قراءة في كتاب

تَنْبيهات (6): السّكاكي ومعارك محمد العمري

".. وإنّما يستبدع ذلك ممّن زجّى عمره راتعاً في مائدتهم تلك ثمّ لم يقْوَ أنْ يتنبّه."(1)

فاتحة: قُلنا في بداية هذه السّلسلة من المقالات أنّها مُخصّصة لاستعمال محمد العمري للبلاغيّين العرب القدامى في كتاب "المحاضرة والمناظرة"، الّذي ألّفه للدّفاع عن البلاغة ومناقشة كتاب "التبالغ والتبالغية"لرشيد يحياوي، وقد دفعنا اختلاط ما قاله فيه عن السّكاكي إلى مراجعة كتاب"البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها" علّنا نعثر فيه على بعض ما يساعد على فكّ ذلك الاختلاط وإظهار مبرّرات الأحكام المرسلة. لكنّنا وجدنا فيه، عكس ما توخّيناه، إسقاطا وتعسّفا وتزويرا لا يمكن أنْ يبرّر بالاختيار القرائي غير التّوثيقي(2): صنّف السّكاكي "مختصراً "(3) لقّبه بـ"مفتاح العلوم"، وحدّد في مقدّمته مقاصده وفسّرها، وعيّن أنواع العلم الواجب الاعتماد عليها والاستمداد منها، وبيّن الْكَيْفيّة الّتي ينبغي أن تتراتب بها تلك الأنواع وتترابط بما يجعلها نسقا نافعا لعموم المهتمّين بالأدب في زمانه، وبرّر كلّ ذلك تبريرا علميّا كافيّا لا يخفى على المنصف، واحتاط بأنْ خاطب قارئه قائلا له إنّ "الاستعمال بيدك"(4)؛ بيد أنّ العمري يَكْفُر كلَّ ذلك، ويتورّط في الإتيان بآراء غريبة وأحكام متعسّفة وتَقوّلات غاية في الفحاشة، بدا معها صاحب المفتاح متهافتا، ومختزلا، ومحكّماً للنّحو والمنطق في البلاغة!. وقد ناقشنا بعض ذلك، وظهر لنا أنّ العمري ساقه بدون تحقيق، وحشر في كلامه آراء متفاوتة ينفي بعضها بعضا ويقع جلّها بعيداً عن بنية المفتاح ومقاصده.. لهذا نعود إلى كتاب "المحاضرة والمناظرة " الّذي نخصّص له هذه السّلسة من المقالات لمناقشة "محاضرته" الّتي يجعل من طوائف مخاطَبيه فيها الطلبة والتّلاميذ (5)!

الجرجاني والسّكاكي مؤسّسان ومختزلان:

يقول العمري:«بدأت عملية اختزال البلاغة العربية مع الجرجاني نفسه، ثم خَطتْ خطوةً واسعةً مع السكاكي، وبلغت نهايتها مع القزويني وباقي الشراح والملخصين. ولا لوم على أحد منهم، فقد استجابوا جميعا لحاجيات عصرهم وأسئلته، واستثمروا إمكانياته. بل يمكن شكر المتأخرين منهم على إيواء البلاغة في لحظات احتضارها كما آوتها الكنيسة في أوروبا بعد ذهاب شبابها اليوناني واللاتيني. سنبدأ من البداية ونسير مع عملية الاختزال خطوة خطوة إلى العصر الحاضر(6) «.

قلتُ: يكفي أن تعرف أنّ العمري يرى، مثل آخرين كثيرين، أنّ عبد القاهر الجرجاني " هو المؤسّس الحقيقي للبلاغة العربية"(7)، وتعرف أنّه يرى، وحدَه هذه المرّة، وكما هو واضحٌ في هذا المقتطف، أنّ عبد القاهر الجرجاني نفسه هو أوّل من اختزل تلك البلاغة لتتأكّد من تنكّبه عن سبل الضّبط والتّحقيق في "المحاضرة والمناظرة". ففي الرّأي الّذي لا يقيم للمعرفة – بلهَ العلم- وزنا يمكنك دائما أن تقول إنّ الجرجاني أسّس البلاغة واختزلها، وتبرّر التّنافي بالقول إنّ ذلك الاختزال إنّما هو اختزالٌ منهاجي يمكن أن يؤيّد أو يعارض، دون أن تكلِّف نفسك بأن تسأل: إذا كان هو المؤسّس، فبالقياس إلى ماذا يمكن اعتبار عمله مختزلا؟ ومادام اختزاله اختزالا منهاجيّا، فكيف يمكن أنْ يُؤيّد أو يُعارض؟ لا يجب أن نكلّف أنفسنا السّؤال لأنّ كلّ ذلك سائغ في المحادثات التي يتحكّم فيها الهوى والرّأي بعيدا عن واجب التّفكير في تحقيق القول والتّدليل عليه: يتحدّث بعض المهتمين بالبلاغة من المعاصرين عن "البلاغة العامّة"، وفي مرحلة ما قبل الجرجاني كان هناك الكثير ممّن تناولوا، من زوايا مختلفة، جوانب ومسائل أدخلها الباحثون في مرحلة ما بعد السّكاكي في التّخصص الّذي لقّبه بعضُ المتأخّرين بالبلاغة، لذا، فإنّ الجرجاني حتّى وإنْ كان هو "المؤسّس الحقيقي للبلاغة" بالنّسبة للعمري، فإنّه مع ذلك هو الّذي اختزلها- ولا تستغرب!- لأنّه لم يجعلها عامّة بجمع كل ما كان منتشرا قبله!. نعم تجمّعت عنده كلّ الرّوافد، ولكنّه قلّل من قيمة الموازنات!! طيّب، ماذا لو جعلتَ "بلاغة" الجرجاني تتوسّع لتشمل "فصاحة" ابن سنان وغير ابن سنان أكانت البلاغة ستصير عامّة تماثل ريطوريقا أرسطو التي كانت نصب عين جيرار جنيت وغيره ممّن اقتفوا أثره وتحدّثوا عن البلاغة العامة والبلاغة المختزلة من الغربيّين؟ وعلى فرض أنّها ماثلتها أو فاقتها من حيث "المساحة" أكانت تسدّ مسدّ هذا النّموذج الكلّي الّذي يطمح إليه المختصّون زمننا هذا دون أن يقدر أحد على ادّعاء أنّه بناه على الوجه الّذي ينشد؟ وهل هناك إمكانية أصلا لإنشاء ذلك النّموذج الكلّي؟ وماذا لو كان ما يتحدّث عنه العمري بهذه الطّريقة الّتي تجمع الإسقاط والتّخبّط والوثوقيّة لا يوجد إلا في وهمه؟ كلّ ذلك لا يعني شيئا لصاحب "المحاضرة والمناظرة"، والمنطلق عنده متهافت: البلاغة العربية كانت عامّة قبل أن تتأسّس، وقد اختزلها المؤسِّس. ما هو علم البلاغة الّذي اختزله الجرجاني؟ الجرجاني اختزل علم البلاغة الّذي لم يكن! أو كانت ظواهره ومباحثه تتبلور تدريجيّا في النّحو والتّفسير وعلم أصول الدّين وأصول الفقه والنّقد الأدبي والإعجاز !..

والجرجاني نفسه لم يعيّن لكتابيْهِ أيّ إطار علميّ جديد؛ ولم ينشغل بتحديده على نحو ما قام به السّكاكي بعده سواء كان علما للبلاغة أو علما للأدب أو غيره. يبتدئ "أسرار البلاغة" بـ"قال الشيخ الإمام مجد الإسلام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمان الجرجاني النّحوي رحمة الله عليه ورضوانه"، ويقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني النحوي هذا مباشرة بعد أن يشير إلى فضيلة البيان إنّ "التّباين في هذه الفضيلة أو التّباعد عنها إنّما يتعلّق بالتّأليف والتّركيب والتّرتيب الّذي «يقع في الألفاظ مرتّبا على المعاني المرتّبة في النّفس، المنتظمة فيها على قضية العقل(8)«؛ ويبتدئ الرجل "دلائل الإعجاز" بالقول: «هذا كلام وجيز يطّلع به النّاظر على أصول النّحو جملة، وكلّ ما به يكون النّظم دفعة.. (9)«. والعملان يحكمهما همٌّ محوري يتمثّل في تحديد الخصائص التي تجعل الخِطابات تتمايز وتتفاوت ويفضل بعضها بعضا بهدف بيان تفوّق الخطاب القرآني، ولكنْ داخل مجال النّحو بالشكل الذي بدأ به، واسعا لا موسّعا. لذا فإنّ من سوء التقدير مؤاخذة المؤرّخين – على نحو ما يفعل رشيد رضا وغيره ممّن يردّد العمري آراءهم- على عدم إشارتهم إلى "أنّ الجرجاني هو واضع علم البلاغة"، ولا إنكار كون ابن خلدون الذي "تصدّى للإلمام بتاريخ الفنون أهمل ذكره"، «وزعم أنّ الّذي هذب الفن (قلتُ: البيان لا البلاغة) بعد أولئك الّذين كتبوا في مسائل متفرّقة منه هو السّكاكي(10) «! لأنّ «سلامة العبارة، وصفاء الديباجة، والغوص على أسرار الكلام، ووضع دُررها في أبدع نظام(11) «ليس بحال من الأحوال مما يمكن أن يوضع في مقارنة مع التّنظير والتّصنيف و"التّبويب والتّرتيب" و"تحرير الحدود والرسوم(12)"!

بعد أن يقرّر العمري أنّ عبد القاهر الجرجاني "المؤسّس الحقيقي لعلم البلاغة" هو أوّل المختزلين، يقول إنّ عمليّة الاختزال «خطت خطوة واسعة مع السّكاكي(13) «! ولا نحتاج إلى استحضار من يُرجِع فضل صياغة علم البيان إلى صاحب المفتاح مرّة أخرى، (14) ممّا يعني عدم وجاهة اتّهامه بالاختزال؛ بل يكفي تذكُّر قول العمري نفسه بأنّ كتاب المفتاح «ليس مؤلّفا في البلاغة(15) «! حتّى تصير أقواله الأخرى المتمثّلة في كونه اختزَل البلاغةَ، وأخذ روحها، وحكّم فيها مقولات النّحو والمنطق، وغيّر مسارها، جوفاء وبدون معنى: فَجَعْلُ كتاب المفتاح خارج دائرة البلاغة يدفع القول بتغييره لمسارها ويُنافيه.. (16) ودعك من الجمع بين الحكم بأنّ السّكاكي فكّر في شيء قريب لا من البلاغة فقط، بل من البلاغة العامّة، وبين الحكم بأنّ عمليّة الاختزال خطت معه خطوة واسعة!

ورغم أنّ هذا يكفي للتّدليل على تسييب العمري للكلام في ما يخصّ صاحب المفتاح، فإنّنا نقف معه عند تقديمه التّفصيلي لحججه على الأضرار الّتي ألحقها السّكاكي بالبلاغة تحت عنوانه المثير: تحويل المسار، أو أخذ الروح!

تمهيد العمري لبيان اختزال السكاكي للبلاغة:

قبل أن يشرع العمري في إيراد حججه مرقّمة ومفسّرة يمهّد لذلك بهذا الكلام:

« يُلام السكاكي عادة على إخراجه البلاغة من مجال الذوق والممارسة النصية إلى مجال التقعيد النظري الجاف الذي غلبت عليه القوالب المنطفية والأمثلة المصنوعة المكرورة. وهذه ملاحظة مفهومة بلاغيا، ولكنها تحتاج إلى تفسير. وهذا ما نحاول بيانه قبل أن نلتمس العذر فيه للسكاكي. (17) «

يبتدئ العمري كلامه بالبناء لغير الفاعل: "يُلام السكاكي عادة.." وهي صيغة يزدوج فيها مقصدان؛ أمّا الأوّل فهو جعل مَنْ يلومون السّكاكي كثيرين على نحو تنتفي معه الحاجة إلى تعيينهم، ويدعّم ذلك بكلمة "عادة"، فهم كثيرون ويلومونه باستمرار، ومن الواضح أنّ العمري هنا يعمل على تدعيم ما يُلْصِقه بعمل السّكاكي بطريق غير مشروع: الانطلاق ممّا تقوله، عادة، كثرة كاثرة غير محدّدة، واعتبار قولها حجّة لا يحتاج أيّ مناقشة؛ وأمّا الثّاني، فهو خلق مسافة بينه وبين تلك الكثرة ممّن يلومونه، فهو، وإنْ كان "يتفهمهم بلاغيا" ويرى أن دعواهم صحيحة، بل ويمكن أن ينوب عنهم في "محاولة" تفسيرها، فإنه يلتمس العذر للسّكاكي ولا يلومه مثلهم! ومن الواضح، هنا كذلك، أن التماس العذر للسّكاكي مجرد ثرثرة للتغطية على انجراره غير المبرّر لـ"محاولة" تفسير ما لا يقوم إلّا على الهوى والتّحكم، وإلا ما الفائدة من السّعي لالتماس العذر لمن حوّل مسار البلاغة وتسبّب في أخذ روحها! ومن الواضح، ثانيا، أن الحيل الخطابية المقصودة تنفي عن كلام العمري أي جدية في السّعي لإعادة الاعتبار للبلاغة باعتبارها مجالا لعقلانية موسّعة تتقصّد جعل القيم موضوعا للعلم يبتّ في ما يصلح منها مما لا يصلح ويراتب بين كل ذلك ليُنْتَفَع به في الرّقي في الحياة وبالحياة، ومن الواضح، ثالثا، أنّ الخبط والتّخليط غير المقصود ينزع عنه أيّ اقتدار على الإسهام في شيء من ذلك.

1.2. إخراج السّكاكي للبلاغة من مجال الذّوق و"الممارسة النصية":

لكن ما هو الخطأ الشّنيع الّذي اقترفه السّكاكي واستحقّ عليه اللّوم الدّائم الّذي يعتبره العمري "ملاحظة" مفهومة بلاغيا؟ لقد "أخرج البلاغة من مجال الذّوق والممارسة النصية". نقف عند هذين المأخذين وننتقل بعد ذلك إلى مجال "التقعيد النظري الجاف" الّذي حوّل إليه هذا العلم. ولنبدأ بـ"الإخراج من مجال الذّوق"، ونثنّي بـ"الإخراج من الممارسة النّصيّة".

1.1.2. الإخراج من مجال الذّوق:

لِنَسأل صاحب " المحاضرة والمناظرة" أسئلة ثلاثة: (1) ما علاقة الاختزال بترك الذّوق؟ الاختزال الّذي يحاول العمري أن يثبته بهذه الطّرق المغالطة هو ترك مناطق من "امبراطورية البلاغة" الشّاسعة؛ ومن البديهيّ أنّ الإنسان يمكن أن يكون إمبراطورا مستوليا على مناطق واسعة جدا ولا ذوق له؛ (2) كيف يجوز اتّهام من لم يقصد، وفقا لرأي العمري نفسه، إلى التّأليف في البلاغة بإخراجها من مجالها وتحويل مسارها؟ هل يمكن مثلا أن نقول، عملا بهذه السّنة غير الحميدة، إنّ أحمد المتوكّل -اللّساني المغربي- أساء للبلاغة عندما اعتبر نظريّة النّظم الجرجانيّة نَحويّة، أو عندما نَظّر للخطاب، وهذا مثل ثان، في إطار نموذج "نحو الخطاب الوظيفي" مستثمرا النّحو والبلاغة وأصول الفقه؛ (3) هل رفض السّكاكي "الذّوق" وانتقد من يقول به ويعتمد عليه؟ لا مُنْصِفَ يمكن أنْ يدّعي ذلك، والمفتاح متاح يشهد بعكسه على نحو صريح وفي مواطن مختلفة.

يتحصّل من تأمّل ما سبق أنّ السّكاكي لم يخرج البلاغة من الذّوق ولا الذّوق من البلاغة، والعمري نفسه أكّد ذلك في "البلاغة العربية". قال: «إنّ الاحتكام إلى الذّوق الّذي برز كتعبير عن أزمة منهاجيّة في آخر دلائل الإعجاز، كما سبق، يأتي هنا كموقف مبدئي(18)«. نعم إنّ العمري الّذي يقول إنّ السّكاكي أخرج البلاغة من الذّوق كان الحّ على أنّ الذّوق عند السّكاكي "موقف مبدئي"، وأضاف: «..فمهما كان العلم عقليا فلا بد له، في نظره، من الاستعانة بالذوق. فكيف به إذا كان مبنيا، مثل علم المعاني أو البلاغة عامة، على المواضعة والألفة. جاء هذا صريحا في تمهيد الكلام عن الخبر، قال..(19)«، ونقل كلاما للسّكاكي بالغ الدّلالة في ما نحن بصدده، بل إنّه ردّ بصرامة على الدّارسين التّقليديين!: «ومع ذلك فسيجد الدّارسون التّقليديون للبلاغة العربية كلّ شيء عند السّكاكي إلا الذّوق، وسيتهمونه بالتقريرية الجافة، ولكنه ما كان ليعبأ بهذا حتى ولو قيل له مباشرة. فقد برأ ذمته ودفع الحرج قبل أن يدخل في تلك التقنينات الصارمة (20)«. فكيف يعود العمري ويدرج نفسه في جوقة اللّوام الّذين ما كان السّكاكي لِيعبأ بهم حتّى لو بكوا واشتكوا في حضرته، وكيف يعود ولا حاجة تدعو إلى إثارة الذّوق أصلا، إذِ السّياق هو محاولة إثبات إغفال أو ترك أو بتر أجزاء أو مناطق إمبراطورية "من ورق"! وكيف يعود.. وأعظم فائدة للبلاغة، إذا صدّقنا جهابذتها، أن تكشف طرق المغالطة والسّفسطة ليُحْتَرزَ عنها!

2.1.2. الإخراج من "الممارسة النصية":

ليس لنا أنْ نلتفت في هذه الفقرة إلى تركيب "الممارسة النصية" التي يُرصّع بها "بلاغي" ينخرط في جوقة اللّائمين لِمؤلِّف قديم -لم يدّع قط أنّه بلاغي- لأنّه أخرج البلاغة من الذّوق!، فبمثل هذا الذّوق الّذي في "المحاضرة والمناظرة" يوجّه العمري الخطاب إلى الطّلبة والتّلاميذ! لنترك ذلك ولنفرض أنّ المقصود بإخراج السّكاكي للبلاغة من "الممارسة النصية" هو عدم تصدّيه لتحليل ونقد النّصوص. والجواب على هذا غاية في البساطة: إنّ من يقول هذا عن مفتاح السكاكي – وغيره مما يشبهه كمنهاج حازم ومنزع السّجلماسي- في الزّمن المعاصر الذي تراكمت فيه المعارف وتوضّحت الفروق بين التّخصصات ومقاصد التّأليف ومستوياته يجدر به أن يترك القراءة رأسا لأنه لن ينتفع بها، بَلْهَ أنْ ينفع؛ هذا إن لم نقل إنّه سيسيئ كلّما قرأ وكتب. يؤكّد السّكاكي أنّ كتابه "مُخْتَصَرٌ" عمل فيه على تمييز وتعيين وترتيب العلوم الّتي من شأنها أن تدخل في تركيب مترابط نوعا من التّرابط يصير معه "مدخلا منهجا" نافعا ومُعينا لأصحاب المطالب العلميّة في مجال الأدب. وهذا معناه أنّه يضع عمله في مستوى التّنظير، فيجتهد في صياغة رؤية منهجيّة عامّة، وفي ترتيب وتبويب وتفسير الكليّات والخصائص النّوعيّة التي تحكم اشتغال الخطاب في أنماطه وتجليّاته المعروفة في زمنه؛ وهو يقوم بذلك بالاستناد إلى جهود سلفه ممّن اشتغلوا على الخطاب من زوايا مختلفة بالرّصد والتّحليل والنّقد وصياغة القواعد والقوانين(21)؛ لذا فإنّ المقتطفات الّتي يوردها في كتابه، ممّا اعتمد فيه على من سبقه أو ممّا اقتطفه هو نفسه، لا تحضر لديه إلّا في إطار التّمثيل لقوانين كليّة أو لتفسيرها. وبناء على ذلك وضع عمله في صنف "علم الأدب" ولم يضعه في "نقد الأدب"؛ فكيف يجوز لنا أن نطلب من عالم الأدب أن يكون، في نفس العمل، ناقدا يجعل وكده تحليل نصّ أو مجموعة نصوص متعيّنة يكشف تفرّد كلّ منها وتميّزه. زوايا النّظر إلى الخطاب الأدبيّ تختلف وفق متغيّرات كثيرة، منها الاختلاف بين زاويّة علم الأدب وزاويّة نقد الأدب!

2.2. إخراج البلاغة إلى مجال التّقعيد النّظري الجاف:

ننتقل الآن إلى المجال الذي أخرج إليه السّكاكي البلاغة وفقا لدعاوى "اللّوام" الّذين يتفهّم العمري ملاحظتهم ويعمل على تفسيرها. وقد وصفوه بأنه: مجال التقعيد النظري الجاف الذي غلبت عليه القوالب المنطفية والأمثلة المصنوعة المكرورة. وَلْنُقلْ بالوضوح الّلازم: إن لم تعرف مستلزمات العلميّة ما هي لم يكن لك في طلب علم البلاغة، بلهَ الكتابة فيه بصيرةٌ ولا منفعة. ونعم لقد انْتُقِد السّكاكي بهذا كثيرا، ولكنْ من طرف من يرون البلاغة فنّا! ينظر في الأدب بمعناه الضّيّق المحصور في ما يعتبرونه "نصوصا ذات بلاغة عاليّة" من الشّعر ومن أجناس القول القريبة منه والشّبيهة، ومن قِبَلِ من يفرّون من الضّبط والعلم كسلا واستسهالا، ولا يميّزون بين الخطاب الإبداعي والخطاب العلمي الّذي يتناول ذلك الإبداع، على الأقلّ بالنّسبة لمن يعتقد به ويحاول اصطناعه في ما يكتب؛ لهذا، من الواجب أن ينتبه من يعلن جهاراً أنّه تطلّع أن تقع مؤلّفاته الأساسيّة في «الكتابة الأكاديمية الصارمة(22) « إلى ما في هذه العبارة من "تقاعس" صارخ لا يجب أنْ يهادن: كيف تريد لخطاب العلم أن لا يكون تقعيدا؟ وما التّقعيد إن لم يكن بناء لقوانين كليّة يمكن الانطلاق منها لاختبار كفايتها التّفسيرية في حقل الخطاب إن كانت اعتباراتك علميّة، أو لبيان "براعة" و"سحر" نصّ معيّن في فرادته وتميّزه إن كانت اعتباراتك ذات طبيعة نقديّة؟ وكيف تريد لخطاب علميّ قصد به صاحبه أن يكون مدخلا جامعا، فصاغ رؤيته العامّة، وربط بين علوم مختلفة ومتنافية أحيانا، فرتّب وركّب وفقا لضوابط صاغها والتزم بها، وحدّد المفاهيم والقوانين والوظائف ممثّلا ومفسّرا..أن يكون؟ لقد سعى السّكاكي إلى أن يوفّر لخطابه مستلزمات العلميّة الّتي تريد التّخلص منها بنعتها بهذا الاستعارة الجوفاء: "الجفاف"؟ فهل من وصفة للاشتغال بالعلم بلغة الشّعر؟ ألم يكن الجرجاني نفسه الذي يُقارَن به السّكاكي يسعى، جهده، إلى الخروج من "الرّمز والإيماء، والإشارة في خفاء"؟ وهو ما دافع عنه العمري، وإن خلّط موقفه بالغثّ من اللّفظ والرّأي كما أوضحنا في مناقشتنا له؟ بقي أن نشير في ختام هذه النّقطة إلى (1) أنّ الجمال في الأدب نفسه ليس واحدا، وتعدّده يُنَسّب، التّصورات السّاذجة الّتي يمكن أن تحمل قيما ضارة، ومطلقات تعتقل إرادة الإنسان، (2) وأنّ الجمال إن لم يكن واحدا في الأدب، فإنّه ليس مقصورا عليه. وجمالية الخطاب العلمي تختلف بالطّبع عن "جمالية النزعة الأدبية الجوفاء"، وتلتقي مع جمالية الأدب المرتبطة بالحياة والعلم من وجوه وتختلف عنها من وجوه؛ وفي كلّ ثراء، وإلى كلّ حاجة! (3) وأنّ البلاغة سعت (وتسعى) إلى أن تكون علما للخطاب؛ وهي مطالبة في شقها الحجاجي أن تسهم في الفلسفة العمليّة الّتي تنشغل بالقيم من أجل عقلنة أشكال التفاعل الاجتماعي في الأخلاق والسيّاسة والدّين، وغير ذلك..

3. بيان العمري لاختزال السّكاكي للبلاغة:

رأينا في الفقرات أعلاه أنّ الملاحظة الّتي يوردها العمري منسوبة لمجهولين، ويصرّح أنه يتفهمها "بلاغيا" وأنه سـ"يحاول" تفسيرها وبيانها ليست ممّا يمكن أن يسعفه في التّدليل على اختزال السّكاكي للبلاغة. يبقى أن ننظر في الحجج الّتي قلنا إنّه يوردها مرتّبة ومرقّمة، فقد يكون فيها ما ليس في الملاحظة العامّة ممّا يدلّ على ذلك الاختزال:

1.1.3. عملية الاختزال الأولى:

يقول العمري:

«2-2-1-أوّل عملية قام بها السكاكي لتحويل تصور الجرجاني عن مجاله الشعري الفلسفي النحوي التجريبي، هو تحويل «الغرابة« و«العدول« (عند الجرجاني) إلى «بيان(في مفتاح العلوم)، ثم جعل البيان في امتداد الاستدلال. كانت الغرابة (اللفظ/الصورة) عند الجرجاني قسيما للنظم في إنتاج الحسن. فينتظر أن يكون «من«(أو ما) يحل محلها (وهو « البيان «) محتلا لنفس الدرجة، أي نصف البلاغة. (23) «

2.1.3. تعليق:

هذا الكلام مختلط وفاسد لاعتبارات تُعدّ ولا تُحصى، نكتفي منها بهذه الثلاثة: (1) أمّا الأوّل، فلتعمّد التّحريف فيه؛ فالعمري يعرف -كما يعرف غيره- أنّ السّكاكي الّذي سعى لتحديد المفاهيم وترتيبها عموديا وأفقيا وبيان تبايناتها وتداخلاتها لم يحوّلالعدول والغرابة إلى "بيان" البتّة؛ ومن يتصفح المفتاح يدرك دون جهد أنّ التّشبيه والمجاز والكناية مفاهيم مرتّبة تحت البيان باعتباره جنسا عاليا؛ وأنّ السّكاكي رصد الخروج (= العدول) عن القاعدة (أو أصل المعنى أو مقتضى الظّاهر) في مختلف مستويات الخطاب، وليس في الظّواهر التي يختصّ بها علم البيان فقط، واستعمل ما يقوم مقام لفظ العدول مع تحديد المقصود منه بدقّة وفقاً لكل سياق(24) ؛ وأمّا كلمة الغرابة عند الجرجاني فهي لا تُعيِّنُ عناصر خطابيّة ونصيّة بل تشير إلى حالة تنتج عما يُحْدِثه العدول والخروج عن القاعدة والسّنن من تأثير في المتلقّي (النّموذجي؟)، ما يعني أنّ الجرجاني كان يستعملها لوصف التّفاعل المحتمل بين النّصوص الّتي يعتبرها جيّدة مع ما يشكِّل "عقل" ذلك المتلقّي المفترض من حقائق وقواعد وخبرات وعادات؛ وقد احتفظ السّكاكي للغرابة بنفس الفهم، واستعملها بلفظها(25) أو استعمل ما يقوم مقامها؛ بل، إنّه تفرّد بمحاولة تفسيرها تفسيرا علميّا، وذلك بربطها بما اصطلح عليه بـ "خزانة الخيال"؛ (2) أمّا الثّاني، فلأنّ صاحب المفتاح لم يجعل البيان في امتداد الاستدلال، بل قام بعكس ذلك؛ فقد أخرّ الكلام في الاستدلال أوّلا، وأوضح لماذا يضعه في امتداد علم المعاني والبيان بعد أن انتهى من الكلام فيه بالقول « وإذْ تحقّقتَ أنّ علم المعاني والبيان هو: معرفة خواصّ تراكيب الكلام، ومعرفة صياغات المعاني، ليتوصّل بها إلى توفية مقامات الكلام حقّها بحسب ما يفي به قوّة ذكائك، وعندك علم أنّ مقام الاستدلال بالنسبة إلى سائر مقامات الكلام جزء واحد من جملتها، وشعبة فردة في دوحتها، علمت أنّ تتبّع تراكيب الكلام الاستدلالي، ومعرفة خواصّها، مما يلزم صاحب علم المعاني والبيان.. (26) « وافتتح كلامه في الاستدلال بالتوكيد على ذلك مكتفيا بعلم المعاني دون استعمال صيغة العطف (والبيان): «الكلام إلى تكملة علم المعاني وهي تتبّع خواصّ تراكيب الكلام في الاستدلال ولولا إكمال الحاجة إلى هذا الجزء من علم المعاني، وعظم الانتفاع به لما اقتضانا الرّأي أن نرخي عنان القلم فيه، علما منّا بأنّ من أتقن أصلا واحدا من علم البيان، كأصل التّشبيه أو الكناية أو الاستعارة، ووقف على كيفية مساقه لتحصيل المطلوب به، أطلعه ذلك على كيفيّة نظم الدّليل.. (27) « ؛ فَلِمَ يحرّف العمري ويقول إن السّكاكي أحلّ البيان محلّ الغرابة والعدول وجعل البيان في امتداد الاستدلال؟ وقد كان من الممكن أن نعتبر هذه العبارة من باب القلب؛ ولكن القلب هنا تمّ بقصد التّحريف. ومع ذلك، فإنّ التّحريف من أجل إثبات امتداد جفاف المنطق إلى أراضي البلاغة الخصبة لا يدلّ، البتّة، على أنّ هناك بترا واختزالا! (3) وأمّا الثّالث، فلأنّ ما يُفهم من تخليط العمري بأنّ «الغرابة (اللفظ/الصورة) كانت عند الجرجاني قسيما للنظم في إنتاج الحسن فينتظر أن يكون «من«(أو ما) يحل محلها (وهو « البيان «) محتلا لنفس الدرجة، أي نصف البلاغة« يقع بعيدا عن تصوّر السّكاكي وتصوّر الجرجاني نفسه. والأدلّة عليه كثيرة، نكتفي منها هنا بما ورد في المقتطفين السّابقين اللّذين أوردناهما في الاعتبار الثّالث؛ فالسّكاكي يستعمل فيهما علم المعاني والبيان بصيغة العطف، ويكتفي في المقتطف الثّاني بصيغة علم المعاني (بالإفراد ودون عطف)، ويقول فيه بأنّ من أتقن أصلا واحدا من علم البيان (التّشبيه والاستعارة والكناية) أطلعه ذلك على كيفيّة نظم الدّليل، وهو ما يعني ألّا انفكاك، عنده، بين علم المعاني والبيان، وأنّ الكلام عن كون أيّ من العلمين يحتلّ ربع أو ثلث أو نصف البلاغة إنّما هو عبثٌ لا صلة له بالمفتاح، و"هذا كافٍ في حقّ من أوتي حظّا من الجلادة"، بتعبير صاحبه.

1.2.3. عملية الاختزال الثانية:

يقول العمري:

«2-2-2- إنزال مكانة «البيان« من قسيم «للنظم «(الذي صار يسمى «علم المعاني «) إلى تابع مكمل له. قال: «علم البيان شعبة من علم المعاني؛ لا ينفصل عنه إلا بزيادة اعتبار «. كان اللفظ(البيان) نصف البلاغة، يقتسمها مع النظم، فصار شعبة من شعب النظم! (28) «

2.2.3. تعليق:

قلت: هذا تكرار قبيح، وبَكْلٌ من البَكْلِ؛ مع أنّ صاحبه يورده على نحو يوهم بالتّفصيل والتّدقيق! وقد كنّا أوضحنا ما يقصده السّكاكي بقوله إنّ علم البيان شعبة من علم المعاني في المقال الخامس الّذي خصّصناه لما قاله عنه العمري في "البلاغة العربية"، وأشرنا هنا، في الاعتبار الثّالث من مناقشتنا للحجّة الأولى أعلاه، إلى قدر كافٍ. ولا ندري ما الحاجة إلى اجترار ما قال في بيانه الأوّل: «كانت الغرابة (اللفظ/الصورة) عند الجرجاني قسيما للنظم في إنتاج الحسن. فينتظر أن يكون «من«(أو ما) يحل محلها (وهو « البيان «) محتلا لنفس الدرجة، أي نصف البلاغة«؛ فقد أعاد هنا في بيانه الثّاني نفس التّهمة وإنْ أسقط لفظ الغرابة والعدول واكتفى بـ "اللّفظ" وبنصف البلاغة التي كان يحتلّها عند الجرجاني، حتّى جاء السّكاكي فصيره مجرّد شعبة من النّظم «كان اللّفظ(البيان) نصف البلاغة، يقتسمها مع النظم، فصار شعبة من شعب النّظم! «؛ وَتَعَجَّب!

1.3.3. عمليّة الاختزال الثّالثة:

يقول العمري:

«2-2-3- تحويل العوالم التخييلية الخلاقة التي يشير إليها معجم الجرجاني (الغرابة، العدول، التوهيم، التخييل، الغموض، التوسع، الزيادة، الإفادة، النسج، التصوير، السبك....) إلى مجرد «معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة، بالزيادة في وضوح الدلالة عليه والنقصان، ليحترز –بالوقوف على ذلك-من الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه«(29) «

2.3.3. تعليق:

قُلتُ هذا تكرار للتّزوير. لنخلّص الفكرة المزوّرة من التّكرار الّذي لفّها في "البيانين" الأوّل والثّاني:

«2-2-1- تحويل «الغرابة« و«العدول« (عند الجرجاني) إلى «بيان(في مفتاح العلوم) «.

«2-2-3- تحويل (الغرابة، العدول، التوهيم، التخييل، الغموض، التوسع، الزيادة، الإفادة، النسج، التصوير، السبك....) إلى مجرد «معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة، بالزيادة في وضوح الدلالة عليه والنقصان، ليحترز –بالوقوف على ذلك-من الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه« «

ما الّذي أضافه العمري من حجج في البيان الثّالث الّذي يرقّمه على النّحو الّذي أوردناه؟ يضيف إلى لائحة الكلمات الّتي كان الجرجاني يشير بها إلى "العوالم التخييلية الخلاقة" وحوّلها السّكاكي إلى بيان: فبالإضافة إلى الغرابة والعدول أوضح أنّ هناك لائحة مفتوحة؛ لكنّ هذه الحيلة لن تكون ناجعة إلّا إذا أوهم بأنّ الأمر يتعلّق فعلا بما هو جديد يستحقّ أنْ يُقدّم مستقلّا ومرقّما؛ لذا، وليوسّع مدارك الطّلبة والتّلاميذ ويُطْلِعهم على جريرة السّكاكي الّذي "أخذ روح البلاغة" ارتأى أن يترك التّصريح بمفهوم البيان الّذي قال إنّ السّكاكي حوّل إليه العدول والغرابة واللّفظ.. ويضع مكانه التّعريف الّذي يقدّمه له: "معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة، بالزيادة في وضوح الدلالة عليه والنقصان، ليحترز –بالوقوف على ذلك-من الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه"!

وأمّا "العوالم التّخييلية الخلّاقة الّتي "يشير" إليها معجم الجرجاني" فإنّ العمري نفسه توقف عند انتقاد الجرجاني لحديث العلماء قبله عن الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة واعتباره أقوالهم من قبيل الرّمز والإيماء والإشارة في خفاء، وقال مفسرا لكلامه إنّ حديث العلماء السّابقين عليه يفتقر إلى الوصف الدّقيق والتّفسير المقنع! هذا إذا سلّمنا بجواز محاسبة السّكاكي على تركه لمعجم الجرجاني، وسلّمنا أنّ السّكاكي لم يستعمل تلك الكلمات في الإشارة إلى تلك "العوالم التّخييليّة الخلاّقة"؛ وليس.

وننهي مناقشة هذه الحجّة المعادة بملاحظتين؛ تتعلّق الأولى باستبعاد كلمات الفصاحة والبراعة والبلاغة من لائحة الكلمات الممثّلة لمعجم الجرجاني الّذي حوّله السّكاكي، وتتعلّق الثّانية بتوسيعه لتلك اللّائحة وفتحه لها بنقط الحذف دِلالة على حجم التّضييق والاختزال الّذي اقترفه السّكاكي حين حوّلها إلى مجرّد بيان، لا بل إنّ عبارة العمري تذهب أبعد في تهويل التّحويل الّذي قام به السّكاكي وتقول بوضوح إنّه حوّل"العوالم التخييلية الخلاقة التي يشير إليها معجم الجرجاني". والاستبعاد فعل تأويلي يلازم كلّ قراءة، لكنّه هنا مستعمل بتعسّف واضح: الإيهام بأنّ الجرجاني كان أسّس علم البلاغة وجعلها عامّة تشمل قسمين متكاملين وواضحين: نصف اللّفظ والصّورة، ونصف النّظم (وهو حجبٌ لكون كلمة البلاغة عند الجرجاني إنّما هي وصفٌ لبعض الكلام والمتكلّمين مثلها مثل البراعة والفصاحة)..وأنّ السّكاكي جعل المنظور النّظمي يهيمن وَيُفقّر القسم الأول. وهو تعسّف بيّن يسيء إلى الجرجاني قبل السّكاكي. أما تحويل السّكاكي "للعوالم التخييلية الخلاقة التي يشير إليها معجم الجرجاني" فلا ندري كيف يَقْدِر عليه؛ ولقد يُعْقَل أن يُفَقِّر ذلك المعجم نفسَه، ويستعمل ما ليس ملائما على أبعد تقدير، أمّا أن يستطيع تحويل ما يشير إليه من "العوالم التّخييلية الخلاقة"، فلا يمكن أنْ يُفهَم إلّا في سياق الرّغبة غير المنضبطة في تهويل ما قام به السّكاكي من تقليص. ولأنّ التّزوير -هو الآخر-لا يكون أبدا كاملا، فإنّ ما يقوله العمري عن المفتاح لا يلزم عنه ما يروم إثباته: إنّ تحويل تلك العوالم الواسعة الخلّاقة إلى بيان، تدلّ على أنه صيّرها جافّة وقاحلة لا مبتورة وناقصة!

خاتمة:

والخلاصةُ أنّ السّكاكي لم يحوّل الغرابة والعدول إلى بيان، ولم ينزّل البيان من المنزلة الّتي أحلّه فيها الجرجاني الّذي جعلَه نصفَ البلاغة، ولم يحوّل العوالمَ التّخييلية إلى مجرّد معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة، بالزّيادة في وضوح الدّلالة عليه والنقصان. والعمري يحتاج إلى إثبات صدق هذه الأحكام، ولا سبيل إلى ذلك بالاستناد إلى بنية المفتاح وعلاقة المفتاح بـ"أسرار ودلائل" الجرجاني، وبغيرهما من أعمال البيانيّين ممّن سبقوه. ثُمّ إنّه، وحتّى على فرض التّسليم بقيام السّكاكي بهذه التّحويلات، فإنّ ذلك لا يلزم عنه أيّ اختزال، فالتّحويل من كذا إلى كذا، وإنزال كذا من كذا إلى كذا تغييرٌ يمسّ صورة المحوّل ومرتبته على التّوالي، لا أكثر. ولنا عودةٌ، بعد المقالة الّتي تلي هذه، إلى البيان لتوضيح بعض المغالطات التي يُسْقِط فيها العمري طوائفَ قرّائه، خاصّة الطّلبة والتّلاميذ الّذين يصرّح أنّ مناقشته لزميله توسّعت لـ"صالحهم"!

***

البشير النحلي

...........................

المصادر والمراجع:

- ابن خلدون: المقدمة، تحقيق حامد أحمد الطاهر، دار الفجر للتراث- القاهرة، ط.1، 2004.

- أحمد مطلوب: البلاغة عند السكاكي، منشورات مكتبة النهضة- بغداد، ط.1، 1964.

- عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، ط. 1،1991.

دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000.

- محمد العمري: • البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، 1999.

المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017.

هوامش

(1) مفتاح العلوم، ص.524.

(2) بالتمييز بين المنطلق القرائي والتوثيقي انتقد العمري من كانوا أواخر الستينات "يفتون" بأن العرب لم يفهموا كتاب فن الشعر لأرسطو، ويستدلون على ذلك بترجمتهم للتراجيديا بالمدح والكوميديا بالهجاء!. أنظر: محمد العمري: البلاغة العربية، ص.223، 224، 225.

(3) مفتاح العلوم، ص.39.

(4) نفسه، ص.40.

(5) أنظر: البلاغة العربية، ص.5؛ وانظر: المحاضرة والمناظرة، ص. 11. ولمحمد العمري غيرة كبيرة على الطلبة والتلاميذ؛ ينهي نصحه لرشيد يحياوي بعرض ما يكتب على "من له قدم راسخة في البلاغة قبل أن ينشره" قائلا: «فالانتصار على العمري، أو على من هو أعلم من العمري، أو أظلم (إن تصور أن نقدي لكتابه ظلم) لا قيمة له أمام إفساد عقول الأجيال بكلام يجافي الحقيقة «؛ نفسه، ص. 180.

(6) المحاضرة والمناظرة، ص. 17.

(7) نفسه، ص.13، 14، 15، 16. وانظر صيغة "المؤسس الحقيقي" في الهامش 1 من الصفحة 14.

(8) - أسرار البلاغة، ص.4-5.

(9) - دلائل الإعجاز، ص.3.

(10) مقدمة رشيد رضا لكتاب: أسرار البلاغة؛ ضمن مقدمة محمود محمد شاكر لنفس الكتاب بتحقيقه، ص.11.

(11) نفسه، نفس الصفحة.

(12) نفسه، نفس الصفحة.

(13) المحاضرة والمناظرة ص.17.

(14) يقول ابن خلدون مثلا: «ثمّ لم تزل مسائل هذا الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن مخض السكاكي زبدته وهذّب مسائله ورتّب أبوابه، على نحو ما ذكرناه آنفا من التّرتيب، وألّف كتابه المسمّى بالمفتاح في النّحو والتّصريف والبيان، فجعل هذا الفنّ من بعض أجزائه «!، أنظر: المقدمة ص.708.

(15) المحاضرة والمناظرة ص.17.

(16) يقول اللساني المدقّق أحمد المتوكّل في سياق توضيحه لأنواع الإسقاط ودرجاته واتجاهاته: «أما إسقاط التقويم فأن تنتقد نظرية ما سلبا أو إيجابا إنطلاقا من نظرية أخرى«، أنظر: المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي، الأصول والامتداد، ص.169.قلتُ: وأقبح من إسقاط التقويم الذي يوضحه أحمد المتوكل، أن يكون ذلك الإسقاط معتمدا تفاريق أفكار لا تعود لأي نظرية محددة، وهو ما يجعل أحكامه مطلقة ودون ضفاف، أي أقوالا عامية ضارة من كل وجه.

(17) المحاضرة والمناظرة، ص.17.

(18) البلاغة العربية، ص. 487.

(19) نفسه، ص. 487.

(20) نفسه، ص. 488.

(21) من الآراء التي تتكرر عند الكثيرين ممن يستند إليهم العمري والتي يُعبّر عنها أحيانا بطرقٍ غاية في السخف ما ورد في كتاب "البلاغة عند السكاكي": «ولكن السكاكي لم يأخذ برأي عبد القاهر –كما يبدو- مع أنه تسلط على كتابيه «أسرار البلاغة« و«دلائل الإعجاز « وجردهما من النزعة الأدبية، وأحالهما هياكل بتقسيماته وتبويبه« (التشديد مني). أنظر: أحمد مطلوب: البلاغة عند السكاكي، ص. 145.

(22) المحاضرة والمناظرة، ص.90.

(23) نفسه، ص.18.

(24) انتبه العمري نفسه إلى ذلك وألح عليه في سياق آخر. ومما قال: «قد يجد بعضنا صعوبة في تعميم المفهوم الانزياحي على كل الصور البلاغية التي يضمها علم المعاني والبيان«، أنظر: البلاغة العربية، ص.494.

(25) يقول في أسباب بعد التشبيه وغرابته: « وكلما كان التركيب، خياليا كان أو عقليا، من أمور أكثر كان حاله في البعد والغرابة أقوى «، وقال أيضا، في سياق قبول التشبيه ورده، «هذا وإنك متى تفطنت لأسباب قرب التشبيه وتقارب مسلكه، وكذا لأسباب انخراطه من القبول في سلكه، تفطنت لأسباب بعده وغرابته، ولأسباب رده لرداءته، ولن يذهب عليك أن مقرب التشبيه، متى كان أقوى، كان التشبيه أقرب، وكذا مبعده، متى كان أقوى كان أغرب، وجرى لذلك في شأن قبوله ورده، على نحو مجراه في شأن قربه وبعده «أنظر: مفتاح العلوم، ص.461،462،463 على التوالي.

(26) مفتاح العلوم، ص.542-543.

(27) نفسه، ص.544.

(28) المحاضرة والمناظرة، ص.18.

(29) نفسه، ص.18.

 

في المثقف اليوم