يمتعه بالصحة والعافية.

2- أهمية الكتاب:

إن البحث الفلسفي في نظر " طريف حسين" تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث وليس مجرد مجموعة من النقول والشروح والتعليقات المفتعلة . وعلاوة علي ذلك فإن جدية " طريف حسين" " وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكرية والسياسية، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربية عموما، والمجتمع المصري خصوصا، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرقه وخاصة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصلية.

ولهذا يعد " طريف حسين" واحداً من أبرز الوجوه الثقافية من زملائنا المعاصرين، وهو يمثل قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ ربع قرن باحثاً ومنقباً عن الحقيقة والحكمة . إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته فهو ينقب في ثنايا الفكر العربي الحديث والمعاصر، لكنه لا يسلم به من ما يكتب عنه من قبل زملائه الباحثين، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله هذا الفيلسوف أو ذاك من أعلام الفلسفة الشوامخ.

وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه الورقة، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في الفلسفة المعاصرة، وقد اخترت كتابه الذي بين يدي وهو بعنوان "الفلسفة الأخيرة"، حيث يعد هذا الكتاب واحداً من تلك المؤلفات التي عني بها مؤلفها " طريف حسين" بالدفاع عن "الرؤية المعرفية السلوكية للفكر العربي"، وقد قال عنه الدكتور حمدي الشريف:" عندما أصدر الدكتور ظريف حسين كتابه "الفلسفة الأخيرة" (عام 2021 عن مركز ليفانت للدراسات الثقافية والنشر بالإسكندرية)، أثار انتباهي أيضًا عنوان الكتاب- كعادة المؤلف في عناوينه المثيرة ذات الدلالة لكتبه ومقالاته الفكرية- وعندما انتهيت بالأمس من قراءة معظم فصول هذا العمل، وجدت نفسي مدفوعًا إلى إلقاء إطلالة سريعة- قد تكون غير وافية- على موضوعه والجوانب الإيجابية وكذلك الجوانب السلبية التي لاحظتها أثناء تصفحي وقراءتي لفصول الكتاب. أول ما يلفت انتباهنا هو عنوان الكتاب (الفلسفة الأخيرة: رؤية معرفية سلوكية للفكر العربي)، ويصارحنا المؤلّف بداية أن هذه التسمية لا تعني تجاهلا تاما لـ"الفلسفة الأولى" أو ذلك الاسم الذي أطلقه الكندي على مبحث الإلهيات أو الميتافيزيقا كما وصفها أرسطو، ولكن الفلسفة الأخيرة- والحديث للمؤلّف- "سوف تمتص الفلسفة الأولى في داخلها لتجعلها مفهومة في سياق عقلاني وعلمي جديد، وتعيد اللحمة إلى نسيج النشاط الإنساني الواعي الذي تصوره ديكارت باسم الأنا، بعكس قوى العقل الذي مزقه كانط؛ فانطوى على تناقضات وتشوهات داخل الطبيعة الإنسانية الواحدة"، ومن هنا تبدو غاية المؤلّف تقديم رؤيته الخاصة لبعض القضايا الفلسفية النظرية سعيًا إلى المساهمة في حل المشكلات التي تؤرقنا جميعًا في العالم العربي. "فالفلسفة الأخيرة تمثل حصادًا نهائيًا لخبرة واسعة في العمل الفلسفي. وهي مشروع أو رؤية لتطوير مفهوم الفلسفة ووظيفتها، بناء على دراسة مسحية استقصائية لاستكشاف المحاور التي عملت عليها الفلسفة طوال تاريخها وكانت فيها منتجة باستخدام مناهج مناسبة لها وببعض طرائق الاستدلال من داخلها" , ومن هذا المنطلق يتجه المؤلّف إلى تعميق نظراته واستخدام معارفه وأدواته الفلسفية لإصلاح منظومة التعليم والثقافة في المجتمعات العربية التي عانت ولا تزال تعاني من التدهور والانحطاط الحضاري، مركزًا على تطوير المناهج الدراسية وطرق التدريس والمحتوى الدراسي والخطط المسئولة رسميًا عن التعليم. وبالتالي فإن معظم الأهداف التي يصبو إليها المؤلّف هي أهداف تربوية وتنويرية في المقام الأول.، ثم يستطرد فيقول ” عندما قال بأن: كتاب “الفلسفة الأخيرة”، لا يعني تجاهلا تاما للفلسفة الأولي، ذلك الاسم الذي أطلقه الكندي على مبحث الإلهيات أو الميتافيزيقا كما وصفها أرسطو ولكن الفلسفة الأخيرة سوف تمتص الفلسفة في داخلها لتجهلها مفهومة في سياق عقلاني وعلمي، وتعيد اللحمة إلى نسيج النشاط الإنساني الواعي الواحد الذي تصوره ديكارت باسم " الأنا"، بعكس قوي العقل الذي مزقه كانط أي ممزق ؛ فأنطوي على تناقضات وتشوهات داخل الطبيعة الإنسانية الواحدة. (7).. وللحديث بقية .

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – كلية الآداب – جامعة أسيوط.

........................

الهوامش

1- د. زهير الخويلدي: ركائز المشروع الفلسفي، أنظر الرابط ttps://annabaa.org/arabic/authorsarticles/8248

2- نفس المرجع.

3- نفس المرجع.

4- غازي الصوراني: حول أهمية الفلسفة ودورها في تطور واستنهاض شعوب بلدان مغرب ومشرق الوطن العربي، الهدف، الثلاثاء 04 أكتوبر 2022 | 08:05 ص

5- نفس المرجع..

6- حمدي الشريف: د. ظريف حسين والفلسفة الأخيرة: ملاحظات نقدية، الحوار المتمدن-العدد: 7385 - 2022 / 9 / 28 - 23:51.

في المثقف اليوم